بقوة أجهزة الدولة التنفيذية..ميليشيات ترث “داعش” وتستولي على عقارات في الموصل
يفرض الحشد الشعبي حظراً على بيع العقارات وشرائها، في سهل نينوى ومناطق داخل مدينة الموصل من دون علمه وموافقته المسبقة. هذا التحقيق يشرح تفاصيل هذه الهيمنة وتداعياتها ...
يفرض الحشد الشعبي حظراً على بيع العقارات وشرائها، في سهل نينوى ومناطق داخل مدينة الموصل من دون علمه وموافقته المسبقة. هذا التحقيق يشرح تفاصيل هذه الهيمنة وتداعياتها ...
نوزت شمدين – صحافي عراقي/ يونيو
تعاملَ المداهمون بخفة مدرّبة مع أهدافهم المحددة داخل دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر من مدينة الموصل. توزعوا من دون سابق إنذار على شُعَب الأضابير والحسابات والتدقيق والأرشيف معطلين حركة العمل ليوم الثلاثاء 26 آذار/ مارس 2019.
ما هي إلا دقائق حتى تبعهم فريق متخصص من عناصر التحقيق القضائي وجهاز الأمن الوطني، فتشوا في أوراق الدائرة العقارية وأمروا بتقييد مدير الدائرة فرحان حسين طه، ثمّ ساقوه في عربة مصفّحة إلى سجن التسفيرات، تمهيداً لمحاكمته بتهم تتعلق بالتزوير.
بحسب هيئة النزاهة، فإن المدير السابق لدائرة التسجيل العقاري (الطابو) فرحان حسين طه، تلاعب بمستندات عقارية لأراضٍ تابعة للدولة، مستخدماً أختاماً مزورة بمعاونة موظفين من الدائرة نفسها. وصدر بحقه لاحقاً حكم قضائيّ بالسجن 5 سنواتٍ وشهراً واحداً بعد محاكمة سريعة وفق المادة (340) من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بإحداث الموظف أضراراً بأموال عامة موكلة إليه.
المثير في أمر الدعوى وبخلاف دعاوى مماثلة يحضر فيها كبار المحامين للترافع عن موكليهم، لم يوكّل الرجل من يدافع عنه، بل استسلم لمجريات التحقيق دون حتى أن يواجهها ولو بتصريح إعلامي. وعمدت المحكمة بحسب قانون المرافعات العراقي إلى انتداب محامٍ من الدولة حضر للدفاع عنه بنحو صوري فقط.
يقول محامي الانتداب الذي طلب عدم ذكر اسمه: “لم أطلع على ملف موكّلي إلا خلال الجلسة التي نُطق خلالها بالحكم ضده”.
غياب محامٍ مختص للدفاع عن “طه” أثار أسئلة كثيرة. فهو مدير دائرة حكومية هامّة، يتقاضى مرتّباً يزيد عن مليونين ونصف المليون دينار(ألفي دولار أميركي) شهرياً فضلاً عن المخصصات. كما أنه متّهم أصلاً بالتلاعب بأملاك قيمتها تصل إلى أربعين مليون دولار أمريكي. وبحسب من يعرفه، فإنه رجلً ميسور الحال لم يكن يعجز عن دفع توكيل فريق من المحامين.
قضية طه بقيت محجوبة عن الإعلام، ولم يسمح لنا بالإطلاع على أوراقها، على رغم محاولاتنا المتكررة، لمعرفة قصة الأربعين مليون دولار أميركي والعقارات المرتبطة بها. كما أن التواصل مع المحامي المنتدب للحصول على معلومات إضافية لم يجدِ نفعاً.
كان محامي الانتداب خائفاً عند لقائنا به. وعلى رغم ورود اسمه في ملف القضية، إلا أنه شدد على عدم ذكر اسمه في هذا التحقيق. كل ما قاله جاء ترديداً للعبارة نفسها: “لست مستعداً لأخسر حياتي من أجل 30 ألف دينار (24 دولاراً أميركياً)”، قاصداً، المبلغ الذي تخصصه المحكمة للمحامين المنتدبين بدلَ أتعاب. وهم في العادة يحضرون بنحو صوري فقط من دون أن يكون لهم أي دور أو تأثير.
