انجز هذا التحقيق بعد فترة قصيرة من مجزرة سبايكر، التي نفذها مسلحو تنظيم داعش عقب سيطرتهم على محافظة صلاح الدين، وفي ظل أجواء الرعب والقتال وانفلات الأمن وشح المعلومات وتهرب الجميع من المسؤولية. تعيد “NIRIJ” نشره في الذكرى السادسة لذلك الهجوم، للتذكير بالابادة الجماعية التي حصلت هناك وبالظروف التي رافقتها والقادة العسكريين والسياسيين الذين تسبب تقصيرهم في وقوع تلك “المجزرة”.
احمد الربيعي/ صحفي عراقي
أخطأت الرصاصات جسد عليّ الصكري، فبقي ممدّداً على الأرض، مموّهاً بخيوط الدم تسيل إلى جواره حتى غابت الشمس، يشيح بين الحين والآخر نظره خلسةً إلى عشرات الجنود الذين تم إعدامهم بشكل جماعي حتى كادت أنفاسه المتسارعة أن تفضحه.
“تمالكت نفسي بعد أن حضرتني صورة أمّي وزوجتي وأطفالي. لولا ذلك لما نجوت”، يقول.
هذا الجندي المتطوّع ذو الـ 23عاماً يعتبر نفسه أكثر الناس حظاً، وأقلّهم في الوقت نفسه. فبفعل الصدفة وحدها كتبت له النجاة من موتٍ مؤكد اقترب إلى مسافة الصفر.
لكن صرخات التوسل التي خرجت من أفواه رفاقه الجنود قبل لحظات من مقتلهم، وصلوات التشهّد الأخيرة، لا تنفك تعاود المرور في شريط ذاكرته كلما أغمض عينيه. “أكثر من سنة وهذه الصور تمنعني من النوم”، يقول بأسف.
حدث ذلك في 12 حزيران (يونيو) من العام الماضي أو “اليوم الكابوس” كما يسميه الصكري. اليوم الذي أعدم فيه تنظيم “داعش” حوالي 1700 جندياً عراقياً من قاعدة “سبايكر” الجوية شمالي غربي تكريت، رمياً بالرصاص.
“قبض علينا عناصر التنظيم من المناطق القريبة من القاعدة”، يقول الصكري. “بقينا مقيدين من الساعة الحادية عشر صباحاً حتى الخامسة عصراً دون طعام أو شراب، ثم نقلونا إلى منطقة العوجة، حيث قصور صدام سابقاً، وهناك بدأت حفلة الإعدامات الجماعية”.
كان هناك العديد من مجموعات “داعش” الملثّمة توزعت بعدد من المناطق داخل القصور، منها عند النهر ومنها قرب الوادي ومنها في منطقة مفتوحة. وكان الصكري من بين مجموعة الوادي، عددهم 150 بحسب تقديراته، أعدموا قريباً من الجسر على نهر دجلة الذي يربط تكريت بناحية العلم.
“عند حلول الظلام تحركت وحيداً نحو النهر. بقيت متخفيّاً لأيام عدة، ثم قطعته سباحةً دون أن أنظر إلى الوراء. تركت خلفي مئات الجنود دُفنوا بآلات الشفل في مقابر جماعية ودفنت تفاصيل المجزرة معهم”.
يوثّق هذا التحقيق من خلال شهادة علي الصكري وعدد من الناجين الآخرين، كيف أدى إهمال القيادة العامة للقوات المسلحة وقادة الجيش إلى وقوع 2500 جندياً عراقياً أسرى بيد عناصر تنظيم “داعش”، قتل 1700 منهم بالرصاص بمشاركة متعاونين مع التنظيم من أبناء المنطقة.
ويوثّق على لسان ضباط من مختلف الرتب، حركة هروب القطعات العسكرية من جنوب الموصل (مركز محافظة نينوى) وصولا إلى تكريت (مركز صلاح الدين)، الأمر الذي أدى لانهيارٍ أمنيّ كامل، وتخبط منتسبي الوحدات العسكرية ووقوعهم في النهاية أسرى أو قتلى أو مفقودين.
