ساحات الاحتجاج العراقية تستعدّ لمليونية ما بعد “كورونا”
"نحن ننتظر انتهاء الحظر والإغلاق، واتضاح طبيعة الحكومة الجديدة، لإطلاق موجة أخرى من التظاهرات، لا خيار آخر أمامنا...".
"نحن ننتظر انتهاء الحظر والإغلاق، واتضاح طبيعة الحكومة الجديدة، لإطلاق موجة أخرى من التظاهرات، لا خيار آخر أمامنا...".
مايو 2020
يجلس محمد الياسري (24 سنة) على كتلة إسمنتية عند مدخل خيمته الصغيرة في ساحة التحرير وسط بغداد، وهو يطالع تلفونه المحمول الذي ينعكس ضوؤه على وجهه في ظلام المكان، محاولاً مغالبة النعاس وسط الهدوء الذي يسود الساحة التي تحولت إلى معقل للمعتصمين المطالبين بتغيير الطبقة السياسية الحاكمة في العراق.
يغمض عينيه للحظات ثم يفتحهما بثقل وهو يسند رأسه على ركبتيه. إنه دوره في الحراسة الليلية في مخيم “أبناء الدكلاوي” الذي يضم نحو 20 خيمة، نصبت في حديقة الأمة على طرف الساحة التي شهدت طوال 6 أشهر موجات من التظاهرات الحاشدة التي جوبهت بعنف قوى الأمن وجماعات مسلحة أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى.
بدا الياسري منهكاً من مقارعة النوم في تلك الليلة. نهض من مكانه ونظر إلى الخيم والمساحة الممتدة أمامها قبل أن يدخل خيمته ويستلقي فوق فراشه لإراحة جسده تاركاً نوبة حراسته.
“الهدوء يسود المكان منذ أسابيع، لكن الحذر مطلوب فقد يفعلون أي شيء لإنهاء الاعتصامات”، يقول الياسري الموجود بشكل شبه دائم في التحرير منذ بداية الحراك الشعبي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019 والذي شارك فيه ملايين العراقيين ودفع حكومة عادل عبد المهدي إلى الاستقالة.
يضيف وهو يشير إلى كيس من الخبز وضع على طاولة صغيرة: “لقد فشلوا طوال ستة أشهر في القضاء على الاحتجاجات، ويريدون اليوم أن يستغلوا الحظر وظهور فايروس كورونا لإنهائها… لنحو شهرين قطعوا الطرق من حولنا وعرقلوا وصول المواد الغذائية لنا”.
يغمض عينيه بينما يتحسس بطنه “جاءتنا قبل رمضان بأيام لم نأكل فيها سوى وجبة واحدة، لكننا لم نستسلم… سنبقى هنا إلى أن نغير الطبقة السياسية الحاكمة وآلية ادارة البلاد”.
حظر وجوع وتحدي
مع إعلان الحكومة حظر التجوال في معظم مناطق البلاد ومنع كل أنواع التجمعات وفرض إجراءات قطع الطرق والبقاء في البيوت لمواجهة “كورونا”، رفض آلاف المحتجين مغادرة ساحات الاحتجاج التي تنتشر في بغداد ومدن الوسط والجنوب العراقي ذات الغالبية الشيعية.
ففي ساحة التحرير قبلة التظاهرات في بغداد، رفض آلاف المعتصمين رفع خيمهم ووقف احتجاجاتهم، وقرروا على رغم خطر انتشار الفايروس وإجراءات التضييق والإغلاق الكامل، الاستمرار في اعتصامهم لإفشال أي خطط لوأد الحركة الاحتجاجية المليونية التي شكلت تحركاً نادراً، أصاب الحكومة بالصدمة ودفعها لإعلان سلسلة إصلاحات وتغييرات.
منذ ذلك الوقت يسود الهدوء الساحة التي لا تزال تنتصب على جوانبها المختلفة مئات الخيم، فيما فرض المعتصمون إجراءات وقائية كالتباعد الجسماني وتقليل الاختلاط بين المتظاهرين.