“تحول دور الحشد” من فصائل لمواجهة التنظيمات الارهابية وضبط الأمن في نينوى إلى فصائل ذات نفوذ اقتصادي– سياسي بفضل مكاتبها الاقتصادية، إن ذلك التحول وتلك الاستحواذات العقارية والاستثمارات في ثاني أكبر محافظة عراقية “سيمنحها القدرة على تمويل نفسها لسنوات مقبلة حتى إذا انقطع عنها التمويل الحكومي، وبالتالي إدامة تأثيرها السياسي وفرض إرادتها في بيئة ليست بيئتها”.
بعد جولة اتصالات مع محامين يعملون في أروقة محاكم استئناف نينوى وصلنا إلى المحامي (أ.ب) الذي كان على وشك أن يتوكل عن مدير التسجيل العقاري السابق، لولا مكالمة هاتفية تلقاها من شخص قال إنّه يمثل المكتب الاقتصادي التابع لفصيل “عصائب أهل الحق” وهو أحد الفصائل التابعة للحشد الشعبي الشيعي المتواجدة في الموصل.
هذا المحامي ذكر أن فحوى الاتصال كان عبارة عن تهديد بصيغة رجاء. “لقد حذّروني من تمثيل فرحان حسين طه أو تداول أي معلومات تخص قضيته. علمتُ لاحقاً أنّ كثراً من زملائي تلقوا مكالمات مشابهة فامتنعوا عن الترافع لمصلحته”.
وبعد تطمينات له هو الآخر بعدم إيراد إسمه قال إن “مدير التسجيل العقاري كان وقّع (بالاشتراك مع موظف آخر) على معاملات عدة تتعلق بأراضٍ تابعة للدولة تم تمليكها لأشخاص مقابل مبالغ زهيدة. بعد ذلك حصلت عملية تقطيعها وبيعها بمبالغ كبيرة مجموعها يصل إلى 40 مليون دولار”.
وأضاف: “الأشخاص الذين حصلوا على الأراضي ببدلات ورسوم تسجيل زهيدة، يمثلون المكاتب الاقتصادية التابعة لفصائل الحشد الشعبي في نينوى أو يمثلون شخصيات قريبة منها وتتعامل معهم. ومدير التسجيل العقاري كان متورطاً معهم”.
محامٍ آخر طلب عدم نشر اسمه، مطلّع على ملف القضية، قال إن مدير الطابو السابق “لم يكن لديه خيار سوى قبول ما يفرض عليه. لقد دفع الثمن بمفرده في نهاية الأمر من دون أن يسمحوا لأحد بالدفاع عنه حتى لا تظهر أسماء المتورطين بملفات الفساد العقارية”.
لمبنى التسجيل العقاري في الجانب الأيسر من الموصل المعروف بـ”طابو الزهور” قصة طويلة مع عمليات سرقة وإخفاء الملفات أو تزويرها والتلاعب بها، منذ سقوط النظام السابق 2003 ولغاية اليوم.
طوال 12 عاماً تعرّض هذا المبنى لاستهداف الجماعات المسلحة وبقي مغلقاً ولم تفتح أبوابه إلا لأسابيع قليلة قبل 2014.
وخلال فترات العمل البسيطة تلك قتل اثنان من المديرين فيه على يد مجهولين، واغتيل موظفون وهدد آخرون وترك بعضهم البلاد وسرقت آلاف الأضابير العقارية وحجج الملكية منه.
وما أن سيطر “داعش” على المدينة منتصف عام 2014 حتى استولى على “إمبراطورية العقارات” فاختفت أضابير وحجج ملكية لنحو 25 ألف عقار تعود في معظمها لمسيحيين مهجّرين ولمواطنين مطلوبين من التنظيم جلهم منتسبون للشرطة والجيش العراقيين ومسؤولين محليين وبرلمانيين، كانت شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية كشفت عن أرقامها بالتفصيل في تحقيق سابق.
عمليات التلاعب والتزوير في “طابو الزهور” لم تتوقف بعد إنهاء سلطة “داعش” وسيطرة فصائل “الحشد الشعبي” والمكاتب الاقتصادية (أو ما يعرف باللجان الاقتصادية) المرتبطة بها على مفاصل المدينة.
