تحقيقات استقصائية: احتدام حرب السيطرة على تركة “أوقاف الموصل” بين الوقفين السّني والشيعي

احتدام حرب السيطرة على تركة “أوقاف الموصل” بين الوقفين السّني والشيعي

نوزت شمدين وفريق نينوى الاستقصائي/ الموصل

“مدعوما بقوة فصائل الحشد الشعبي” وسلطتها شبه المطلقة عقب معارك “تحرير نينوى” نهاية العام 2017، و”بالفوضى الادارية والقانونية”، وضع الوقف الشيعي في الموصل خلال أشهر قليلة، يده على “كنوز عقارية” بينها عقارات كان الوقف السني وقبلها وزارة الأوقاف تتحكم بها لسنوات طويلة.

هذا ما يردده ناشط موصلي تابع لأكثر من عام تحول عقارات عديدة من ادارة الوقف السني الى الوقف الشيعي، يقول مختصرا صورة يردد مقربون من الوقف السني انها سادت خلال العامين الأخيرين، ان “لافتة واحدة توضع من قبل فصيل مسلح على مدخل العقار كانت كافية لجعله خاضعاً لسيطرتها، ولتنهي أي مطالبة به من أي جهة كانت حتى لو امتلكت أوراقاً رسمية تثبت عائديته لها”.

يضيف مبتسماً وهو، يشير بيديه الى سلسلة مواقع على خريطة حديثة “لقد وضعوا ايديهم على كنوزعقارية، تدر أموالاً كبيرة، دون أن يجرؤ أحد على ألاعتراض”.

على رصيف الشارع العام في منطقة نينوى الشمالية تواجدت واحدة من الأمثلة، من خلال لافتة معدنية كبيرة تصدرت قطعة أرض مميزة، كتب عليها “القطعة المرقمة 3/41 مقاطعة نينوى الشمالية كانت مسجلة بأسم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية- المنحلة، وأنها (اليوم) تحت إدارة ديوان الوقف الشيعي”، وقد تم تأجيرها إلى المستأجر عدي حسين محسن الأمارة وخصّصت الأرض سوقاً لبيع الثياب المستعملة.

لافتة تحذيرية أكثر مما هي تعريفية، وبجوارها وعلى نحو ملاصق تنتصب وضعت صورة كبيرة للمرجع الديني آية الله علي السيستاني في ما يعده البعض تسويقاً لشرعية الفعل أو المكان، وفي أعلى الصورة تماماً خطت مقولة للمرجع الأعلى خاطب بها أهل السنة في العراق أيام الحرب الطائفية في 2006 و2007: “أنتم أنفسنا”.

“عقارات آل البيت”

الاتهامات المساقة ضد الوقف الشيعي في الموصل لا تتوقف عند التلاعب بملف العقارات أو عند حدود الأملاك الخاصة وأراضي الدولة. فالوقف السني في نينوى تحدث عن محاولات سيطرة نظيره الشيعي مسنوداَ بقوات من الحشد الشعبي على عقارات أوقفها منذ عقود طويلة مواطنون سنّة لصالح وزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي حلت بعد 2003  لتصبح وقفين – سنّي وشيعيّ.

يقول الباحث عبد الستار سعيد: “بمجرد أن يحمل جامع ما اسماَ شائعاً في الوسط الشيعي حتى يتم وضع اليد عليه باعتباره أثراً شيعياً وهو ما أثار سخطاً لدى الأوساط الدينية في الموصل”.

وبسبب سيطرة قوات الحشد الشعبي على معظم مفاصل القرار في الموصل والخوف من تبعات انتقادها فإن ذلك السخط بقي حبيس الحوارات الخاصة وبيانات أصدرها الوقف السني وماتت في أدراج ديوان محافظة نينوى، التي تعاقب على حكمها ثلاث محافظين في أقل من سنة واحدة.

من خلال بحث وتقصي امتد لأشهر تبين لنا أن عناصر من الحشد وضعت أيديها على نحو سبعة عشر عقار مسجّل بإسم استثمارات كانت تتبع للوقف السني في مختلف مناطق الموصل، وقد تم بالفعل إعلانها للاستثمار لصالح الوقف الشيعي.