إنهيار خط الصدّ الأول
ما أن مرت ساعات على إعلان “داعش” في العاشر من حزيران (يونيو) 2014 سيطرته الكاملة على مدينة الموصل حتى اندفعت وحداته المقاتلة نحو الجنوب وفي نيتها الوصول إلى بغداد.
كان تحركاً خاطفاً لم يكن بحسبان قادة الجيش العراقي، بدأ في الساعة الرابعة مساءً بالسيطرة على قضاء الشرقاط، حاجز الصدّ الأول الذي يفصل محافظة نينوى عن صلاح الدين. تابعت بعدها قوات “داعش” تقدمها جنوباً نحو مدينة بيجي وصولاً إلى تكريت التي احتلتها في اليوم التالي، فبات لا يفصلها عن العاصمة البلاد سوى 180 كيلومتراً فقط.
يروي مصدر، وهو أحد ضباط الاستخبارات بقيادة عمليات صلاح الدين لكاتب التحقيق كيف انسحبت القطعات العسكرية من مواقع الصدّ الأولى دون قتال. “كنا نسمع أصوات الهلع والصراخ على القبضات ولا نفهم شيئاَ مما يجري” يقول.
معظم العناصر المنسحبة كانت من الفرقة الرابعة، واحدة من 18 فرقة عسكرية تشكل الجيش العراقي، وتعمل بالتنسيق مع قيادة عمليات صلاح الدين المسؤولة رسمياً عن تأمين كافة أراضي المحافظة.
الضابط الذي كان يتلقى جميع الاتصالات والنداءات اللاسلكية من القطعات المنسحبة ويتابع حركتها، ذكر أن “داعش” دخل بيجي “من دون إطلاق ولو رصاصة واحدة”، كاشفاً أن قوة صغيرة فقط مكونة من عشر عجلات تابعت التوجه جنوباً نحو تكريت، المدينة التي تحكمها بنية عشائرية متينة، وينحدر منها الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين.
العقيد محمد عادل (طلب تغيير إسمه) من قيادة العمليات، يتابع سرد تفاصيل الهجوم. يقول إن “الإرهابيين دخلوا تكريت من أربعة محاور، وكان في استقبالهم عدد من الخلايا النائمة من أبناء عشائر البوعجيل والبوناصر وعشائر أخرى موالية لحزب البعث. سيطروا قبل كل شيء على سجن التسفيرات الواقع في وسط المدينة، وأطلقوا سراح مئات الموقوفين بقضايا إرهاب، فانضموا سريعاً إليهم”.
في حدود الساعة الثالثة مساءً من يوم الحادي عشر من حزيران (يونيو) 2014 سيطر “داعش” على مبنى مجلس المحافظة، ورفع علم “الدولة الإسلامية” فوق سطحه، بينما كان البث المباشر لكلمة المحافظ ينقطع، وتتوقف القناة الأرضية المحلّية عن الإرسال.
المكان الأكثر تحصيناً
بعد أكثر من عقد على تشكيل الجيش العراقي الجديد، ونحو مئة وخمسين مليار دولار صرفتها الحكومات المتعاقبة على عقود التسليح والتدريب، شاهد العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي مدينة تكريت تسقط من دون مقاومة، بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من سقوط شقيقتها الموصل. وعلى طول الخط الواصل بين المدينتين كانت قطعات الجيش تنسحب إلى قاعدة “الشهيد الطيار ماجد التميمي” المعروفة بإسم “سبايكر” شمالي غربي تكريت.
ليس من المعروف تماماً أسباب اختيار هذه الوجهة ملاذاً للانسحاب، لكن مصادر عسكرية قالت لكاتب التحقيق إن الهدف كان إعادة تجميع القطعات في “نقطة دفاعية واحدة” لإيقاف تقدم “داعش”.