في العامين الأخيرين لحق بالمديرين السابقين – لكن إلى السجن هذه المرة- فرحان حسين طه والمدير الآخر الذي عين محله، لكن أطلق سراحه خلال أيام بتدخل من الحشد الشعبي، مع موظفين آخرين تم التحقيق معهم في اختفاء وثائق أو تزويرها.
بحسب النائبة عن محافظة نينوى بسمة بسيم (وهي من المطالبين بغلق المكاتب الاقتصادية للحشد الشعبي) فإن “هناك أكثر من 9 آلاف إضبارة عقارية مفقودة”.
الداخل إلى المبنى يقرأ الارتباك والتذمّر على وجوه الموظفين. يقول أحدهم: “طاقمنا الوظيفي قوامه 55 شخصاً يتعامل حالياً مع 245 ألف إضبارة عقارية وأكثر من 70 ألف قرار نقل ملكية قضائيّ غير مفعّل، مع عشرات الآلاف من المواطنين الذين يريدون الحصول على صور قيد عقارية جديدة… إنها مهمة ثقيلة جداً، وبوجود الميليشيات التي تحكم الموصل على الأرض، صارت المهمة مستحيلة”.
يضيف الموظف إن اللجان الاقتصادية التي شكلتها الفصائل الشيعية التي سيطرت عملياً على الملف الأمني في المدينة، وأبرزها “عصائب أهل الحق” و”سرايا الخراساني” و”اللواء 30″ الشبكي و”لواء بابليون” و”كتائب حزب الله”، وغيرها من الميليشيات التي ظهرت بعد تحرير الموصل منتصف 2017 وتوزعت داخل المدينة “استغلت العقارات التي كانت في حوزة “داعش” خصوصاً تلك التي لم يعد إليها مالكوها الأصليون، وحولتها إلى استثمارات لمصلحتها أو مقرات ومكاتب لها”، وأن “هذا الأمر زاد من حالة الفوضى”.
وأشار إلى أن فصيل”عصائب أهل الحق” كان يملك حصة استثمارية فيما تعرف بجزيرة الموصل السياحية في منطقة الغابات وسط الموصل، والتي غرقت فيها عبارة تقل أكثر من مئتين شخص في 21 آذار 2019، مات نصفهم، معظمهم أطفال ونساء.
ولفت إلى أن هذا الفصيل وغيره، يفرضون نسباً على المشاريع وإلا تمنع منح رخصها. وهو من الأسباب الرئيسية التي أبعدت المستثمرين من سوق نينوى والموصل الواعدة، بحسب تعبيره.
وذكر النائب عن محافظة نينوى عبد الرحيم الشمري أن برلمانيين أيضاً يملكون مكاتب اقتصادية في الموصل، ويحصلون على عقود مشاريع واستثمارات لمصالحهم الشخصية، أحدهم حصل على (100) مليار دينار مقابل توفير آليات لدوائر حكومية. لم يورد اسمه صريحاً لكنه قال: “هو من محافظة مجاورة ويلقب بالزعيم”. وهي إشارة واضحة إلى عضو البرلمان أحمد عبد الله الجبوري أو المعروف بالزعيم أبو مازن.
وتحدث النائب الشمري عن برلماني آخر قال إنه حصل على مبلغ 9 مليارات دينار لمشروع ماء بشماية. وأكد الشمري أنه بدأ جمع وثائق رسمية تدينهم مع آخرين وسيقدمها لدائرة النزاهة حال إكمالها.
المدير السابق فرحان حسين طه، بحسب مصادرنا “وقع ضحية صراع الأجهزة والفصائل المتحكمة بالموصل”. إذ صدر قرار من وزارة المالية بنقله إلى دائرة رعاية القاصرين مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019. لكن وقبل تنفيذ القرار اعتقل من قبل الأمن الوطني وسيق إلى المحكمة.
ولسد الفراغ الإداري كلّفت وزارة المالية موظفاً آخر بتسلّم مهماته، لكن الأخير “تلقى تهديدات مباشرة بالقتل إذا ما زاول عمله”، بحسب زميل عمل معه، وبعدها بأيام ورد من الوزارة كتاب يقضي بنقله إلى دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيمن من الموصل.