فمنذ منتصف 2017 تسيطر فصائل الحشد على مرقد يحيى بن القاسم في منطقة الخاتونية المشيد على القطعة المرقمة (487)، وعلى مرقد الإمامين حامد ومحمود في محلة المحمودين المشيد على القطعة المرقمة (302)، ومرقد الإمام علي الأصغر في شارع الفاروق قرب جامع النوري (الذي كان يضم منارة الحدباء) والمشيد على القطعة المرقمة (175)، ومقام العباس بن علي في سوق الصاغة على القطعة (115).

كما تسيطر فصائل الحشد على مقام عليّ الهادي في محلة المحمودين على القطعة المرقمة (327)، ومقام الست أم كلثوم في محلة الميدان على القطعة المرقمة (191)، ومرقد بنات الحسن بن علي في محلة الحوش خان على القطعة المرقمة (52)، ومرقد الإمام عبد المحسن في محلة الخاتونية على القطعة المرقمة (378)، ومقام الست فاطمة في محلة الخاتونية على القطعة المرقمة (377)، ومرقد الإمام عبد الرحمن في محلة الخاتونية قريباً من الجسر الخامس على القطعة المرقمة (13)، ومرقد الإمام الباهر في في منطقة الشيخ فتحي على القطعة المرقمة (133)، ومقام الست شاه زنان في محلة الحمام على القطعة (119) ومرقد علي الأصغر في محلة الجامع الكبير على القطعة (93)، ومرقد الإمام عون في محلة عون الدين على  القطعة (7 الباب 13/187)، ودوسة علي في محلة جوار الموصل القطعة (118/117)، ومقام الست نفيسة في محلة الجولاق رقم القطعة (63)، ومرقد زيد بن علي في باب البيض، قطعة (93). فضلاً عن عقارت أخرى تحمل طابعاً دينياً و تجارياً وحتى سكنياً.

عروض استثمار

بعض هذه المواقع تعرضت للتدمير الكلّي وسويّت بالأرض جراء العمليات العسكرية خلال حرب التحرير، والتي تركزت في الجانب الأيمن للموصل. مع ذلك فإن الوقف الشيعي قرر عرضها للاستثمار، فضلاً عن عقارات أخرى في الجانب الأيسر للموصل، وهو ما دفع ديوان الوقف السني ممثلاً بهيئة إدارة أموال الوقف إلى الاستنجاد بـ “خلية الأزمة” التي شكلت في نينوى عقب انتهاء الأعمال الحربية، وطالبها بمخاطبة رئاسة الوزراء لوقف إجراءات الوقف الشيعي دون جدوى.

العديد من مستأجري العقارات التي وضع الوقف الشيعي يده عليها، اشتكوا من احتمال فسخ عقودهم المبرمة مع الوقف السني منذ سنوات مما يعني خسارة أعمالهم التي يزاولونها وهي بغالبيته متوارثة، كالبزازين والصفارين والعطارين في سوق المدينة القديم.

مستأجر أحد تلك الدكاكين في العقار (162) في باب السراي- الجانب الأيمن قدم مع جيرانه الباعة شكوى للوقف السني مفادها أن شخصاً أبلغهم أن العقار تحول إلى الوقف الشيعي.

صاحب الدكّان هذا -أسوة بمعظم أصحاب العقارات في هذا التحقيق- طلب عدم ذكر اسمه أو الإشارة إلى الأسم التجاري لدكانه خوفاً من “الميليشيات”، يقول: “زارنا شخص وأبرز أوراقاً بأنه تعاقد مع الوقف الشيعي على استثمار العقار لمدة سنة واحدة، وطالبنا بمعاودة الاتصال به لتنظيم عقد إيجار جديد بآلية وقيمة جديدتين”.

وكما هو الحال مع بقية العقارات التي وضع الوقف الشيعي يده عليها، فإن هذا الدكاكين كانت ملكاً لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية وقد أوقفتها أسرة سنيّة من مدينة الموصل، لكنها صارت بموجب “المحاصصة الوقفية” موضع نزاع بين الوقفين، حسمه تواجد الفصائل الشيعية على الأرض.

فتلك الفصائل التي انتشرت داخل مدينة الموصل وفي اطرافها عقب معارك تحريرها في 2017 والتي كان لها دور واضح فيها، وأبرزها “عصائب أهل الحق” و”سرايا الخراساني” و”اللواء 30″ الشبكي و”لواء بابليون” و”كتائب حزب الله”، تمسك وبشكل شبه تام بمفاصل القرار الأمني في المدينة، وتؤثر بقوة على القرارات الادارية.

