الموصل: جنود يستبيحون نساء عناصر “داعش”
دلوفان برواري وفريق “استقصاء الموصل”
في ذلك المساء، وبعد اتصال هاتفي قصير، انفجرت شيماء (20 سنة) بكاءً، أعقبته بصراخ متقطع مكبوت، قبل أن تتملكها موجة هستيريا مدت معها قبضتيها إلى شعرها، منتزعة خصلات منه وهي تلطم على وجهها. لم تستطع شقيقتها (ليلى) إيقافها وهي تحتضنها بقوة وتمسح دموعها، قبل أن تتوقف فجأة عن الصراخ وتنظر إليها بعينين داميتين، وتردد “لا شيء يمكن أن يوقف هذا الألم… لا شيء يمكن أن يغسل هذه النجاسة كلها“.
لحظات من الصمت مرّت وهي ممدة على الأرض إلى جانب ليلى (27 سنة)، بينما كانت تنظر بعينين نصف مفتوحتين إلى شقيقتها الأصغر مها (12 سنة)، التي بدت جامدة كتمثال من الشمع في زاوية الصالة، قبل أن تنسحب إلى غرفة جانبية في منزل العائلة شبه المهدم، بعدما طاولته قذائف الحرب. أغلقت مها الباب على نفسها، وبعد دقائق من الكلام المغمغم الممزوج بالبكاء عادت إلى الصراخ وبدأ الدخان يخرج من تحت الباب عابقاً برائحة احتراق جسدها.
حين تمكنت ليلى من كسر باب الغرفة الخشبي وهي ترتجف وتنادي شقيقتها، كانت النار تلتهم بقايا ملابس شيماء مع صور لوالدتها وصندوق صغير كان يضم كل ما تركته لعائلتها، التي انضم أحد أبنائها إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سنوات سيطرته على الموصل، قبل أن تجد العائلة نفسها مطاردة ومنبوذة ومهددة بكل أنواع الاستغلال مع رحيل التنظيم، مثل مئات العوائل الفقيرة التي تورط أبناؤها في مبايعة التنظيم، كما يقول أحد الأقارب.
بعدها بيومين توفيت شيماء في مستشفى الموصل، نتيجة إصابتها بحروق من الدرجة الرابعة، بعدما “يئست من إيجاد سبيل للخلاص من وجع استغلالها جنسياً من قبل أحد أقرب الناس إليها، تاركة عائلة تضم طفلين بلا معيل، يتهددها الفقر والاستغلال والوصمة الاجتماعية وتطاردها إجراءات الأجهزة الأمنية“، هذا ما تقوله ناشطة مدنية تابعت أوضاع العائلة أشهراً، أملاً بمساعدتها وسط جو من الكتمان والرعب والصدمة.
شيماء، التي ذبل جمالها، في سنوات حكم التنظيم في نينوى (2014-2017)، وبعدها خلال الحرب التي أتت على معظم أجزاء المدينة القديمة ذات البيوت المتلاصقة والأزقة الملتوية الضيقة، وجدت نفسها بعد وفاة والدها ومقتل شقيقها في إحدى معارك التنظيم، مسؤولة عن إعالة العائلة، لتتعرض، مع استعادة القوات العراقية المدينة، لأشكال النبذ الاجتماعي والاستغلال الجنسي المختلفة.
طعنة الخال
تقول الناشطة التي تعمل في الموصل منذ تحريرها، والتي فضلت عدم ذكر اسمها والجهة التي تعمل فيها “تعرضت شيماء لأبشع أنواع الاستغلال، لا سيما الجنسي، ومن أقرب الناس إليها، كخالها المنخرط في إحدى التشكيلات الأمنية والذي لجأت إليه لمساعدتها، ومن أفراد آخرين في الأجهزة الأمنية المختلفة التي تسيطر على نينوى بسبب شقيقها الداعشي المقتول“.
تتحسر الناشطة على شيماء، بعدما عجزت عن مساعدتها، تقول: “أفراد عائلتها عادوا إلى الديار بعد فترة نزوح، خوفاً من حجزهم في مخيمات العزل التي أقامتها الحكومة لعائلات مقاتلي التنظيم، ما جعل العائلة هدفاً سهلاً للاستغلال في بيئة معادية، فكثر من سكان منطقتهم الذين عانوا من تصرفات شقيق شيماء، اعتبروا أن جميع أفراد العائلة هم مجرمون لا ضحايا“.