ما هي إلا أيام قليلة حتى صدر قرار جديد بتعيين محمد حسين الأعرجي مديراً للطابو، وهو من مدينة تل عفر مقرّب من فصائل الحشد الشعبي.
يقول موظف في طابو الزهور بدرجة مدير شعبة، إن قرار التعيين كان صدمة له ولزملائه، خصوصاً أن الأعرجي لا يتمتع بأي خبرة إدارية وهي من شروط تولي إدارة التسجيل العقاري، وصِفته الوظيفية قبل تعيينه كانت “مساعد مسّاح” لا غير. وأضاف: “كان ذلك بضغوط من الحشد الشعبي”.
وتابع: “خلال الأشهر السبعة التي كان فيها الأعرجي مديراً للدائرة استملك قادة في الحشد مساحات كبيرة من الأراضي تابعة للدولة، تمّ تقطيعها وبيعها أو تأجيرها لحسابهم الشخصي”.
وكما حدث مع سلفه فرحان حسين طه، وفي مشهد يكاد يكون مستنسخاً، داهمت قوة من جهاز الأمن الوطني مبنى الطابو العقاري يوم الخميس 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 واعتقلت الأعرجي مع موظفين آخرين.
سيق الرجل إلى المحاكمة وخلّف وراءه عشرات الأسئلة، تمت الإجابة سريعاً على أهمها، “كيف يعيّن الحشد الشعبي شخصاً ثم يسمح لأجهزة الأمن بزجّه في السجن. وهل عجزت عن حماية رجلها؟”. الجواب تمثل في أن أفرج عن الأعرجي بقرار قضائي أشار إلى عدم كفاية أدلة تدينه.
يوضح مدير شعبة إدارية في الطابو أن الاعتقالات التي طاولت مديرين وموظفين، سببها يرجع إلى تعدد القوى الأمنية في محافظة نينوى. ويزيد أن “جهاز الأمن الوطني (تابع لوزارة الدفاع) لا يجرؤ على اعتقال قياديين في الحشد الشعبي فيلجأ إلى اعتقال موظفين من الطابو محسوبين عليه”.
وعن تعدد الأجهزة، يشرح شرطي يحرس مبنى الدائرة منذ إعادة افتتاحها بالقرب من حيّي المالية والضباط، كيف اتخذ جهاز الأمن الوطني مقرّاً له داخل المبنى، بحجّة التدقيق الأمني، ثم لحقت به دائرة الاستخبارات وافتتحت مقراً لها، في حين امتدت أيدي فصائل الحشد الشعبي وأجهزته الأمنية إلى كافة الشعب الإدارية.
يقول الشرطي إن الأجهزة الثلاثة كانت تحاول فرض سلطتها، تتصادم أحياناً وتنسق أحياناً أخرى، لكنها جميعاً كانت “بوابة للفساد”. ويتابع: “لا تستطيع المراجع الحصول على أي ورقة رسمية من الطابو إلا بالمرور عبرها، ودفع رشى بحدود المئة دولار لتسهيل منح الموافقة الأمنية على كل معاملة”.
ويواصل: “هذا كله قبل أن يتصادم عناصر الاستخبارات مع عناصر الأمن الوطن (كلاهما يتبع وزارة الدفاع) ويتدخل نائب عن محافظة نينوى (بشّار العباسي) وينقل الأمر إلى مراجع الجهتين، فتم نقل مقر جهاز الأمن الوطني إلى خارج الدائرة”.
وبرأي مدير الشعبة في الطابو، فإن الحشد الشعبي ضحّى بفرحان حسين طه “كبش فداء” عندما اعتقلته عناصر من جهاز الأمن الوطني، بل منعه من توكيل محام للدفاع عنه. أما الأعرجي، فالحشد متمسّك به، والدليل على ذلك أن المحكمة أصدرت قراراً بخروجه بكفالة مالية، على رغم حجم التهمة الموجهة بحقّه. “إنه لأمر غريب أن يخلى سبيل موظف حكومي بكفالة مالية، على رغم أنه متهم ببيع أراض تقدر قيمتها بملايين الدولارات”.