توضح المصادر أن “سبايكر بحسب التقديرات آنذاك كانت المكان الأكثر تحصيناً”، فهي القاعدة الأكبر وسط وغربي البلاد، يتمركز فيها عدد من التشكيلات الهامة، وتضم كلية القوى الجوية ومدارج طيران، ما يعني إمكانية التموين الجوي في حالة التعرض للحصار.
لهذه الأسباب أيضاً، اتخذ الفريق الركن علي الفريجي، قائد عمليات صلاح الدين آنذاك، قراره بنقل مقر قيادة العمليات إلى داخل القاعدة، وهو المقر العسكري الأهم في المحافظة، يحتوي على مكاتب كبار الضباط وعلى مركز لتدريب المتطوعين الجدد، ويبعد عن القاعدة مسافة خمسة كيلومترات فقط.
بعد سقوط تكريت مباشرةً، تعرض مقر قيادة العمليات لهجوم بالأسلحة المتوسطة والرشاشة من قبل مجموعة صغيرة من المسلحين. لم يسفر الهجوم عن وقوع خسائر، لكن كان من الواضح أنه مقدمة لهجوم أكبر “سيحصل عاجلاً أو آجلاً”، يقول الملازم عمر التكريتي أحد المتواجدين آنذاك هناك.
ويتابع: “جمعنا الفريق الركن علي الفريجي، باعتباره أعلى سلطة عسكرية في صلاح الدين، وأمرنا بنقل كافة المراتب إلى سبايكر، وكان من بين المشمولين بالقرار مئات من المتطوعين الجدد ما زالوا تحت التدريب، بدؤوا بالانسحاب ليلاً على دفعات”.
لا يعرفون جغرافيا المحافظة
قبل نحو شهرين من وقوع المجزرة استقدمت قيادة عمليات صلاح الدين متطوعين جدد على هيئة أربع وجبات، وصل عددهم إلى 1390 متطوعاً، كان عليهم الانتقال في تلك الليلة بناءً على أوامر الفريجي إلى “سبايكر”، من دون أي خطة واضحة.
هؤلاء لن يساهموا في تعزيز المواقع الدفاعية بل سيزيدون من حالة التخبط والفوضى وستظهر صور العشرات منهم قتلى في المجزرة.
“لقد كانوا خائفين ولا يعرفون إلى أين سيتجهون، فهم حديثو العهد بالمكان، وعندما صدرت الأوامر بنقلهم كان بعضهم يسمع بوجود قاعدة سبايكر الجوية للمرة الأولى في حياته ولا يعرف حتى كيف يلفظ إسمها”، يعلّق الملازم التكريتي.
الخلفيات المناطقية لهؤلاء المتطوعين يفصّلها ضابط في قيادة العمليات، برتبة مقدم إداري في شعبة القلم، بالقول إن 450 قدموا من الكوت جنوب شرق بغداد، وخمسمئة من أهالي الناصرية جنوبي العاصمة، وتسعين من معسكر التاجي شمالي بغداد، مع وجبة من المتطوعين من مناطق الوسط مثل النجف وكربلاء يقدر عددهم بـ 350. أي أنّ معظمهم لا ينتمي للمنطقة، ومن أبناء المذهب “الشيع”ي، وهي “تهمة كافية كي يقتلهم التنظيم فور القبض عليهم”.
واثق شاكر الحميداوي، أحد الناجين من المجزرة، من أهالي كربلاء، تم استقدامه من معسكر النعمانية في الكوت، وهو مثال على الكيفية التي كان يتم بها التعامل مع المتطوعين. “كنا كلّما نصل لمقر القيادة نمنح إجازة، أحياناً في اليوم نفسه، ومن ثم نعود أدراجنا، فلا نعرف شيئاً عن المكان الذي نتواجد فيه”، يقول. ويتابع “تكررت هذه العملية أربع مرات وكان آخر التحاق لنا جميعاً يوم 25 أيار (مايو) 2014”.