تنتشر حول الموصل، التي تعرض نتيجة الحرب نحو 40 في المئة من أحيائها لدمار كلي أو جزئي، 6 مخيمات تضم آلاف عوائل مقاتلي التنظيم، بينها مخيم عزل يضم عدداً كبيراً من عوائل التنظيم، الذين يعيشون في ظروف معيشية يصفها نشطاء بـ“الكارثية“، وفي شبه عزلة، في وقت لم ترسم الحكومة العراقية ولا المنظمات المحلية والدولية رؤية واضحة بشأن كيفية التعامل معهم، بوجود نسب عالية من النساء الأرامل والأطفال اليتامى الذين يكبرون في بيئة من الاستغلال والحرمان والنبذ الاجتماعي والضغط الأمني.
عشرات حالات الاستغلال
في عدد من تلك المخيمات وفي بعض أحياء الموصل رصد فريق التحقيق، أكثر من 16 حالة استغلال جنسي في ثلاثة أشهر من التقصي، فضلاً عن توثيق عدد مضاعف من القصص على لسان نازحين مقربين من الضحايا، إلى جانب شهادات رجال أمن حاولوا وقف عدد من الاعتداءات.
من بين الضحايا هدى، التي لم تكن بلغت الخامسة عشرة من عمرها حين زوجت بالإكراه من أحد عناصر التنظيم، بعدما مارس ضغوطاً على عائلتها، لكنها ذاقت بعد تحرير المدينة ومقتل زوجها الذي لطالما حلمت بالخلاص منه، أشكالاً مختلفة من الحرمان والاستغلال، حتى وقعت في شباك أحد منتسبي القوات الأمنية الذي “استغلها جنسياً مقابل أن يحميها من الضغوط الاجتماعية والملاحقات الأمنية“.
تطور الأمر ليتحول منزل هدى شبه المدمر، في حي الأمين في الجانب الأيمن من الموصل، جراء القصف الجوي لما يشبه “وكر دعارة، يتردد إليه عشرات من منتسبين أمنيين وآخرين مقابل وجبة طعام أو بضعة آلاف من الدنانير“.
هذا التحقيق يرصد انتهاكات تتعرض لها نساء عائلات عناصر تنظيم داعش في الموصل على يد القوى الأمنية النظامية..
في أعقاب اللقاء الذي اجراه فريق التحقيق مع شيماء وهي واحدة من الضحايا أقدمت الشابة على الانتحار حرقاً…
فخ الإجراءات والمراجعات
قبل أن تقدم على الانتحار بشهرين، التقى فريق التحقيق شيماء، يومها قالت وهي تمسح دموعها بيدها التي حفرتها جروح سكين نتيجة محاولة انتحار سابقة: “وأنا أحاول تأمين حياة لمن بقي من أفراد العائلة، لم أسلم من شر أحد، حتى خالي استغلني من دون ضمير أو خجل“.
شيماء عانت من التحرش، واستغلها كثيرون وصفتهم بالذئاب، منهم موظفو دوائر كانت تراجعهم للاستحصال على راتب والدها التقاعدي. تابعت من دون أن ينقطع سيل الدموع على وجنتيها: “الجميع ينظر إليَ كفتاة مباحة وليس لي من يحميني“.
الضغوط والملاحقات الأمنية، دفعت بشيماء إلى الدخول في علاقة مع أحد منتسبي الحشد الشعبي، الذي حماها من خالها ومن آخرين حاولوا استغلالها، “ليستأثر” بها لنفسه.
كان هم شيماء استخراج أوراق ثبوتية وشهادة وفاة والدها، لتحصل على راتبه التقاعدي، وتعيل شقيقها الصغير وشقيقتها الأصغر، وعندما أوكلت محامياً ليتولى ذلك، عجزت عن دفع أجرته ما عطل حلم خلاصها من الاستغلال، وهذه كانت القشة التي دفعتها إلى إنهاء حياتها، بحسب ليلى “نحن نحاسب بجريرة شقيق عاق ظالم حول حياة العائلة بأكملها إلى جحيم“.