العقارات التي تم التلاعب بسجلاتها في مدينة الموصل تقع في معظمها في منطقة اختصاص طابو الزهور- الجانب الأيسر. وخلال تقصينا عن أرقامها، تبين أن الأملاك العامة منها هي أراضٍ كانت في الأصل ملكاً لمواطنين من الموصل استحوذت عليها الدولة إبّان حكم صدام حسين، مقابل تعويضات مالية منحت لهم. وقد خصصها النظام آنذاك لإنشاء مشاريع ذات منفعة عامة كالمدارس والمتنزهات وسواها. لكن وبسبب ظروف حرب الكويت 1991 والحصار الذي تلاه لغاية 2003 لم تنفذ هذه المشروعات.
من هذه الأراضي على سبيل المثال القطع 2 و8 و9 في مقاطعة 39 نينوى الجنوبية والقطعة 7/149 في مقاطعة 38 في منطقة يارمجة الشمالية والقطعة 7/149 والقطعة المرقمة 1/38 في مقاطعة 41 في منطقة نينوى الشمالية، وهي بمساحات متباينة. وهناك أيضاً قطع أراضٍ تابعة للدولة في حي المهندسين الراقي، تحديداً عند جامع الطالب باتجاه الجسر الخامس، وكذلك في حي الشرطة السكنيّ المجاور، وفي معسكر الدفاع الجوي بين منطقتي يارمجة وسومر في الجهة الشرقية.
في العامين الماضيين أعيدت هذه الأراضي إلى المالكين القدماء بمساعدة قيادات في “الحشد الشعبي”، وتم تقطيعها ثم فرزها وبيعها، على أنها ملك خاص.
مسّاح الأراضي المتقاعد أبو زياد، تحدّث عن الأراضي التي تم تزوير ملكيتها في الموصل مستنداً إلى خبرة نحو أربعة عقود كاملة في ذرع الأراضي. يقول: “إنها ملك للدولة… المالكون القدماء قبضوا أقيامها كاملة. لكن الموظفين في الطابو أخفوا الأوراق الأصلية واستخرجوا قيودا جديدة لصالح المالكين القدماء، ثم بيعت كمحاضر سكنية بمبالغ وصلت إلى مليون دولار ثمناً للقطعة الواحدة”.
يشير أبو زياد في حديثه إلى نفوذ الفصائل المسلحة، قائلاّ: “لقد قمت بنفسي بمسح أرض في منطقة الرشيدية وتحديدها، وهي أرض تابعة للدولة، سهّل قادة من “عصائب أهل الحق” أمر بيعها”.
هذا يطابق ما أشار إليه موظف رفيع في التسجيل العقاري الأيمن للموصل، قال لنا إن المكاتب الاقتصادية التابعة للحشد (أكثرها فعالية تلك التابعة لفصيل “عصائب أهل الحق”) قامت فور تحرير الموصل بجردٍ كاملٍ لعقارات الدولة في عموم نينوى والموصل تحديداً.
“لقد اتصلوا بكل ورثة العقارات التي استملكتها الدولة ولم تؤشرها في السجلات العامة، ومن خلالهم تم استصدار معاملات جديدة وبيعت العقارات”.
يشدد الموظف على أن التحقيقات الأمنية والقضائية انتهت بتقديم “أكباش فداء”، كما حدث مع مدير الطابو الأسبق فرحان حسين طه. أما فصائل الحشد، فهي على حد وصفه الشريك الخفي “لا أثر لها في عمليات التزوير ولا أحد يجرؤ على الاصطدام معها”.
خلال تقصّينا عن عمليات تزوير طاولت الأراضي العامة التقينا يونس ع. الذي أطلعنا على حجج ملكية لقطعة الأرض المرقمة 149 مقاطعة 38 يارمجة الشمالية. كانت هذه الأرض ملكاً لعائلة يونس لكن تم استملاكها من قبل الدولة 1988، وفوجئ بأن جمعية إسكان يطلق عليها “أم الربيعين” قامت بتقطيعها وبيعها سنة 2012.
يونس يحاول تتبع خط من سبقوه للحصول على حقوق غير مشروعة، فهو يقرّ بأن الأرض ملك للدولة وبأن والده قبض ثمنها، لكن مع ذلك يحاول تجريب حظه لعلّه يحصل على شيء كما فعل غيره. ويبرر ذلك بالقول: “الدولة اشترتها منا بثمنٍ بخس، واليوم صار سعرها أعلى بكثير”.