الترقب والاستعداد
الترقب سيد الموقف، في ساحات الاحتجاج كلها، ولا جديد في المشهد مع حلول شهر رمضان وتخفيف إجراءات الحظر برفعه نهاراً وإبقائه ليلاً: معتصمون بعيدون من عائلاتهم منذ أشهر، يواجهون إجراءات الحظر وخطر استهدافهم وخطفهم من قبل “مترصدين” داخل الأطواق الأمنية المحيطة بهم، وقسوة قلة التموين وإن ساهم تدفق بعض المواد الغذائية للساحة في تخفيفه.
يقول المتظاهر (ج. ع.) بينما كان يتابع عبر كومبيوتر محمول، أخبار تشكيل الحكومة الجديدة: “نحن ننتظر انتهاء الحظر والإغلاق، واتضاح طبيعة الحكومة الجديدة، لإطلاق موجة أخرى من التظاهرات الكبرى… لا خيار آخر أمامنا لتغيير واقع البلاد وإبعاد هذه الطبقة السياسية الفاسدة”.
في انتظار انتهاء الحظر أو حصول تطورات تفرض تحركاً عاجلاً من المحتجين، ومع وصول أعداد جديدة من المتظاهرين لساحة التحرير وتدفق بعض المواد الغذائية بعد طول توقف عقب تخفيف قيود الحظر، يرى نشطاء أن المرحلة الأصعب لضمان إدامة الاحتجاجات أوشكت على الانتهاء.
في حلقة صغيرة مع عدد من رفاقه يناقش أحمد (26 سنة) ترتيبات إدامة المكوث في خيمتهم، وتقسيم واجباتهم، وتحديد من يبقى ومن سينزل الى بيته. يقول: “قسمنا أنفسنا إلى مجموعتين، الأولى تذهب إلى المنزل لتقليل الأعداد والاختلاط، والثانية تبقى في التحرير للمحافظة على الثورة”.
يخشى أحمد من هجمات المناوئين للاحتجاجات كما يخشى الإصابة بفايروس “كورونا”، لذا يقوم ومن معه كل يومين بتعفير خيمتهم والخيم المجاورة ويحرصون على الحراسة وعلى ضبط تنقلاتهم ذهاباً وإياباً، “اتخذنا التدابير اللازمة ومهما كان الوضع خطراً لا يمكن أن نتراجع”.
تراجع الدعم
قبيل الفجر، كان “علي رزاق” (24 سنة) منشغلاً أمام خيمته في طرف حديقة الأمة بقلي البطاطا والبيض، وهو يتلفت بين فترة وأخرى إلى رفاقه الذين ينتظرون سحورهم.
يقول: “لا أعرف كيف سيشبع زملائي بثلاثة أقراص من الخبز وبعض البطاطا والبيض ونحن سبعة أشخاص”. ويضيف “لم يتغير الكثير، قبل رمضان أيضاً كنا نضطر إلى أكل وجبتين في اليوم”.
ويرجع رزاق سبب تراجع الدعم المادي واللوجستي، في ظل حظر التجوال إلى “سد الطرق وصعوبة وصول السيارات إلى التحرير فضلاً عن الخوف من الملاحقة بتهمة دعم المحتجين”.
ويرى معتصمون أن امتداد الاحتجاجات لأكثر من ستة أشهر والتقلبات في مواقف بعض القوى المشاركة في التظاهرات، أثر في الدعم اللوجستي عموماً حتى قبل الحظر، وهو ما اضطر المحتجين إلى الاعتماد على أنفسهم وجلب ما توفر من مواد تموينية من بيوتهم.
لكن مع بداية شهر رمضان، تدفقت على المعتصمين مواد تموينية قدمها متبرعون. وشهدت الساحة تنظيم العديد من وجبات الافطار الجماعية خلال الأيام الماضية.
قبل رمضان وفي ظل الحظر الشامل، كان المعتصمون في مخيم أبناء الدكلاوي، يضطرون للسير نحو 10 دقائق إلى بداية شارع السعدون ليحصلوا على زجاجات ماء من أحد الخيم.
يقول المعتصم علي الزينبي وهو يشير إلى اثنين من أصدقائه الجالسين في الخيمة “قبل أيام تشاركنا معاً شرب قنينة ماء صغيرة”. وأكمل فيما ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة: “نحن لا نملك المال، منذ نصف عام ونحن هنا في التحرير… البعض منذ أشهر لم ير عائلته”.