“لم يكن أحد راضياً عن انتماء شقيقنا إلى داعش“، تضيف ليلى “لقد اقدم على ضرب والدتي وشهر السلاح بوجه والدي الذي توفي بعد ذلك بجلطة قلبية، لأنهما رفضا تأييده، واليوم نُتهم بسببه… لأننا فقراء لم نجد أحداً يساندنا، أقرباؤنا تخلوا عنا… بينما بعض الدواعش وعوائلهم ممن لهم عشائر او أموال، يعيشون بلا مشكلات، وبعضهم يتسلم اليوم مناصب في الدولة“.
النبذ الاجتماعي والحصار
صحافي من الموصل، وثق الكثير من حالات استغلال أبناء من تورطوا مع التنظيم وبناتهم، قال لفريق التحقيق “هدى وشيماء وغيرهما ممن نكتشف تعرضهن للاستغلال، هن حالات قليلة من بين مئات الحالات التي تحصل في الموصل وداخل المخيمات، وتحاول مختلف الجهات كتم الحقائق لاعتبارات اجتماعية وأمنية“.
ويضيف (ع. أ) أن “مئات العوائل يتعرضون منذ تحرير المدينة للنبذ الاجتماعي ولعزلة أشبه بالحصار في بيوتهم أو في المخيمات، ما يعرضهم لمختلف أنواع الاستغلال. وثق صحافيون ونشطاء كثيرون قصصاً لفتيات يعملن في الدعارة مقابل حمايتهن من الملاحقة الأمنية أو لتأمين قوت يومهن، فيما الحكومة لا تفكر بمعاقبة المتورطين وفق القانون، وتنعدم أي رؤية لحماية الأبرياء من عائلات عناصر التنظم، وإعادة دمجهم في المجتمع“.
تؤكد منظمات دولية بينها “هيومان رايتس ووتش“، في تقاريرها أن أفراد عوائل التنظيم يتعرضون لعقوبات جماعية وعزل في المخيمات في ظروف غير إنسانية، وتفرض السلطات إجراءات مشددة ضد أفراد وأسر يُعتقد أن أقاربهم دعموا داعش وهو ما يصل إلى درجة “العقاب الجماعي“.
ويقول الخبير بالجماعات المسلحة هشام الهاشمي، إن “هناك الكثير من الانتهاكات تتعرض لها عوائل داعش، من دون أن ترصد قانونياً أو قضائياً، فالرشوة منتشرة، أي أن تدفع لكي لا تتعرض لمشكلات أو مضايقة، وهناك الاستغلال الجنسي والاغتصاب، فضلاً عن الاستيلاء وبيع المساعدات التي تقدمها المنظمات المدنية، وصولاً إلى استخدام الأطفال في التسول“.
ويقر الناشط (ح أ)، الذي تفقد المخيمات في إطار مشاريع تديرها المنظمة التي يعمل فيها، بوجود تجاوزات كثيرة: “الفقراء هم الضحية دائماً، هؤلاء تُركوا بلا مال ولا سند، في مخيمات تشبه السجون، يصعب الدخول إليها والخروج منها، في انتظار إيجاد تسويات لأوضاعهم المأساوية قد تتطلب سنوات، فالبعض لا يجد ثمن الخبز والمسكن، أما الأغنياء فغيروا مناطق إقامتهم، دفعوا أموالاً ورحلوا إلى منطقة أخرى أو مدينة أخرى، وهم يحاولون بناء حياة جديدة وحتى الفوز بمواقع في الادارة ومراكز السلطة“.
أرقام في المخيمات
الأمر لا يتعلق ببضع مئات من العوائل “المنبوذة” نتيجة انتماء افرادها لتنظيم “داعش“، أو مئات المطاردين من عشائر سقط أبناؤها ضحية للتنظيم، بل يتعلق الأمر بآلاف العوائل وعشرات آلاف الأفراد الذين يتعرضون لانتهاكات مختلفة.
تظهر إحصاءات، في 6 مخيمات، ان عدد الأرامل يصل إلى حوالى 3000 أرملة، وهذا الرقم هو دون الرقم الحقيقي، بحسب نشطاء، لأن كثيرات من المتزوجات ممن فقدن أزواجهن (قتلى او مفقودين)، لا يعترفن بحصول زواج لم يثبت في أي أوراق رسمية.
ويكشف مسؤول في أحد تلك المخيمات، لفريق التحقيق، أن “نسبة الأرامل من مقاتلي داعش تصل إلى نحو 70 في المئة من مجموع الأرامل في المخيم“.