اللافت أننا حين تتبعنا أعمال “جمعية أم الربيعين” التي ذكرها يونس وجدنا أن رئيستها نجاة حسين الجبوري كانت مرشحة في الانتخابات البرلمانية الفائتة عن “القائمة الوطنية”، وتم إصدار أمر قبض بحقها في آذار 2018 بتهمة الإرهاب، وفق المادة 4 أولا من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.
مصدر في محكمة التحقيق الخاصة بقضايا الإرهاب قال إن “رئيسة جمعية “أم الربيعين” متّهمة بالتّجارة بالعقارات لمصلحة تنظيم “داعش” خلال فترة سيطرته على الموصل بعد 2014، ولتبييض سيرتها رشحت في الانتخابات البرلمانية في قائمة الوطنية التي يتزعمها البرلماني ووزير الزراعة السابق فلاح الزيدان، وأدارت حملتها الانتخابية وهي في سجن التسفيرات في الموصل على أمل أن ينقذها الفوز بمنصب برلماني من حبل المشنقة. وأثار انتشار صورها الدعائية في شوارع الموصل الرئيسة في ربيع 2018 موجة استياء شعبية وانتقاد لإجراءات مفوضية الانتخابات التي سمحت لمرشح متهم بالإرهاب بخوض الانتخابات.
يتابع المصدر أن الجبوري “كانت تبيع العقار السكني أو الأرض ذاتها إلى أشخاص وحين تُطالَب برد الأموال أو تسوية وضع العقارات تقول إنها منتمية لـ”عصائب أهل الحق” المعروفة بسيطرتها الأمنية في الموصل، وكان هذا يبدو واقعياً بالنسبة للكثيرين بسبب ظهورها المعتاد برفقة مجموعة مسلحين”.
وعلى رغم أنه لا يوجد أمر حاسم حيال انتمائها للعصائب من عدمه، لكن من الجلي أنها كانت مستفيدة من غطاء هذا الفصيل لتنفيذ عمليات بيع وشراء عقارية. وهو الأمر الذي أكده وزير الدفاع السابق والنائب الحالي عن نينوى خالد العبيدي، وأوضح أن رتلاً من السيارات كان يرافقها خلال تجوالها بين الدوائر والمؤسسات الحكومية، لتسهيل إجراءات متعلقة بتجارتها الخاصة ببيع عقارات في الموصل وتأجيرها. وذكر بأن قيادة العمليات في نينوى كانت على علم بذلك “لكن القوات المتنفذة (كما يصفها متجنباً ذكر اسم الحشد الشعبي) تملك زمام الأمور هناك”.
في الجانب الأيسر للموصل وأيضاً ضمن نطاق عمل طابو الزهور رصدنا أرضاً تقدر مساحتها بـ180 دونماً في المنطقة الصناعية، تم تحييدها وكتب على لافتة رفعت هناك “أراض تابعة لجمعية النور الإسكانية”، لكنها في حقيقة الأمر وكما أكد موظف حقوقي في الشعبة القانونية في بلدية الموصل، ملكية الأرض تعود إلى الدولة وهي بالأصل مخصصة للمشاريع الصناعية ويتم تأجيرها عن طريق المساطحة لعقود تمتد لأكثر من 20 سنة يحق للمستثمر خلالها التصرف بالعقار، ومن ثم يؤول مع المشيدات إلى عهدة الدولة مجدداً.
لكن “أياً من ذلك لم يحدث هنا” يؤكد الموظف، على رغم أنها من الأراضي المميزة، إذ تقع على الشارع العام الممتد بين المنطقة الصناعية ومقبرة التلفزيون من جهة حي الانتصار.
في المنطقة ذاتها، رصدنا حياً سكنياً كاملاً قائماً في أرض مساحتها نحو 200 دونم، تابعة للدولة تفصل بين حي الكرامة والمنطقة الصناعية، كانت بلدية الموصل تؤجرها كساحات لتخزين وبيع حديد التسليح، علماً أنه لم تشهد الموصل بيع أي أراض تابعة للدولة بموجب قانون بيع وإيجار أموال الدولة.