خلال فترة تواجده القصيرة، لم يتلق الحميداوي أي نوع من التدريبات العسكرية. وهو ما يؤكده نائب ضابط كان مكلفاً بتدريب المتطوعين الجدد. حسن الدراجي الذي طلب تغيير اسمه للحماية القانونية، قال لكاتب التحقيق إن “جميع المتطوعين لم يتدرّبوا ولو ليوم واحد على استخدام السلاح، ولم يتعرفوا نظرياً على خصائصه، وكل ما تلقوه أثناء تلك الفترة كان عدداً من التدريبات البدنية”.
لهذا فإن الدراجي يعتبر أن قرار نقل المتطوعين إلى أكثر المناطق سخونة في البلاد بدلاً من إرسالهم إلى منازلهم، كان “بمثابة سوقهم إلى ساحة إعدام جماعيّ”.
أسلحة لا يمتلكها الجنود
بدءاً من اليوم العاشر كانت الأخبار القادمة عن انهيار القطعات العسكرية تتوارد إلى”سبايكر” مسببة حالة من الهلع في صفوف الجنود. قاسم محمد، أحد مراتب الفرقة الرابعة في محافظة صلاح الدين، يروي كيف استقبل هو وزملاؤه تلك الأنباء فيقول: “شاهدنا على هواتفنا النقالة عناصر التنظيم يعرضون أسلحة ثقيلة ومتطورة سلبوها من الجيش في الموصل، كنا نتساءل: أين أسلحتنا؟ لماذا بحوزتهم كل هذا العتاد بينما نحن لا نملك شيئاً؟”.
كاتب التحقيق اطلع على تقرير الاستخبارات العسكرية حول الأسلحة والآليات العسكرية الموجودة داخل قاعدة “سبايكر” في ذلك الوقت.
التقرير المؤرخ بـ 14 حزيران (يونيو) 2014 يشير إلى أن “القاعدة كانت تحتوي قبل وقوع المجزرة على (8) مدرعات ودباببتين، وأكثر من (12) أحادية، و(36) رشاشة بي كي سي، وأسلحة خفيفية تكفي لـ (200) مقاتل فقط و(50) عجلة أشخاص، و(30) عجلة نوع همر”.
هذه الكمية الشحيحة بالمقارنة مع ما عرضه “داعش” من عتاد مسلوب “كان سببا كافياً لدفع الجنود إلى مغادرة المكان فوراً”، يعلّق العميد الركن علي الشمري أحد ضباط كلية الاركان سابقاً.
الشمري يوضح أن “هناك مبدأ عسكرياً لا يمكن تحقيق النصر من دونه، هو ثقة المقاتل بسلاحه، والإخلال بهذا المبدأ أفقد الجنود معنوياتهم وتسبب بخروجهم من القاعدة من دون التفكير في المواجهة”.
الناجي واثق شاكر الحميداوي من خلال معايشته لتلك اللحظات يؤكد ما ذهب إليه هذا الخبير، فيقول: “كنا نطالب الضباط بمنحنا قطع السلاح كي ندافع عن أنفسنا، لكنهم سدّوا أبواب المخازن في وجوهنا”. وأضاف: “شعرنا أننا وحيدون هنا، لا سند لنا ولا ظهر. وجميعنا كان يريد مغادرة المكان بالسرعة الممكنة”.
تسرب جماعي
يصعب التحقق من عدد القوات المتواجدة فعلياً في “سبايكر” في اليومين السابقين على المجزرة، فحالة الفوضى السائدة، ومغادرة قطعات عسكرية بالتزامن مع دخول قطعات أخرى، وحالات الفساد الإداري والتسرب من الجيش الموجودة أصلاً أو ما يعرف بظاهرة “الجنود الفضائيين”، تجعل من هذا غير ممكنٍ.