مع حلول شهر رمضان بدأت خيم كثيرة تتشارك في وجبة الإفطار، وتكتفي غالبية المعتصمين بأي شيء متوفر لوجبة السحور.
يقول سجاد (22 سنة) الآتي من كربلاء للاعتصام في التحرير، إن الوضع الآن أفضل، فقبل حلول رمضان كانت 11 خيمة كبيرة تشترك في وجبة الغداء التي تتأخر إلى نحو الرابعة عصراً قبل أن تجهز: “كنا نجمع الدعم في ما بيننا ونذهب به إلى الخيمة المسؤولة عن الطبخ”.
ويضيف: “التحرير اليوم مع أزمة كورونا وقلة التمويل اللوجستي أصبح مقسماً على أساس المناطق، تشترك كل مجموعة بمخزن ومطبخ واحد للطعام، في السعدون تشترك الخيام بمخزن واحد ومطبخ وكذا فعلت خيام ساحة التحرير والجمهوري، وخيام الخلاني أيضاً”.
فقراء يستنجدون بالمعتصمين
يشارك المعتصمون وجباتهم المحدودة أصلاً، مع الفقراء في المناطق القريبة وبينهم عمال وكسبة كانوا يعتمدون في تأمين قوتهم على ما يجنونه من عملهم اليومي.
يقول المتظاهر محمد حسين: “على رغم إمكاناتنا المحدودة إلا أن الكثير من المعوزين يأتون ليشاركونا الطعام أو لطلب ما يحتاجونه من مؤن”.
وهو ما أكده المعتصم سجاد، مشيراً إلى رجل أشيب الرأس يرتدي قميصاً مهترئ الأطراف، كان يتقدم ببطء بين خيم ميدان التحرير ويطالعها بنظرات خاطفة قبل أن يتوقف في خيمة تطبخ الطعام، “إنه يأتي كل يومين ويطلب من الموجودين ما توفر من زيت وأرز ليطعم عائلته، يقول إنه عامل على عربة ورزقه انقطع منذ فرض الحظر”.
ويلفت علي، إلى أن الطعام كان كثيراً والمواد التموينية لا تنقطع في الشهرين الأولين للاحتجاجات، قبل أن تتراجع في شباط/ فبراير “ومع ظهور مشكلة كورونا في آذار/ مارس صرنا لا نتناول أكثر من وجبتين بسيطتين”.
لكن المعتصم ع. س، يرى أن السبب الرئيس لانخفاض الدعم يعود إلى “عمليات الاختطاف والترهيب التي مورست من قبل الأحزاب ما دفع الكثير من الداعمين إلى سحب أيديهم خوفاً على أنفسهم”. وهو ما جعل الخيام تعتمد على مخزونها وما يجلبه المعتصمون وعائلاتهم بأنفسهم من مواد، قبل أن تظهر مشكلة حظر التجوال التي فاقمت الوضع.
تعرض ع.س. الذي كان في إحدى خيم الدعم اللوجستي قبل ظهور “كورونا”، للاختطاف لأربعة أيام من قبل جهة مجهولة. هدده الخاطفون بعقاب كبير إن عاد للاعتصام، لكنه وفي فترة الحظر الشامل قرر العودة. يقول: “جهزت عائلتي سلات غذائية، لم تكن هناك وسيلة لإيصالها إلى التحرير غير التواصل مع أمانة بغداد وإبلاغها عن السلال للعائلات الفقيرة”.
ويضيف: “خشيت أن أقول للسائق إن السلال لمعتصمي التحرير فيغير رأيه… في النهاية أبلغته بالحقيقة فوافق على مساعدتي”.
يؤكد ع. س. أن خاطفيه اتهموه بالارتباط بسفارات أجنبية وتلقي الدعم منها: “كانت لديهم تعليقات جاهزة رداً على رفضي تلك التهم.. ومع كل إجابة لا ترضيهم كنت أتعرّض للضرب”.
خطوط الصد المتأهبة
قرب خط الصد في ساحة الخلاني، يقف الشاب العشريني حسين وهو يحمل في احدى يديه “مصيادة” (مقلاع)، ويحدق في أعلى الصبات الكونكريتية حيث عناصر مكافحة الشغب. وعلى بعد أمتار كان يجلس عدد من زملائه متكئين على حائط مبنى قديم. معظمهم شبان في العشرينات من أعمارهم قرروا الاستمرار في الاعتصام وعدم العودة إلى عائلاتهم.