ويقدر متابعون للتنظيم منذ نشأته حتى انهيار دولته في الموصل، عدد عوائل التنظيم، بحوالى 20 ألف عائلة، معتمدين على إعلان للتنظيم عام 2015 يبين فيه أن عدد مقاتليه يتجاوز الـ25 ألف مقاتل، ووفق تقديرات المتابعين فإن أكثر من 70 في المئة من الرقم الأخير المذكور متزوجون ولديهم عائلات، إذ كان التنظيم يشجع على الزواج في سن مبكرة.
ويشير مسؤولون محليون، إلى وجود أكثر من 100 ألف شخص يعيشون محتجزين في مخيمات في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين، كونهم من “عوائل دواعش“، بعد منعهم من العودة إلى مناطقهم الأصلية.
أصدرت الحكومات المحلية في المحافظات الثلاث قرارات بترحيل أسر عناصر التنظيم أو بمنع عودتهم إلى مناطقهم لسنوات عدة، لمنع حصول اعتداءات. وأنشئ مخيم واحد على الأقل في كل محافظة، لضم أفراد عوائل التنظيم الذين لم تُثبت سلامة موقفهم الأمني.
وبحسب إحصاءات حكومية، هناك 94 مخيماً في العراق، يسكنها حوالى 300 ألف نازح من مختلف الفئات العمرية، “منهم نحو 118 ألف نسمة لم تتضح سلامة موقفهم، فهم من عوائل انتمى بعض أفرادها لداعش، منهم من عمل وظيفياً وخدمياً، وبحكم الأمر الواقع، في سنوات سيطرة التنظيم على نحو ربع البلاد، من دون أن يتورط في الملف الأمني أو العسكري، ولَم يشهد عليهم احد أنهم كانوا داعشيين“، يقول الخبير الأمني هشام الهاشمي.
وتقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عدد النازحين في العراق حالياً بحوالى مليوني نازح، نحو نصف مليون منهم لا يزالون في المخيمات.
العقاب الجماعي
مئات النساء في مدينة الموصل تزوجن من مقاتلي التنظيم أو أفراده، مكرهات او مضطرات، وهناك مئات اكتشفن أن أزواجهن أفراد في التنظيم بعد سقوط المدينة بيدهم، وأخريات انضم أبناؤهن أو اخوتهن إلى التنظيم رغماً عن إرادتهن “بغض النظر عن صلة القرابة، كل هؤلاء النسوة لم يكنّ منتسبات في التنظيم ولم يرتكبن أي جرم، وهذا يبرئ ساحتهن بحسب القانون“، وفق المحامي أحمد محسن.
ويكنّ جزء من سكان الموصل، ومعظم الذين تعرضوا للأذى على يد التنظيم، العداء لأفراد عوائل التنظيم، وينبذونهم، لا بل لا يكترثون بوضعهم، ويطالب البعض بمعاقبتهم.
يقول نعمت سليمان (30 سنة) من سكان الموصل القديمة إن “معاقبة عوائل تنظيم داعش أمر ضروري، فيكون ذلك بمثابة درس، ولمنع عودة مثل هكذا تنظيمات متطرفة إلى المدينة مستقبلاً… لقد عاثوا في الارض فساداً، هل يعقل أن يكون الأب أو الأخ أو الزوج داعشي والعائلة ضد فكرة انتمائه وسلوكه وفي الوقت ذاته تقبل العيش معه؟ أكيد لا… وهذا ما رأيناه بأعيننا، أعرف الكثير من الصبية كانوا يتفاخرون بكون والدهم أو شقيقهم ينتمي للتنظيم“.
هذا ما واجهه، أقرباء الداعشيين الذين لم يتمكنوا من تغيير مواقع إقامتهم بسبب سوء أوضاعهم المالية ورفضهم النزوح إلى المخيمات لأسباب مختلفة. ووصل الأمر في بعض الحالات إلى منع تزويدهم بالمساعدات التموينية.
يقول محمد أحمد، وهو ناشط مدني شاب في الفرق التطوعية التي تعمل على تقديم المواد التموينية للعوائل، إن “أهالي بعض أحياء الموصل القديمة منعونا من تقديم المساعدات لعائلة مكونة من امراة وثلاثة أطفال، لأن الزوج كان داعشياً، وعند إصرارنا على ذلك أبلغو القوات الأمنية بأننا نساعد الدواعش، فمُنعنا من دخول الحي بأكمله“.