لكن بحسب تقديرات ضباط التقيناهم في هذا التحقيق، كان يتواجد في “سبايكر” يوم سقوط الموصل ما يناهز العشرة آلاف جندي، من أصل عشرين ألفاً مسجلين رسمياً. وقد تمكن معظم هؤلاء من مغادرة القاعدة الجوية ووصلوا الى مناطق سكناهم بأمان، لتتسلّم مهامهم وحدات أخرى قدمت لتوّها.
يقول شاهد عيان، وهو ضابط في فوج العمليات الخاصة، إن أول المتسربين، ليلة العاشر من حزيران (يونيو) كان منتسبو الفوج الرابع (اللواء 16) المكلّف أصلاً بحماية بوابات القاعدة وأبراجها، أحدثوا فراغاً في السور وأخلوا مواقعهم. وعلى إثر ذلك تسلم لواء الرد السريع القادم من الموصل بالتعاون مع العمليات الخاصة الأبواب الرئيسة للقاعدة والأبراج المحيطة بها. ويضيف أن طلاب كلية القوة الجوية ويبلغ عددهم 159 طالباً، جرى نقلهم أيضاً في اليوم نفسه بالطائرات إلى بغداد وإقليم كردستان.
“هؤلاء كانوا محظوظين” يقول الضابط، أما سيئو الحظ، فهم اولئك الذين قررا الخروج بعد سقوط تكريت، في ليلة الحادي عشر أو صباح الثاني عشر، فقد كانت سيطرات الموت قريبة في انتظارهم.
في تلك الليلة بدأ الجنود يتلقون على هواتفهم النقالة اتصالات كثيفة تحثّهم على المغادرة. أحمد علي، جندي في الفرقة 18، كان قد رفض الخروج، قال لكاتب التحقيق: “الهواتف كانت ترن دون انقطاع، وكنا نتلقى اتصالات من ذوينا ومن الجنود الذين خرجوا قبلنا تطالبنا بترك المعسكر حالاً وتقول لنا إن الطريق ما زال آمناً”. فيما أكد زميلٌ لعلي، عبر اتصال هاتفي أن “هناك من خرج بعد تلقيه تطمينات من معارف له في تكريت، بأن أبناء العشائر هم من يسيطر على المنطقة، وهم لن يمسّوا الجنود بأذى”.
“باقية.. باقية”
أحد الذين رنّ هاتفهم المحمول في تلك الليلة كان الجندي المتطوع علي الصكري. “لدي زوجة وطفلين وأشقاء وأصدقاء، كلهم كانوا يسألون أين أنا الآن، ولماذا لم أترك المكان بعد”.
في صباح الثاني عشر من حزيران (يونيو) غادر هذا الشاب بثيابه المدنية قاعدة “سبايكر” مع مئات آخرين سيراً على الأقدام وفي نيتهم الوصول إلى مركز المدينة التي تبعد كيلومترات قليلة. “بعد أقل من ثلاثة كليومترات استوقفتنا مجموعة مسلّحة من خمسين شخص تقريباً” يقول.
لم يحاول الصكري الذي ينحدر من مدينة الديوانية الهرب أو المقاومة، ولم يكن بيده أيّ قطعة سلاح. “كان المسلحون يتحدثون إلينا باللهجة التكريتية الدارجة وطمأنونا بالقول إنهم إخوة لنا وإنهم من أبناء العشائر العربية، ثم أوضحوا لنا أنهم سينقلوننا بشاحنات صغيرة وكبيرة إلى منطقة آمنة حتى يتسنى لنا العودة إلى منازلنا”.
بينما كان الجندي المتطوع يستمع إليهم كانت المصيدة تطبق على جنود آخرين عند كافة مخارج المدينة. وما أن حل المساء حتى تم تقييد الصكري ومعه أكثر من 2500 جندي وعدد قليل من الشرطة. “كنا مستلقين في أرتال على بطوننا، تنهال الضربات علينا بأخمص البنادق، ومعها تنهال الشتائم، وكنا نهتف ملء حناجرنا: دولة الإسلام.. باقية.. باقية”.