“ما يحدث أنه يتم الاستيلاء عليها وبيعها في وضح النهار سواء للأفراد أو الجمعيات بعد التلاعب بالأوراق والسجلات في دائرة التسجيل العقاري”، يقول موظف الشعبة القانونية في بلدية الموصل.
للعقارات الخاصة التي تم التلاعب بأوراقها وبيعها في “طابو الزهور” قصة مختلفة عن عقارات الدولة. ويعود معظمها بحسب سماسرة قابلناهم، إلى جمعيات سكنية أو إلى مسيحيين مهجّرين كان تنظيم “داعش” استولى على أملاكهم خلال فترة سيطرته على الموصل، ولم يعودوا إليها بعد تحرير المدينة. كما أن جزءاً منها يعود إلى متّهمين بالتعاون مع التنظيم لم يتمكنوا من الاعتراض بسبب ملاحقتهم أمنياً.
هذه العقارات مشغولة بمعظمها الآن من قبل المكاتب الاقتصادية التابعة للحشد الشعبي ومنها عقارات بيعت لصالح الحشد أو لأشخاص مرتبطين به.
المكتب الاقتصادي التابع لـ”عصائب أهل الحق” نفسه، ويقع بالقرب من مطعم “لحم بعجين الجندول” في الجانب الايسر للموصل، وضع يده على أراضٍ كانت لجمعية تعاونية “الحدباء العقارية”، على رغم أنها وزعت بطريقة القرعة على مواطنين دفعوا أقيامها وينتظرون منذ سنوات استلامها للتصرف بها، منهم ثلاثة أشقاء هم ورثة السيدة نجاة ن. التي توفيت قبل نحو عامين. ذكروا أنهم لا يستطيعون إثبات حق والدتهم في ملكية أرض سكنية (200 متر مربع) ونقلها إلى ذممهم، “لأن العصائب يمنعون أي إجراء يتعلق بأرضنا أو أي أرض أخرى ضمن هذه المنطقة”.
أراضٍ أخرى لجمعية “إسكان موظفي البلدية” وضع الحشد الشعبي يده عليها. الجمعية كما توصلنا من خلال متابعة ملفها أسّسها شخص يدعى أحمد سعدي مهدي.
مصدر على صلة بمباحثات بين أحمد سعدي مهدي، وبين قيادي في “اللواء 30” أو لواء الشبك التابع للحشد الشعبي، كشف أن مهدي دفع مبلغ مليار ومئتي مليون دينار عراقي (نحو مليون دولار)، مقابل أن يسمح له الحشد بتسوية الأرض (فرزها وتقطيعها وتأشير الطرق والأرصفة والخدمات ومجاري الماء وخطوط الكهرباء). وتابع: “ما حدث أنهم استلموا منه المبلغ وبعدها بفترة وجيزة عادوا ومنعوه من الاقتراب من الأرض وإحداث أي تغيير فيها”.
وعلى بعد حي سكني واحد فقط وتحديداً خلف منشأة الكندي (منشأة للتصنيع العسكري في عهد النظام العراقي السابق) قامت جمعية تدعى “الأسرة الصناعية” في 2010 بتقطيع أرض زراعية وبيعها للمواطنين مع وعود بتغيير جنسها إلى سكني وربطها بالخدمات.
لكن منذ تحرير الموصل في منتصف 2017 تماطل الجمعية في تنفيذ وعودها وطالبت كل مشترٍ بدفع مبلغ قدره 4 آلاف دولار أمريكي.
والسبب بحسب أحد مالكي سندات واحدة من تلك القطع، أن “الحشد الشعبي يمنع إجراء أي تغيير على العقارات في المنطقة إلا بعد دفع مبالغ مالية، فترجع الجمعية السكنية إلى المشترين لجمع الأموال مدّعية أنها نفقات توفير الخدمات”.
أراضٍ أخرى واجهت المصير نفسه يملكها مواطنون من التركمان السنّة في شمال المدينة، في مناطق الكَبة وشريخان وقره قوينلو الشرقية والغربية والرشيدية.