أسباب مادية

بدأت قصة الصراع على أملاك الأوقاف بعد صدور القانون رقم (19) لسنة 2005، الذي نصّ على أن كل عقار كالجامع أو المزار أو المقام أو المرقد يحمل أسماً من أسماء آل البيت، يجوز للوقف الشيعي استملاكه واستغلاله.

مصدر في ديوان الوقف الشيعي أعلمنا بأن الطرق المتبعة حالياً في رصد العقارات وتحديدها قبل اتخاذ إجراءات الاستملاك لصالح الوقف “تجري بشهادات شهود لعقارات تحمل أسماء آل البيت أو من خلال جرد الوثائق في التسجيل العقاري” أي العثور على اسم إحدى شخصيات آل البيت على وثائق العقار، و”ليس بالضرورة أن يعرف به العقار نفسه أو توجد عليه لافتة بالإسم”.

وأضاف: “إذا تم العثور على أوراق عقارية تخص أرضاً او مسكناً أو محلاً تجارياً كتب عليها عبارة “أوقفتها للجامع الفلاني باسم آل البيت” مثلاً، فهذا دليل كافٍ على عائدية العقار للوقف الشيعي”، بحسب قوله.

واستند الوقف الشيعي على القانون رقم (19) متجاهلاً قانوناً لاحقاً عدّله صدر في 2008 ونص على أن القانون الأول لا يشمل العقارات التي فيها حجج وقفية، أي تلك التي أوقفها مواطنون سنّة وما زالوا يملكون إلى اليوم أوراق في الطابو العقاري تثبت ذلك، ولها من يشرف عليها بصفة “متولّي”.

فصار أي مكان يحمل أي من الأسماء التي وردت في القانون الأول هدفاً ويتوجه عناصر من الحشد الشعبي للاستيلاء عليه، بالرغم من وجود “متولّ” يشرف عليه.

يفرق الكاتب والباحث جمال علي محمود بين الجامع والمقام والمرقد والمزار: “الأول مكان للصلاة، الثاني هو مكان أقامت به شخصية دينية تاريخية ورحل بعدها ليصبح ذلك المكان مقدساً فيما بعد، والمرقد أن يكون قد دفن فيها، والمزار أن يكون قد مر بالمكان دون إقامة”.

ويقول إن بعضاً من هذه المراقد والمزارات والمقامات السبعة عشر، التي استحوذ عليها الوقف الشيعي، يعود تاريخها إلى أواخر العهد العباسي، مشيراً إلى “معظمها ليست حقيقية في الأصل، ليس فيها أضرحة لأولياء صالحين ولا تمتّ بصلة لشخصيات من آل البيت، لكن سكان المدينة يحترمونها بسبب الأسماء التي تحملها، فهي أسماء مقدسة لدى السنة أيضا”.

ويشير إلى أن الأملاك الوقفية المصادرة تعود لعائلات سنيّة من أهالي الموصل، كانت قد أوقفتها منذ عقود قبل تأسيس الدولة العراقية، ووثائقها موجودة في الطابو العثماني، لكن المشكلة أنها غير مؤشّرة في الطابو العراقي.

ويستبعد محمود، أن تكون غاية الحشد الشعبي من توفير الغطاء للوقف الشيعي في الحصول على هذه العقارات هو  إحداث تغييرات ديموغرافية مستقبلاً “لأن المدينة تسكنها غالبية سنيّة بالمطلق ولا إمكانية لمثل هكذا تغييرات، والشيعة أقلية في الموصل، يقطنون في أحياء قليلة العدد على أطراف المدينة الشرقية، وفي سهل نينوى خارج الموصل، وكذلك غرباً في قضاء تلعفر”.

إنما يعزو اهتمام فصائل الحشد الشعبي بتلك العقارات إلى سبب مادي بحت، و”الدليل أنهم يقومون وفور وضع اليد على أي من هذه العقارات بإعلانها للاستثمار طويل المدى وقبض ثمن الإيجار مقدماً حتى دون انتظار نتائج أي تحقيق في عائدية العقار إلى أحد الوقفين السني أو الشيعي”.

 

صمت شيعي

امتنع مدير الوقف الشيعي في نينوى بسام محمد البياتي عن الإدلاء بأي تصريح يتعلق بهذا الأمر بسبب ما قال أنه توجيه سبق وان تلقاه من إدارة الوقف العليا. وتماشياً مع موقفه هذا امتنع أيضاَ حنين القدو وقصي عباس البرلمانيان الممثلان عن الشبك الشيعة في نينوى، عن الإجابة على تساؤل طرحناه عليهما، مما يوحي بموقف شيعي متفق عليها فيما يخص الأملاك الوقفية.

ويستغرب صلاح التلعفري وهو كاتب وناشط شيعي مما وصفه بالضجة المفتعلة من قبل ديوان الوقف السني في نينوى بخصوص العقارات الوقفية.  وقال بأن الكثير من اللقاءات والاجتماعات التشاورية جرت بين الوقفين من خلال لجان متخصصة لفك وعزل العقارات المتداخلة بين الطرفين بعد إلغاء وزارة الاوقاف والشؤون الدينية.

وقال: “هذا بموجب نص قانون واضح. وليس اجتهاداً أو تجاوزاً من أي طرف على الآخر. وحل لأي اشكال يحدث ينبغي أن يكون عبر القنوات القضائية وليس التصريحات الاعلامية والمزايدات السياسية التي لن تجدي نفعاً”.

وبين التلعفري بأن شخصيات ذات مكانة دينية رفيعة لدى الشيعة كانت قد مرت بالموصل وبالقرب منها قبل قرون، ومن الطبيعي ان تكون هنالك مزارات ومقامات تحمل أسمائهم. ويمكن للوقف السني وبكل بساطة تقديم المستمسكات والحجج الوقفية التي تثبت عائديتها لواقف سني أو يملكها متولٍ موكل عنه، وعندها لن يكون هنالك أي خلاف”.

 

“لست خائفاً”

بعد تحرير الموصل من داعش ظهرت لافتات كبيرة على مساحات أراض خالية في بعض أنحاء الموصل تشير إلى أن العقار أصبح ملكاً للوقف الشيعي ويستثمر وفقاً لقانونه، وهو ما أثار استغراب الكثير من أهالي المدينة.

حدث ذلك للأرض المقابلة لـ “جامع النبي يونس” في الجانب الأيسر للموصل التي استأجرها مواطن شيعي من أهالي نينوى بمبلغ 170 مليون دينار سنوياً من الوقف الشيعي سنة 2018.

وكذلك في منطقة “النبي شيت” في الجانب الأيمن وتحديداً الأرض المرقمة 196/4. أشارت لافتة كبيرة نصبت هناك إلى أن الأرض سوف تستثمر كمحالّ تجارية مستأجرة من قبل الوقف الشيعي.

وفي ظلّ صمت الحكومة المحلية في نينوى واكتفائها بمراقبة الصراع الدائر بين الوقفين السني والشيعي لجأ الأهالي إلى المحاكم لإثبات عائدية عقارات مستولى عليها من قبل الوقف الشيعي إلى مورثيهم، بإبراز الحجج الوقفية التي بحوزتهم.

وقد نجح البعض في ذلك المسعى تماماً كما حدث للتكيّة النقشبندية في الموصل والتي تم إعادة الإشراف عليها إلى متولّيها في 2018 بعد أن ضمّها الوقف الشيعي إلى أملاكه.

القصة تتكرر اليوم مع محامٍ متخصص بالعقارات يروم فتح قضية تخصّ “مرقد يحيى أبو القاسم” و”جامع قضيب البان” في الجانب الأيمن للموصل، فقد وضع الوقف الشيعي يده عليهما رغم أن فيهما متولّيان، والاستيلاء عليهما “غير قانوني تماماً” بحسب وصفه.

يبدو هذا المحامي ويدعى “سعد علي” واثقاً من حسم القضيتين لصالح موكليه قائلاً: “طالما كان للوقف متولّين (مشرفين عليه) فلا أحد يقدر على المساس به”.

وعن التهديدات التي قد يتعرض لها جراء ترافعه في هذه القضايا أضاف: “أنا لست خائفاً من أحد، لأنني أعرف بأن من يقوم بالتهديد والوعيد عناصر تبحث عن الكسب ولا تمثل وجه الحشد الشعبي الحقيقي الذي حرر الموصل من داعش وقدم تضحيات كبيرة في سبيل ذلك”.

يفرّق المحامي بين نوعين من الأوقاف، الأول “مضبوط”، أي أن يقوم الشخص بوقف عقاره ويعلن عن عدم مقدرته أو رغبته في إدارة العقار ويعهد بذلك إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية (ألغيت بعد 2003 وقسمت الأملاك الوقفية بين الوقفين السني والشيعي)، والنوع الآخر وقف “ملحق” وهو العقار الموقوف الذي مازال يدار من قبل “المتولّي”.

وينص القانون في حال كان الوقف “مضبوطاً” بأن تعهد إدارته إلى القاضي الأول في المحكمة الشرعية، “لكن ما يحصل مع كثير من الوقفيات هو خلاف هذا” يقول المحامي مستدركاً، مشيراً بذلك الى ما يتم الاستيلاء عليه حالياً من قبل الوقف الشيعي.

 

حرب بيانات

في مطلع العام 2019 وجّه الوقف الشيعي كتاباً طالب فيه الوقف السني برفع يده عن إدارة عدد من العقارات التي بحوزته. ثم أصدر قراراً  باستثمار العقارات التي استحوذ عليها عن طريق تأجيرها

كان ذلك بالتزامن مع بيان أشار فيه الوقف الشيعي إلى أن هذه العقارات تعود ملكيتها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية المنحلة بعد 2003، وعائديتها غير محسومة، ومن حقه استثمارها لحين البتّ في أمرها.

في المقابل، طالب الوقف السني بوقف توسع نظيره الشيعي في الموصل، مشيراً في بيان على لسان رئيسه أبو بكر كنعان إلى أن “أهل السنة يحبون أهل البيت تماماً كما يفعل الشيعة وهم يطلقون أسماءهم على أولادهم وكذلك على الأمكنة الدينية”، “لهذا فليس من المعقول أن يستحوذ الوقف الشيعي على اي عقار أطلق عليه اسم أحد من آل البيت”.

محمد عبد الوهاب الشماع وهو إعلامي وداعية دينيّ، وصف ما يقوم به الوقف الشيعي في نينوى بـ “الخدعة”، قائلاً: “حين انحلت وزارة الأوقاف العراقية وتقسّمت، من أوقف أملاكه لجامع سني آل الوقف للوقف السني، ومن اوقف لجهة شيعية كونه شيعي آل الوقف للوقف الشيعي”.

ولفت بحكم عمله السابق ولفترة وجيزة بعد 2003 مديراً للوقف السني في نينوى، إلى أن “لكل حجة وقفية صورة منها لدى ديوان الوقف السني والطابو العقاري والمحكمة، ولدى صاحب الوقف أو من يرثه في جهة الوقف، وهي ادلة يمكن أن تدحض أي ادعاء مخالف في المحكمة”.

وطالب الوقف السني رئاسة الوزراء بتفعيل القانون الصادر في تموز/يوليو 2008 والذي نص على اعتماد الحجة الوقفية للوقف لبيان العائدية الطائفية معززاً بوثيقة القسام الشرعي (وثيقة تستخدم في العراق لتحديد الورثة وحصصهم في الميراث تمنح من قبل محكمة الأحوال الشخصية).

يصف الموظف (ت.ب) الذي يعمل في استثمارات الوقف السني، ممارسات الوقف الشيعي بـ “غير القانونية” وبأنها “لا تساعد على عودة السلم الأهلي”.

ويقول: “كيف لهم أن يستثمروا عقارات لايملكونها وأي جهة ستسمح لهم بذلك لولا قوة السلاح الذي يمتلكون”، منبهاً الى ان عقود الإيجار لن تكون شرعية “فما بني على باطل فهو باطل”.

ويحذر من أن تؤدي مثل هكذا تصرفات إلى أزمة طائفية جديدة في الموصل، وبأن تتحول “حرب البيانات” إلى حرب بالسلاح.

ويشير الموظف إلى أن دائرة الوقف السني ليس أمامها سوى توجيه الكتب والمراسلات إلى مرجعها في بغداد وكذلك محافظة نينوى، والاثنان على حد قوله لا يمتلكان القوة لفعل شيء “لا سيما أن تمدد الوقف الشيعي لم يتوقف عند حدود العقارات التي تحمل أسماء مقدسة لدى الشيعة بل استمر مسنوداً بفصائل الحشد للسيطرة على عقارات تجارية، خصوصاً في المقبرة القديمة في الجانب الأيسر للموصل والتي أستأجرها بالفعل مواطنون عدة، فضلاً على تجاوزات عديدة في مناطق تاريخية كجامع النبي يونس”.

ويذكّر (ت.ب) بقرارٍ كان قد أصدره مجلس محافظة نينوى المنحل وقضى بوقف إجراءات استملاك العقارات الوقفية لحين التثبت منها لكن ما حدث على حد تعبيره أن “القرار طبق فقط على الوقف السني في حين لم يمتثل الوقف الشيعي إليه”.

الحشد ينفي

الحشد الشعبي في بيانات منفصلة، نفى الاتهامات الموجهة له، بمحاولة إحداث تغييرات ديموغرافية في مدينة الموصل ذات الأغلبية السنية، أحدها صدر من مسؤول مكتبه في بغداد أبو ضياء الصغير، ذكر فيه أن “لا صحة على الإطلاق لوجود مثل هكذا عمليات طائفية”، وان “وجود الحشد رسمي وقانوني وهدفه حماية أهل المحافظة وليس إيذائهم”. بل ان الصغير نفى وجود “تمثيل للحشد داخل مركز المدينة”.

لكن النائب عن محافظة نينوى عبد الرحيم الشمري، يرى ان عملية سيطرة تحدث على الأوقاف السنية بالموصل وبغض النظر عن الهدف منها، فهي تتم في ظل صمت حكومي، دون الاشارة الى دور للحشد في ذلك.

ويتهم الشمري رئيس ديوان الوقف الشيعي علاء الموسوي “بالهيمنة والسيطرة على الأوقاف التابعة لأهل السنة”. ويقول ان “ذلك يجري في ظل تجاهل حكومي تام مما يهدد بإحداث فتنة طائفية في مدينة خرجت للتو من حرب دمرت نصفها”.

ويبرز دور الحشد الشعبي، بحسب أشخاص مطلعين على الملف، عبر قيام بعض قادته في الموصل ومن خلال قوة السلاح بترويع المعترضين على قرارات ضمّ العقارات للوقف الشيعي واستثمارها.

وهذه الاتهامات، التي يرفضها الحشد ويعتبر انها تأتي من جهات معادية، تتوافق مع “شهادات” لبعض أهالي المدينة تكشف عن ممارسات تقوم بها فصائل الحشد، لاسيّما “اللواء 30” الشبكي، تتمثل في مصادرة أراض زراعية وعقارات سكنية وتجارية قريبة من مزارات أو مقامات للشيعة في منطقة العباسية شمالي الموصل ومنطقة علي ره ش شرقيها، وهي قرية قائد اللواء وعد القدو الذي يحمل الجنسية الالمانية والذي أوردت وزارة الخزانة الأمريكية أسمه مع قادة فصائل آخرين في قائمة الإرهاب العام الفائت، بتهم انتهاك حقوق الإنسان والقيام بممارسات تنطوي على الفساد.

تلك العقارات تعود ملكيتها إلى مواطنين سنة من مدينة الموصل وقد اجبر العديد منهم على بيعها، أو تم وضع اليد عليها واستغلالها من قبل قياديي هذا اللواء النشط في سهل نينوى والذي ينصب نقاط تفتيش عسكرية على الطريق الرابط بين محافظتي أربيل ونينوى، بحسب ما أفاد مواطنون يملكون عقارات هناك .

“ن، سليمان”، يملك عشرين دونما (الدونم يعادل 2500 متر مربع) على بعد كيلو متر واحد من مقام زين العابدين بن علي في قرية علي ره ش شرقي الموصل، تلقى اتصالاً من شخص من “اللواء 30” أمره بنبرة تهديد بتحويل ملكية أرضه بما يحدد له من سعر وبخلافه فإنه لن يستطيع الوصول إليها أبداً.

سليمان يقيم في أربيل في إقليم كردستان منذ 2014 ويقول بأنه يحتفظ بسند عقاره، وانه سيعود يوماً ما لاستغلالها “عندما تتغير الظروف غير الطبيعية القائمة في نينوى”، مستبعداً فكرة البيع على الرغم من العروض التي يتلقاها باستمرار وبأسعار مغرية تزيد عن 100 مليون دينار يقدمها اشخاص يعتقد أنهم مرتبطون بطريقة او بأخرى باللواء 30”.