يقدر عدد أفراد عائلات عناصر داعش في الموصل بنحو مئة ألف
هذه الأحكام الجماعية بحق عوائل التنظيم، يرفضها البعض مؤكداً أهمية التفريق بين من اقترف جرماً ومن لم يتورط في ذلك، لكن وسط الفوضى والخراب والعجز الحكومي ومعاناة ضحايا التنظيم، أصوات هؤلاء تظل خافتة وبلا قيمة.
يقول مصطفى حسين (40 سنة) وهو مدرس تاريخ، إن “العراق منذ منتصف القرن الماضي ينتهج سياسة معاقبة شرائح كاملة من الشعب ما يحولهم إلى معادين للدولة“، مذكراً بسياسات طرد اليهود ومن ثم استهداف الفيلية وإقصاء الأكراد، سائلاً عن مصير أبناء الدواعش ونظرتهم إلى المجتمع والدولة.
يبرز الناشط المدني جمال عبدالله، حجم المشكلة وتداعياتها “اليوم حوالى 100 ألف إنسان، ينظر إليهم كمذنبين من دون النظر في أوضاعهم، جميع هؤلاء منبوذون ومطاردون، يتعرض بعضهم للعنف الجسدي والجنسي لمجرد أنه استمر في العمل مثلاً في دائرة أو مستشفى أيام حكم التنظيم… ربما نصف هؤلاء دون سن 18 سنة… مجرد أطفال سيكبرون في أوضاع مأساوية وسيشكلون خطراً مستقبلياً إذا تأخر تأهيلهم ودمجهم مجتمعياً… إنهم قنابل موقوتة لعنف جديد“.
ويشدد الباحث حسن الابراهيمي، على ضرورة احتواء عوائل التنظيم ووضع آليات خاصة لمراقبتهم ومتابعة سلوكياتهم وإخضاعهم لبرامج تأهيل وفق حجم تأثرهم بالتنظيم وأفكاره، منبهاً إلى أن العقوبات بكل أشكالها “ستتسبب بمزيد من العقد والمشكلات الاجتماعية التي ستظهر نتائجها في المستقبل على شكل ردود فعل معاكسة في سلوكيات الضحايا“.
ويفسر الابراهيمي رد فعل المجتمع الشديد تجاه عوائل “داعش” برغبة المجتمع في “التبرؤ من كل ما له علاقة بالتنظيم، وتحميله ذنب ما حدث للمدينة، هذا الذنب الذي كاد لفترة يتهم به كامل المجتمع الموصلي“.
الاستغلال المسكوت عنه
في آخر لقاء لها مع أحد أفراد فريق التحقيق، كشفت شيماء تعرضها لأشكال مختلفة من المضايقات، كأخذ وثائقها الثبوتية وشهادة وفاة والدها وبطاقة الراتب التقاعدي، علاوة على المداهمات والتفتيش المستمر لمنزلها من قبل مجموعات أمنية مختلفة، وهذه المعاناة لم تتوقف، إلا مع بدء علاقتها مع أحد المنتسبين إلى الحشد.
ويعد الاستغلال الجنسي والتحرش، من أكثر الانتهاكات التي تتعرض لها عوائل التنظيم. يرجع أحد منتسبي قوى الأمن العاملين في الموصل ذلك إلى سببين “الأول ان هذه العوائل لا تملك المال لترتيب أوضاعها، هي فعلياً لا تملك غير أجساد أفرادها لتدفعها، مقابل الحماية أو تأمين قوت يومها، والثاني أن البيئة المحافظة تجعل من الصعب قيام الفتاة أو أي فرد من عائلتها برفع شكوى والإبلاغ عن تعرضها للاعتداء“.
يقول المنتسب، وهو بدرجة ضابط رفض كشف اسمه خوفاً من الملاحقة، إن “بعض المنتسبين يستغلون عوائل الدواعش بأشكال مختلفة، ويعتبرون كل شيء مباح… بعضهم يتسابق للوصول إلى أفراد هذه العائلات سواء في المخيمات أو بيوتهم ولا يتوانون عن حجز الضحايا بحجة التحقيق واستغلالهم جنسياً حتى لو بالقوة“.