في القصور الرئاسية، وهي منطقة واسعة كانت تعود لصدام حسين وتضم 56 قصراً، جرى تصفية نحو 1700 منهم خلال ساعات قليلة، بحسب تقارير وزارة حقوق الانسان العراقية، غالبيتهم من أبناء مناطق وسط وجنوب العراق. أما الأسرى السنّة فقد عفا التنظيم عن معظمهم بقرار سريع من زعيمه أبو بكر البغدادي.
أخطأت الرصاصات جسد علي الصكري، فرمى نفسه في الوادي، وبقي ممدداً على الارض متظاهراً بالموت حتى غابت الشمس. تحرك بعدها متجهاً لأحد الشوارع الفرعية المؤدية لشطّ دجلة. “تمكنت من عبور النهر سباحة في ليلة الخامس عشر من حزيران (يونيو) وهو اليوم الذي أعتبره يوم ولادتي” يقول، ومن ثم وصل لناحية العلم، ومنها إلى العاصمة بغداد حيث كان أهله بانتظاره.
أخبار وإشاعات
الناجي من المجزرة واثق الحميداوي روى أحداث مطابقة لما رواه الصكري حول كيفية خروجه من المعسكر والأنباء والإشاعات التي راجت في صفوف الجنود. وقال لكاتب التحقيق “لو كنت أعلم أن المتطرفين هم من يسيطرون على تكريت والطريق الواصلة إلى بغداد لما خرجت”.
بحسب شهادة الحميداوي، ومعه ضابطان آخران كانا متواجدين في سبايكر، فإن الأخبار والإشاعات بدأت تتسرب صباح يوم المجزرة بوجود أوامر بمنح الجنود اجازة لمدة (15) يوماً، وبأن من يسيطر على المنطقة هم أبناء العشائر.
في ظل حالة الفوضى هذه خرج الحميداوي ومعه مئات من قاعدة سبايكر عند العاشرة والنصف صباحاً بسيارة مدنية خاصة دون أن يمنعهم أحد. “بعد أقل من 10 كم وعند دخولنا في الطريق الحولي الذي يربط تكريت بسامراء شاهدنا سيطرات مسلحة تقيّد الجنود وترمي بهم على قارعة الطريق” يقول الجندي الكربلائي. “عدت بسيارتي لآخذ طريق تكريت بغداد العام، وعند وصولي إلى مركز تكريت تبين لي أنها وقعت بالكامل بيد داعش”.
يؤكد الحميداوي أن الكثير من الذين شاركوا بأسر الجنود هم من موقوفي سجن التسفيرات الذين فروا منه بعد سقوط تكريت، خصوصاً من المحكومين ضمن المادة 4 ارهاب. “هم من كان يقوم بشتمنا وضربنا وتعذيبنا”.
احتجز المسلحون الحميداوي مع خمسين آخرين داخل جامع المدينة، وبعد أكثر من ساعتين، تمكن من إقناعهم بأنه من جنوبي بغداد، من قبيلة “البوعيسى” السنيّة، وأنه كان في تكريت لترويج معاملة رسمية. “خدمني في ذلك اتقاني اللهجة القروية القريبة من لهجة أهالي الغربية والشمالية”. ولدى سؤاله عن مصير بقية من كان معه، آثر الحميداوي الصمت.
التحقيق.. لإعادة التحقيق
تعددت الروايات حول ما حصل في قاعدة “سبايكر” العسكرية، الأمر الذي تسبب بإعدام تنظيم “داعش” وأبناء بعض العشائر لأكثر من 1700 جندي من مختلف التشكيلات العسكرية.
عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية ماجد الغراوي يحمّل الجهات العسكرية التي أمرت بنقل الجنود الى هذه القاعدة المسؤولية عن وقوع المجرزة، “خصوصاً أن من بين الجنود من لم يكمل دورته التدريبية، ومع ذلك تم إرساله إلى أكثر المناطق سخونة في البلاد”.