يقول الأهالي هناك إن الفصائل النشطة وهي كل من “عصائب أهل الحق” و”سرايا الخراساني” و”كتائب حزب الله العراقي”، صادرت الأراضي الزراعية وحلت محلّ المالكين، وهي تقبض وارد محاصيلها من المزارعين منذ ثلاث سنوات.
وطوال أسابيع تواصلنا مع المسؤولين الإداريين في الموصل، ومع مسؤولين في بلدياتها، للاستيضاح منها عن دو المكاتب الاقتصادية للحشد وعن دقة المعلومات المتعلقة باستيلائها على أراضٍ، لكنها جميعا رفضت الرد.
أبعد من ذلك، يفرض الحشد الشعبي حظراً على بيع العقارات وشرائها، في سهل نينوى ومناطق داخل مدينة الموصل من دون علمه وموافقته المسبقة. يشمل الحظر إجراء أي تعديل على العقار من قبل صاحبه كالترميم أو التوسيع او الهدم. ويمتد على مجمل سهل نينوى بما فيها المناطق المسيحية وإلى الموصل، ومن ضمنها أحياء كالحدباء شمالاً.
هذا يشبه بحسب الباحث في شؤون الأقليات نعمت صلاح ما كانت تفعله قوات البيشمركة في المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان ونينوى بموجب المادة 140 من الدستور العراقي. إذ لم تكن تسمح لأي شخص عربي يسكن تلك المناطق (سنجار، تلكيف، الحمدانية، الشيخان، فايدة وأجزاء من سهل نينوى التي فيها غالبية شبكية شيعية) بإحداث أي تغيير في عقاره الخاص.
يقول نعمت صلاح إن فصيل “اللواء 30” في سهل نينوى، تعامل بذلك الأسلوب مع غير الشبك الساكنين في سهل نينوى، وميليشيات شيعية استولت على أراضٍ لمواطنين مسيحيين وسنّة بحجج مختلفة، محذّراً من “تفاقم الاحتقان الطائفي وتحوله إلى عنف مسلّح”، مذكراً بممارسات الجيش العراقي في الموصل إبان حكم نوري المالكي والتي مهدت الطريق لدخول “داعش”.
نافع عبد القادر (اسم مستعار)، مواطن من مدينة الموصل جرب حظه العاثر في بيع أرض سكنية يملكها في سهل نينوى مطلع 2019. واقتصرت عملية البيع والشراء بين الطرفين على عقد مكتوب خارج التسجيل العقاري. وحين بلغ ذلك الحشد تم اعتقاله.
يروي نافع كيف تم اقتياده، بسيارة للحشد وهو في حالة ذهول وخوف شديدين، إلى مقر دائرة الأمن الوقائي للحشد الشعبي في منطقة الغابات (وسط الموصل على ضفة نهر دجلة وهي منطقة سياحية). وقال إن المكان الذي اعتقل فيه كان قبل 2003 دار ضيافة لوطبان ابراهيم الحسن الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي السابق صدام حسين (توفي في المعتقل سنة 2015 إثر نوبة قلبية).
تعرض نافع للتهديد هناك. وأكد أنهم كانوا سيلفقّون له “التهمة الجاهزة إياها”. ويقصد تهمة الإرهاب المنصوص عليها في المادة رقم 4 من قانون الإرهاب 13 لسنة 2005. ويكمل: “تخلّيت تحت الضغط عن فكرة بيع العقار ولجأت عشيرتي إلى وساطات كي يطلق سراحي ودفعت مبلغ عشرة آلاف دولار”.
يقول ناشط سياسي من نينوى، معلقاً على “تحول دور الحشد” من فصائل لمواجهة التنظيمات الارهابية وضبط الأمن في نينوى إلى فصائل ذات نفوذ اقتصادي– سياسي بفضل مكاتبها الاقتصادية، إن ذلك التحول وتلك الاستحواذات العقارية والاستثمارات في ثاني أكبر محافظة عراقية “سيمنحها القدرة على تمويل نفسها لسنوات مقبلة حتى إذا انقطع عنها التمويل الحكومي، وبالتالي إدامة تأثيرها السياسي وفرض إرادتها في بيئة ليست بيئتها”.
إنجز هذا التحقيق بمشاركة فريق نينوى الاستقصائي وبدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية وتحت إشراف كمي الملحم.