“قبل أيام قمنا بمداهمة منزل بعد ورود معلومات عن وجود عناصر من التنظيم فيه، لكننا فوجئنا بمنتسب برتبة عقيد يمارس الجنس مع زوجة داعشي، قمنا باعتقاله وتحويل أوراقه إلى قيادة العمليات“. يضيف المنتسب: “لا نعرف ماذا نفعل، الجميع يعرفون بوجود تجاوزات، لكن فعلياً لا أحد يشتكي“.
وهذا ما حصل لهبة، وهي أم لطفلين قتل زوجها في قصف جوي، فهي تعرضت للاعتداء من منتسبين في قوات حماية مخيم الجدعة في القيارة، هددوها بالاعتقال بتهمة التعاون مع أخوتها الذين عملوا مع “داعش“، ما لم تسلم نفسها لهم مقابل منحها بعض المساعدات.
تقول وهي تخفي وجهها بالبرقع، فيما غطت عباءة سوداء متسخة الأطراف كامل جسدها، نحن ضحايا ندفع ثمن ما قام به كل من انتمى لداعش“… ثم أردفت وهي تتلفت حولها في الخيمة التي كانت خالية إلا من بضع بطانيات وفرش وبعض الأواني، للتأكد من عدم وجود أحد “ندفعه من شرفنا وحريتنا وكرامتنا“.
وتضيف هبة، بصوت بالكاد كان مسموعاً، وهي تنظر إلى مدخل الخيمة “كان اخوتي مقاتلين مع داعش، لماذا أنا اعاقب بجريرتهم، وما الفرق بين من يستغلنا جنسياً وما كان يفعله التنظيم… كل يوم أتمنى الموت لكي تنتهي معاناتنا“.
السيدة التي توحي ملامحها بأنها في نهاية العقد الثالث من عمرها، مسحت جبينها من العرق على رغم برودة شهر كانون وخلو خيمتها من أي مدفأة، وقالت لفريق التحقيق: “تعرضت لابتزاز متواصل، حتى قال لي أحدهم إن كنت تريدين الخلاص من كل ذلك فيمكنني حمايتك ولكن تعرفين ماذا أريد“.
بعد صمت قصير وكأنها تريد انتقاء كلمات مناسبة، قالت بصوت مختنق “بعدما استغلني مرات عدة، أصبحت مباحة للجميع… أصبحت أمارس الجنس لأضمن الطعام لأطفالي في كل ليلة… نحن لا نملك ثمن رغيف خبز“.
توقفت عن الكلام وهي تحاول التقاط أنفاسها وحبس دموعها، قبل أن تنهار باكية: “صار الجنس عملي مقابل 3 أو 4 دولارات… فقط لأعيش مع أولادي من دون تهديد… لكي أسد جوعهم واشتري الدواء لهم“.
وأردفت وهي ترفع رأسها ناظرة إلى باب الخيمة حيث يلعب طفلاها في الجوار “بدأوا يكبرون ولا أعرف ما مصيرهم ومصيري“.
انتهاكات وصمت
مع بدء عمليات استعادة الموصل من تنظيم الدولة، وقدوم الموجات الأولى للنازحين الهاربين من المعارك، كانت الإجراءات الأمنية تقضي بعزل الرجال عن النساء اللواتي كن يرسلن إلى المخيمات، فيما كان يحصل التدقيق في هويات الرجال، وفق قوائم أسماء المشتبه بهم الموجودة لدى القوات الأمنية، وهو إجراء خلق تصوراً بعدم شمول النساء بأي تدقيق وإجراء أمني.
لكن ذلك لم يكن صحيحاً، على الأقل في مناطق عدة في محافظة نينوى، حيث كانت القوات الامنية تؤشر بأرقام على البطاقات التموينية لكل عائلة يثبت تورط أحد أفرادها مع التنظيم، ليتم في ما بعد فرزهم وعزلهم عن العائلات الأخرى، بحسب منتسب في أحد الأجهزة الأمنية العاملة في الموصل.
قال المنتسب إن “البطاقات التموينية لكل عائلة تورط احد عناصرها مع التنظيم، كتب عليها رقم 3 او 4 ليتم التحقق لاحقاً من كل افراد العائلة وملاحقة العاملين مع التنظيم“.