عضو مجلس النواب ممثلاً عن محافظة صلاح الدين مشعان الجبوري ينقل دائرة الاتهام إلى مكان آخر، وتحديداً إلى حكومة صلاح الدين المحلية، فيتهمها بالتورط المباشر في المجزرة أو بالتستر عنها. وبحسب قوله، فإن منطقة القصور الرئاسية، شرقي تكريت، كانت تحتوي على منازل ومكاتب لنحو خمسين شخصية سياسية، أعضاء في البرلمان أو في الحكومة المحلية، “وهي وإن خلت منهم في تلك اللحظات، إلا أنها تحوي على موظفين، وهم شاهدوا من نوافذ مكاتبهم كيفية اقتياد الضحايا إلى داخل القصور، دون إبلاغ السلطات العليا والقيادات الأمنية في بغداد عن ذلك”.
مجلس النواب العراقي بالتعاون مع وزارة الدفاع والداخلية أجرى تحقيقات التقى خلالها العديد من القيادات المسؤولة عن ملف صلاح الدين للوقوف على ماحدث. بيد أن اللجنة التحقيقية لم تقدر على تبيان الحقائق كاملة، وكان تقريرها باعترافها هي نفسها “قاصرٌ” عن تبيان المسؤوليات، بحكم أن المنطقة التي وقعت فيها المجزرة “ما زالت ساحة قتال، وما زالت غير محررة(حينها)”.
تقرير اللجنة الذي لم ينشر رسمياً، وتم تسريب أجزاء منه في 3 آذار (مارس) الماضي، خرج بنتيجة عامة في فصل “القرارات” مفادها أن “المسؤولية تضامنية تبدأ من القائد العام للقوات المسلحة بصفته الرسمية وتنتهي بأدنى المراتب”.
وكون “الأسباب عديدة” و”الإخفاقات كثيرة” فإن اللجنة خلصت إلى “إعادة التقرير إلى وزارة الدفاع لمعالجة أوجه النقص والتدقيق وإكمال التحقيق”. أي أن التحقيق أوصى عملياً بإعادة التحقيق، لتدخل القضية مجددا في متاهة البيروقراط والتجاذبات السياسية.
تضييع المسؤوليات
الضباط والجنود الذين أطلعناهم على نتائج عمل اللجنة، بينوا أن التقرير فاته مجموعة من الحقائق الأساسية، وساهم في تضييع المسؤوليات بدلاً من تحديدها، خصوصاً فيما يتعلق بالقيادات العسكرية العليا.
فقد بدأت معركة الموصل من محورها الغربي، في السادس من حزيران (يونيو) 2014، ثم سيطر “داعش” على المدينة بشكل كامل في العاشر منه. “إلا أن القيادة لم تتخذ أية إجراءات تحد من الخسائر تحسباً لوصول التنظيم إلى صلاح الدين، ولم تقم بتشكيل خطوط صد، أو إرسال تعزيزات” بحسب ما أوضح ضابط كان متواجداً في القاعدة الجوية.
وأضاف الضابط الذي يحمل رتبة عقيد: “لم تصلنا أي تعليمات مكتوبة أو عبر أجهزة الاتصالات حول الإجراءات التي ممكن اتخاذها لترتيب القطعات، ولم يتم إرسال أي قائد عسكري من بغداد أو أي تعزيزات، وبقيت المسؤولية مناطة بالقائد علي الفريجي وقائد الفرقة الرابعة وقائد الفرقة 18 وبعض الضباط في سبايكر”.
كما تشير شهادات المتواجدين في المعسكر إلى أن القيادة العامة ممثلة برئيس الوزراء وقيادة العمليات في صلاح الدين لم تأمر بفصل القادمين الجدد عن بقية المنتسبين. وحول هذا يعلق اللواء الركن حسن العاني، خبير عسكري وأحد ضباط الجيش السابق قائلاً: “كان من المفروض على القيادة تقدير الموقف العسكري، فحديث الجنود المنسحبين عن المعارك التي حدثت واقتحام داعش للمدينة أثر بشكل كبير على معنويات الجميع”.