حسين، الذي ملأ جيبه بحجارة صغيرة، يقول إن “المصيادة” التي يحملها هي وسيلته الوحيدة “لصد أي هجوم أو تقدم قوات الشغب بالقنابل المسيلة للدموع أو الطشاريات أو حتى الطلق الحي”.
ويستدرك: “نحن هنا نرصد حركتهم… منذ بدء أزمة كورونا لم تحصل صدامات سوى مرتين”.
يعبر المتظاهر علي الساعدي الذي بدا في الثلاثينات من عمره، خطوط الصد الخاصة بالمتظاهرين، ليرتقي أعلى إحدى المصدات الكونكريتية لعناصر مكافحة الشغب، ويتبادل الحديث معهم، قبل أن يرجع إلى موقع المتظاهرين، ويقول: “الهدنة مستمرة لم نتلقَّ تعليمات بالتصعيد”.
يُرجع نشطاء في الاحتجاجات، سبب توقف المناوشات والاشتباكات بين الطرفين والتي أوقعت 553 قتيلاً وأكثر من 24 ألف جريح حتى منتصف آذار الماضي، بحسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان، إلى قلة أعداد المتظاهرين وعدم وجود مندفعين يكسرون الهدنة في انتظار اتضاح مسار الأحداث مع انتهاء “كورونا” وتشكيل الحكومة الجديدة، وإلى إدراك المعتصمين أهمية بقائهم في الخيم وتجنب التجمعات لمنع حصول إصابات بفايروس “كورونا”.
يقول الساعدي: “كنا دائماً نصنع الهدن، لكن سرعان ما تنكسر تحت ضغط الأحداث والتطورات، لكن كورونا فرض على الجميع هدنة طويلة لا نعرف متى ستنتهي”.
يعلق أحمد خلدون وهو مسؤول فريق “المستجيب الأول” الذي يساهم في عمليات الإغاثة في ساحة التحرير ومناطق الاحتجاج المحيطة بها، أن “أي شائعة تنتشر بشأن نية قوات الشغب في التقدم تدفع المعتصمين للخروج من خيمهم والتجمع للتصدي لهم… يحدث هذا بين فترة وأخرى”.
ويضيف: “غالباً الشائعات تلك يطلقها عناصر الأمن بين المتظاهرين، وهي تجعلهم يخرجون من خيمهم ويتجمهرون وهذا الأمر يشكل مصدر خطر صحي، ويسمح لقوات الأمن بمعرفة الأعداد التقريبية للمعتصمين في المكان”.
الهدوء الذي ساد في ساحة التحرير وبقية ساحات الاعتصام في البلاد خلال آذار ونيسان، تخللته جولات اشتباكات وأحداث دامية.
يقول مصطفى كاظم، المعتصم في ساحة الحبوبي وسط الناصرية، إن اشتباكات ومحاولات تصعيد حصلت في الفترة الماضية، كان القصد منها إنهاء الاحتجاجات والاعتصام المستمر والاستفادة من واقع الحظر وبحجة منع انتشار الفايروس.
“كورونا” يغيّر الخطط
دفع ظهور فايروس “كورونا”، المتظاهرين إلى وقف احتجاجاتهم وتقليل التجمعات، إلى جانب المشاركة في جهود تعقيم الساحات ومحيطها بشكل مستمر. وأطلق معتصمون وسم (#ابقى_بخيمتك) في مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول المعتصم “علي رزاق “في الأسابيع الأولى كنا لا نخرج من الخيمة الا للضرورة”.
وفي الناصرية يؤكد المتظاهر محمد كاظم، تخفيض عدد الموجودين في كل خيمة، ويقول الصحافي حيدر الجنابي، إن متطلبات السلامة دفعت إلى تقليل أعداد المعتصمين في ساحة اعتصام النجف، مبيناً أن الساحة والخيم تخضع لتعفير دائم.
في بغداد وعقب ظهور “كورونا” وللحماية من الوافدين من الخارج، نصبت ثلاثة أكشاك لتعفير المتوجهين إلى الساحة. يقول سجاد “نصبناها في أيام الحظر الأولى، كنا نخشى أن يدخل شخص مصاب ومدفوع من أحزاب فيتسبب بوقوع إصابات هنا”.