الإجراءات الأمنية بحق تلك العائلات تعددت أشكالها، من حجب الوثائق الثبوتية إلى المداهمات والتوقيفات والاعتقالات التي شملت نساء عوائل انتمى أفراد منها إلى التنظيم، وهذا ما حدث مع منى (15 سنة) ووالدها المنتمي إلى التنظيم وقريبتها أم سميرة. الأخيرة أكدت اعتقالها مع منى أثناء توجههما من منطقة المكاوي في الموصل القديمة إلى المخيم مع نساء أخريات تم إطلاق سراحهن لاحقاً، فيما بقيت هي ومنى وأختها الصغيرة في الحجز.
أم سميرة، التي بدت في الثلاثينات من عمرها، كانت متشحة بالسواد وتغطي وجهها بغطاء رأس رمادي، لحقت بفريق التحقيق، بعد خروجه من خيمة تجمعت فيها عشرات من زوجات مقاتلي التنظيم وبناتهم وأمهاتهم. وهمست من دون أن ترفع وجهها عن الأرض “لقد اغتصبوني مرات عدة في المعتقل، وكذلك منى التي توفيت بعد أسبوع من إطلاق سراحها وهي في حالة انهيار تام… كانت تصرخ بشكل هيستيري: اغسلوني لأنظف“.
أم سميرة أكدت أن “أكثر من شخص قام باغتصابها في يوم واحد“، قبل أن يتم اطلاق سراحها وإرسالها إلى المخيم، لتصل بعد فترة منى وهي منهارة تماماً.
اكتشفت العائلة الأمر، لكن الجميع آثروا الصمت في تلك الظروف حيث المعارك من جهة والفوضى في المخيمات من جهة ثانية.
لم يستطع فريق التحقيق، التثبت من صدقية رواية أم سميرة، بسبب ظروف المراقبة والمتابعة في المخيم الذي كانت فيه.
وفشلت محاولات الفريق في الحصول على رد أو حتى تعليقات من عدد من كبار الضباط بشأن تلك الانتهاكات، كما لم يردوا على رسائل الـ(sms) التي وجهت لهم.
في المقابل، اكتفى العميد يحيى رسول الناطق الرسمي باسم قيادة العمليات المشتركة، بالقول “لم تردنا أي شكوى أو معلومات بخصوص هذه الانتهاكات، وإذا وصلتنا أي شكوى سوف نتحقق من الأمر ونتخذ الإجراءات القانونية بحق المتجاوز، نحن لا نقبل الاعتداء على أي مواطن من قبل اي جهة كانت“.
وأضاف رسول: “لدينا اتصالات وتنسيق مع القيادات ومن ضمنها قيادة الجيش والأمن الوطني والحشد الشعبي، فان كان المتجاوز من اي فصيل امني يمكننا التنسيق مع قيادته لمعاقبته والجميع متفهم لضرورة فرض القانون“.
امتهان الدعارة
الحاجة والحصار الاجتماعي والملاحقة الأمنية، دفعت الكثير من عوائل داعش، إلى امتهان الدعارة للحصول على القوت والحماية من الملاحقة الأمنية.
خنساء (16 سنة) واحدة من ضحايا الحصار والملاحقات، بعدما نزحت من قرية حسن شامي إلى مخيم الخازر مع والدتها، مع بدء عملية تحرير نينوى نهاية 2016 وسيطرة القوات الأمنية على القرية واعتقال شقيقيها المنخرطين في التنظيم. انتهت بها الحال للعيش في خيمة يعتبرها الكثير من سكان المخيم مشبوهة لكثرة تردد عناصر الأمن وأشخاص آخرين إليها.
كشفت لفريق التحقيق، الذي تحدثت إليه من خيمتها، عن تعرضها للاغتصاب من قبل نازح كانت تربطها به علاقة حب، لكنه تخلى عنها، قبل أن يتطور الأمر بعد اكتشاف سلطات المخيم ذلك، إلى امتهانها الدعارة.
فريق التحقيق، رصد أكثر من 20 منزلاً في الموصل لعوائل انتمى أفرادها للتنظيم، تحولت إلى “أوكار للدعارة“، وبشكل شبه علني بعدما استسلم من فيها تحت ضغط الحرمان والملاحقات، إلى جانب امتهان الدعارة في مخيمات.
يقول أحد وجهاء العشائر، رافضاً ذكر اسمه خوفاً من اتهامه بالدفاع عن داعش “الكل يصمت عن هذا الموضوع ويحاول التكتم عما يحدث، وكأن سكوتهم سيحل المصيبة… هؤلاء بناتنا وما يتعرضن له عار على الجميع وليس على داعش“.
حلول عشائرية
في ظل غياب الحلول الحكومية وعجز المنظمات التي لا تستطيع إطلاق مشاريع تأهيل ودمج بسبب القيود والاتهامات التي قد تطاولها، تحركت المنظومة العشائرية بخاصة في أطراف الموصل لوضع “حلول” من باب حفظ الشرف، تمثلت في “إعادة المرأة المتزوجة من داعشي إلى عائلة والدها، واذا كان لديها أطفال، فالإناث يرافقونها أما الأطفال الذكور فيتركون لعائلة الأب أو يتركون في المخيمات إذا كان الأب غير عراقي“.
هذا الإجراء طبق “للحفاظ على النساء والفتيات وضمان حياة أفضل لهن، وفي الوقت ذاته لعدم إثارة مشاعر ذوي ضحايا التنظيم الذين يعتبرون كل عائلة الداعشي متهمة بدم فقيدهم“.
لكن هذا “الحل” بدوره يخلق مشكلات، إذ إنه يفرق بين الأم وأطفالها ولا يوفر الحماية للأطفال الذكور.
وهذا ما واجهته أم معاذ (30 سنة) التي تعيش هي وابنتيها مع عائلة والدها إلا أنها فارقت ابنها ذا الثلاثة أعوام، الذي يعيش في المخيم مع امرأة من اقرباء والده المقتول. تقول: “كل يوم أحضر ملابسه وأشمها، أشعر بألم شديد لأنني تخليت عنه وتركته لمصير مجهول، لكن لم يكن لدي خيار“.
يحذر الباحث حسن الابراهيمي، من خطورة ذلك الفصل بين الأطفال وأمهاتهم “الطفل سيكبر يتيماً بلا ذاكرة وبقصة ملفقة بكل ما يعنيه ذلك، والزوجة ستتحول إلى ضحية أكبر، ستعيش بلا زوج ولا أطفال، تعيش في الماضي“.
يقول الابراهيمي إن مبادئ العدالة الانتقالية تُبنى على “كيفية تحقيق العدالة من دون الوقوع في العقاب الجماعي إرضاءً للضحايا“، مؤكداً أن غياب الحلول يفتح الباب واسعاً لمشكلات جديدة أكثر تعقيداً من أسباب الحرب ذاتها “فمعالجة آثار الحروب بخاصة ما يتعلق بالمشكلات الاجتماعية والنفسية، عملية صعبة وتحتاج إلى خطط طويلة الأمد“.
وينبه إلى أن الحكومة لم تتخذ خطوات في مجال التعامل مع ملفات وتداعيات ما بعد الحرب “وهو ما ترك الباب مفتوحاً للانتقام الجماعي ودفع جهات غير مختصة إلى وضع حلول ربما تكون أكثر إثارة للمشكلات“.
ويتفق الخبير الأمني هشام الهاشمي مع الابراهيمي على أن مبادئ العدالة الانتقالية غير فاعلة “جميع خطط الدولة للتعامل مع ملف عوائل مقاتلي تنظيم الدولة مثالية جداً وغير قابلة للتطبيق“.
لن يسأل أحد عن مصير عائلة شيماء وما سيحل بأختها الصغيرة وأخيها، ولا عن مصير هدى الأرملة القاصر، ومصير طفلي هبة التي سقطت في دوامة الدعارة من دون أمل بأن ينتشلها أحد.
وهي عائدة من زيارة قبر شقيقتها، بينما بدأت الشمس تغرب، وقفت ليلى أمام باب منزلها في الزقاق الذي يحيطه الدمار، ورفعت حجراً كبيراً لتضعه خلف الباب الرئيسي للمنزل، وهي تقول “لا أمل لدينا. المسؤولون منشغولون بحصد امتيازاتهم، والناس منشغلون بالركض لتأمين قوت يومهم، والمنظمات ببرمجة مشاريع على الورق، فيما نتساقط نحن ربما لنكون وقودَ موجة أخرى من العنف“
*انجز التحقيق بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية (نيريج) ونشر على موقع (درج) المعني بشؤون الشرق الأوسط.
* تنويه: تم تغيير أسماء معظم المتحدثات في التحقيق من النساء لحمايتهن.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17609}" data-page="1" data-max-pages="1">