هشام الهاشمي، وهو باحث متخصص في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة، ومن المتابعين بدقة لتفاصيل المجزرة، لحظ أن التقرير لم يسرد الوقائع التفصيلية لليومين الذين سبقا إعدام الجنود رغم أهميتها.
ويضيف أن “اللجنة لم تحدد من هو المسؤول عن الإهمال والفساد الإداري وحالة الانفلات الأمني التي سادت، ومن هو المسؤول عن افتقاد العتاد والسلاح، ومن هو المسؤول عن نقل متدربين جدد إلى ساحة حرب، ولم تحدد أيضاً من هي الجهة التي التي سمحت للجنود بالخروج من دون أن تبذل جهداً في منعهم، بل إن التقرير الذي أنجزته اللجنة لم يرفق قائمة بأسماء الضحايا”.
هكذا جرى “تمييع النتائج” بحسب الهاشمي، في واحدة من أعنف الجرائم في العقد الأخير، بحيث أن المسؤولية اعتبرت “تضامنية” وفق وصف التقرير، يتقاسمها الجميع من أدنى المراتب إلى أعلاها، بدءاً من الجندي المتطوع ابن كربلاء واثق شاكر الحميداوي، وصولاً إلى رئيس الوزراء آنذاك – وابن كربلاء أيضاَ- نوري المالكي.
لا يريد الكثير
بعد تحرير تكريت من تنظيم “داعش” في آذار (مارس) الماضي أعلنت وزارة حقوق الانسان على لسان وزيرها محمد مهدي البياتي، عن رفع أكثر من 900 رفات فقط من عشرة مقابر جماعية داخل وخارج القصور الرئاسية، وهي تجري بحثاً مستمراً للعثور على بقية المقابر الجماعية.
أحد الذين لم يعثر عليهم لحد اليوم هو جندي متطوع من الديوانية عمره 25 عاماً. يقول والد الجندي، سعد عبد الحسين (56 عاماً) إنه “اجرى اتصالات مكثفة مع أبناء عشائر في تكريت قبيل تحريرها، بحثاً عن مصير ابنه، يؤكد أنه لن ينصب سرادق العزاء حتى يرى جثمان ولده بأمّ العين”.
والدته هي الأخرى ترفض تقاضي التعويض المخصص لشهداء “سبايكر”، وتعتقد إن ابنها مازال على قيد الحياة. لربما هو حدس الأمهات. فهي تنكبّ على قراءة الأدعية والصلوات وتخاطبه كما لو كان حاضراً.
هذه الأسرة تابعت جلسات البرلمان الخاصة بمساءلة الضباط عن المجزرة. وهي لا تعلم لماذا لم يحضر رئيس الوزراء شخصياً، فيما وقف على الأبواب المئات من أسر الضحايا قادمين من محافظات بعيدة يطالبون بالدخول. كما لا تعلم لماذا لم تعلن السلطات القضائية عن محاكمة أي ضابط كبير متورط في هذا الملف، سواء بالإهمال والتقصير أو بالفساد.
وبينما يصب عبد الحسين الشاي الأسود الثقيل، نسأله ما الذي يطلبه بالتحديد، بعد أكثر من 16 شهراً على اختفاء ولده. تهتز يده ويهتز خيط الشاي. يقول إنه لا يريد الكثير. “أريد أن أعرف إن كان ولدي حياً أو ميتاً. أريد أن تتم محاكمة المسؤولين بدءا من أعلاهم. أريد أن لا تصبح قضية أولادنا المغدورين مجرّد ملفّ من ملفات الماضي”.
أنجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية، وتحت اشراف : كمي ملحم
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17842}" data-page="1" data-max-pages="1">