على باب بعض الخيم في التحرير تتدلى علبة كحول مربوطة بحبل، على كل من يدخل استخدامها لتعقيم يديه. يقول غسان صبري (26 سنة)، “اتخذنا تدابير وقائية، وكل من يدخل خيمتنا عليه أن يعقم يديه وما يحمله من مواد”.
الكثير من المخيمات الموزعة في الساحة تدعو زائريها حتى لو كانوا من الخيم المجاورة إلى تعقيم أيديهم وأسفل أحذيتهم، ويحرصون على جلوسهم في طرف الخيمة بعيداً من مجموعتهم، بحسب محمد الياسري.
ويقوم متطوعون كفريق “المستجيب الأول” واتحاد طلبة بغداد، بتعفير الخيم باستخدام مرشات صغيرة توضع على الظهر.
نشاط فريق “المستجيب الأول” الذي أسسه ناشطون مع انطلاقة الاحتجاجات في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 كان يقتصر على الاستجابة السريعة لمن يحتاج للإسعافات الأولية ثم قام برعاية عدد من المفارز الطبية في الساحة، ليتحول اليوم إلى خط دفاع أول ضد “كورونا” في الساحة.
الفريق يوفر مواد التعقيم والحماية، إضافة إلى إجراء فحص قياس الحرارة. يقول أحمد خلدون مسؤول الفريق، “سيارة الإسعاف تستغرق وقتاً للوصول الى التحرير لهذا اشترينا جهاز قياس الحرارة من بعد للتعامل مع الحالات المشكوك فيها”.
ولم يقتصر عمل الفريق على ميدان التحرير بل تجاوزه إلى الاحياء المجاورة خشية وجود إصابات بالفايروس، قد تهدد من في الساحة. يقول خلدون: “هناك سكان في المناطق القريبة يأتون إلى التحرير لطلب الغذاء لهذا شملناهم بخطة التعفير”.
هدوء تحت النصب
“للمرة الأولى، أشهد غياب المتظاهرين عن المساحة الممتدة تحت نصب الحرية حيث كانت تنظم فعاليات مختلفة. وفي الخيم بدا واضحاً انخفاض أعداد المعتصمين وإلى حد كبير”، يقول زياد عبدالله الذي زار ساحة التحرير بعد نحو شهرين من الغياب.
يقدر مصطفى (25 سنة) وهو معتصم من الناصرية، الأعداد في ساحة التحرير بأقل من ألف شخص موزعين على نحو 350 خيمة. يقول: “مع ظهور الفايروس اتفقنا على تقليل أعداد الموجودين هنا بعودة البعض الى منازلهم”، مبيناً أن معظم الذين بقوا في الساحة هم الوافدون من خارج بغداد.
اتبع من بقي في ساحة الاعتصام أشد الإرشادات لمنع انتشار الفايروس، من وقف التجمعات والبقاء داخل الخيم لساعات وعدم الاختلاط مع الغرباء والتعقيم المستمر وحتى تشميس الفرشات والأغطية.
يقول مصطفى بينما يحمل فراشه إلى خارج خيمته لنشره تحت أشعة الشمس، “تعودنا على ذلك طوال أسابيع، في الأيام الأولى كان الممر الضيق في أطراف حديقة الأمة مملوءاً بالفرش”.
يقول ع. س، “اليوم في التحرير الجميع ملتزم بإجراءات الوقاية والتباعد الجسماني، حتى أنهم ملتزمون أكثر من بعض المناطق في بغداد كمدينة الصدر”.
الوقف الموقت للتظاهرات الاحتجاجية لم يمنع المعتصمين من التعبير عن مواقفهم تجاه التطورات، لكنهم غيروا طريقة التعبير فلجأوا بشكل أكبر إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما فعله علي الزينبي الذي نشر صورة للمرشح السابق لرئاسة الحكومة عدنان الزرفي وعليها علامة “إكس”، في إشارة إلى رفضه إياه.
كما نشر محتجون صوراً لهم أمام خيمهم وهم يحملون لافتات ترفض ترشيحات الأحزاب للحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، ورفعوا في مواقع عدة صور مرشحين لوزارات وعليها علامة “إكس”.