التوازن المفقود

وفي ظل الصراع “غير المتكافئ” بسبب ميل الكفة للوقف الشيعي بحكم تواجد قوات الحشد الشعبي الداعمة له في الموصل حسبما يشكو رجال دين فأنهم يرومون إصدار فتوى تحرم على المواطنين استئجار العقارات التي يقولون بان الوقف الشيعي استولى عليها وعرضها للإيجار.

يبرر الشيخ دحام ذلك بقوله: ” تواجد السلاح بيد أي جهة يعني بشكل أو بآخر أن التصعيد سيولد مشكلة تفضي لى عنف ومن ثم تدهور الأمن. وهذا ما نحاول تحاشيه من خلال سلوك الطرق السلمية المتاحة” .

الباحث بسام محمد، المتخصص بشؤون الأوقاف يتساءل: “مذهب الواقف في نينوى هو المذهب الحنفي، فما علاقة الوقف الشيعي به؟”. ويرى أن قيام الوقف الشيعي بالاستيلاء على العقارات هو تدارك لخطأ من قام بحلّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وتقاسم العقارات الدينية بين الوقفين.

وعلى حد قوله، “إن للسنّة فقه أوقاف تطبيقي، وقد أوقفوا جيلاً بعد جيل عقارات أكثر من الشيعة، من عمارات وبساتين ومحال تجارية، أما الشيعة فلديهم نظام مختلف هو نظام الخمس، ولم يعتادوا على وقف أملاكٍ عقارية لجامع أو مسجد”. لهذا تجري اليوم ما وصفها “بعملية الموازنة بين أملاك الوقفين باستغلال الوقف الشيعي الوضع القائم في نينوى لصالحه”.

ويقول باحثون انه باستثناء جامع للشيعة موجود في منطقة الفيصلية بالجانب الأيسر للموصل، فإن بقية الجوامع والمعالم الدينية في الموصل هي سنيّة وهذا أمر معروف، مشيرين في الوقت عينه الى ان محيط المدينة من جهتها الشرقية يضم مقامات ومزارات تحيطها قرى شبكية غالبية سكانها من الطائفة الشيعية.

لمواجهة ما يصفونه بالاستيلاء الممنهج على عقارات سنية بأهداف تجارية، لم تكتفي عدد من العائلات التي تدير بالتولية عقارات وقفية في الموصل، بما في حوزتها من وثائق بل لجأت الى دائرة الأرشيف العثماني في اسطنبول بتركيا. وحصلوا على وثائق لذات العقارات ويستعدون لضمها في ملفات دعاوى يقيمونها لفك النزاع بشأنها بين الوقفين السني والشيعي في الموصل.

ويشير الباحث المتخصص بشؤون الأوقاف بسام محمد، إلى أن النزاع بين الوقفين لا يقتصر على العقارات في نينوى فقط، بل يشابه الحال فيها مناطق أخرى من البلاد مثل صلاح الدين وبابل وديالى والأنبار وبغداد والبصرة، محذراً من أن “أهالي المدينة يراكمون السخط والغضب من تصرفات القوى المسلحة التي تحكم الموصل، وتسيطر على العقارات لصالح الوقف الشيعي”.

وطالب 13 نائباً ممثلاً عن محافظة نيوى، في كتاب وقعوه ورفعوه في 2018 إلى رئاسة مجلس النواب، بطرح موضوع عقارات الوقف السني في إحدى الجلسات، لكن ذلك لم يتحقق الى الآن.

النواب طالبوا بوقف ما وصفوه “بتجاوز وتعدي الوقف الشيعي على أملاك الوقف السني”، و”بفسح المجال أمام القضاء للفصل بين المنازعات العقارية الجارية بين أملاك الوقفين، وليس وضع اليد وفرض ذلك كأمر واقع”.

في انتظار تحرك حكومي وبرلماني قد لا يأتي أبداً، لمعالجة الملف، يرى موصليون ان الوقف الشيعي سيواصل مدعوما من الحشد “فرض التوازن المفقود” في ممتلكات الوقفين، من خلال السيطرة وبحكم الأمر الواقع على العديد من أملاك الوقف في أكبر المدن السنية في العراق.

*انجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية ونشر على موقع “درج”.

 

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17866}" data-page="1" data-max-pages="1">