ونظم شباب معتصمون في ساحة التحرير في 13 نيسان، مسيرة صامتة التزمت التباعد الجسماني، لإعلان رفض الكاظمي، إذ تجمع العشرات مرتدين الكمامات وهم ويحملون لافتات وبين كل متظاهر وزميله مسافة أكثر من متر. يقول إكرام (21 سنة) “المسيرة كان لها هدفان، الأول بيان أن الساحة ترفض الكاظمي والثاني رسالة توعوية للالتزام بإجراءات الوقاية”.
مليونية بعد الحظر
مع تخفيف إجراءات حظر التجوال، أطلق محتجون في ساحة التحرير حملة توزيع مطبوعات دعت “للعودة لثورة أكتوبر”، وذكرت بأهدافها، مع هاشتاغ “مليونية بعد الحظر”.
ولم تقتصر الاستعدادات على بغداد، ففي محافظة واسط جنوب البلاد أعلن متظاهرون عن تحركات غير مسبوقة .
وأيد متظاهرون من بغداد ومحافظات أخرى تلك الدعوات، وتوعدوا “بجولة جديدة” من الاحتجاجات و”الزحف نحو الخضراء” إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم.
ويطالب المتظاهرون بتشكيل حكومة وطنية تحصر السلاح بيد الدولة وتحاسب قتلة المتظاهرين، وإقرار قانون منصف للانتخابات وتشكيل مفوضية مستقلة لها تمهد لإجراء انتخابات مبكرة.
يقول بسام السراي، عضو اتحاد طلبة بغداد، وهو أحد المؤيدين لانطلاق جولة جديدة من التظاهرات عقب زوال خطر “كورونا”، إن “التحشيد والحملات التي نطلقها تهدف إلى التذكير بمطالب الثورة بخاصة عقب غياب التغطية الإعلامية”.
ويرى اكرام الذي ينتمي بدوره لاتحاد طلبة بغداد، أن النظام السياسي الحالي “وعقب تورطه في قتل المتظاهرين وتحوله إلى القمع ومصادرته حق الاحتجاج ومماطلته في تنفيذ مطالبنا، لم تعد له شرعية، لذا نريد إسقاطه”.
ويضيف: “سيكون هناك تصعيد بعد أزمة كورونا… نحن نحضر لمليونية جديدة، ونفكر بمحاصرة أبواب المنطقة الخضراء”.
بينما تلقي تلك الدعوات حماسة بعض المعتصمين “الذين ملوا الانتظار”، فان الكثير من قادة تنسيقيات الحراك يرون ضرورة منح الحكومة الجديدة فرصة لإثبات جديتها في “تعديل المسار السياسي والتحرك لمحاسبة مرتكبي جرائم قتل المتظاهرين”.
لن ننتظر طويلاً
يقول أحد النشطاء المعروفين في الاحتجاجات، “علينا أن نتحمل ربما شهرين آخرين لنرى ما ستفعله الحكومة الجديدة، لن نترك ساحات الاعتصام بل سنستعد للتصعيد، ستكون هناك في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس جولات مواجهة ساخنة”.
ويُضيف: “نُذكر الحكومة بكثرة الملفات الضاغطة التي لا يمكن الهروب منها عبر الوعود والتسويات السياسية، منها البطالة والفقر اللذان زادا مع كورونا، والخطر الذي يهدد رواتب الموظفين مع تراجع أسعار النفط”.
ويستبعد ذلك الناشط، أن يكون لمشاركة الصدريين في الحكومة الجديدة تأثير في إنهاء التظاهرات “منذ أشهر يريدون إخضاع التظاهرات لهم، مواقفهم متقلبة ويتجاوزون بين فترة وأخرى على بقية المعتصمين، لم يعد كثيرون يعولون عليهم لقيادة الاحتجاجات التي ستستمر من دونهم حتى لو قرروا الوقوف في الطرف الآخر”.
يقول المتظاهر (ك. ج) بينما كان يحصن أحد خطوط الصد في مواجهة القوات الأمنية قرب جسر الجمهورية “لن ننتظر طويلاً”. ويضيف وهو يشير بيده الى ما وراء النهر: “إن لم تتحقق مطالبنا فسنصعد مجدداً وسنبدأ تظاهرات مليونية ربما في جولة أخيرة حاسمة لتحقيق التغيير”.
*انجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية