تحقيقات استقصائية: جهاز العدالة “المعطّل” في العراق

جهاز العدالة “المعطّل” في العراق

مواطن برئ يتعرض للتوقيف كلّ خمس دقائق

كاظم سعدون محمد

في ليلة التاسع من تموز (يوليو) 2016 تغير مصير عائلة “أبو علياء” إلى الأبد، اثر مداهمة منزلها في حي الجهاد غربي العاصمة بغداد من قبل قوة أمنية وثقت يدي الرجل (43 عاما) وهو بملابس النوم بينما كانت تصرخ زوجته وتستنجد بالجيران. طوال ستة أسابيع بقي مصير ومكان احتجاز رب العائلة مجهولا إلى أن تبيّن أن تهمته “إرهابي”، وأن حياته قد تنتهي بالإعدام.

“سمعنا ليلتها طرقا عنيفا على الأبواب، كنت أنا وزوجي وابنتاي في المنزل حين اقتحمته قوة من خمسة أشخاص، وأخذته دون توضيحات، لم يستطع أحد فعل شيء… طوال ايام كنا مصدومين نبحث عنه، ونتواصل مع كل من يمكن ان يساعدنا… لكن أخباره ظلت مقطوعة فقد كان معزولاً عن العالم الخارجي”، تقول أم علياء.

عاشت الأسرة أسابيعاً من القلق والحيرة. فالرجل لم يعرف عنه ضلوعٌ في أي نشاط سياسي أو مسلّح، ونادراً ما كان يزور الجامع إلا في المناسبات. “كان يقضي روتين حياته بين المنزل ومكان عمله وبعض الأوقات مع اصدقائه.. ولكن منذ اعتقاله خلال مداهمات طالت عددا آخر من الاشخاص، تجنب الجيران وحتى الأصدقاء التواصل معنا”، تضيف الزوجة.

في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام تلقت “أم علياء” مكالمة هاتفية تحمل وجهين. المحامي الذي وكلته العائلة لمتابعة القضية أبلغها بأن قاضي محكمة التحقيق المركزية التابعة لمجلس القضاء الأعلى برّأ “أبي علياء” من التهم الموجهة إليه، لكن الفرحة لم تكتمل وبراءة القضاء لم تكن سوى الخطوة الأولى على طريق طويل لإطلاق سراح زوجها.

“إدارات السجون تتعمد تعطيل القرارات القضائية لابتزاز الموقوفين” تقول أم علياء، وتتابع: “المحامي (ك ت) أبلغني بأن الضباط المشرفين على السجن يطلبون المال مقابل إخلاء سبيله.. المبلغ المطلوب كان مفزعاً، 90 ألف دولار أمريكي”.

راهنت الزوجة على مناقشات المشرعين العراقيين المحتدمة داخل البرلمان لإطلاق سراح الموقوفين الذين ثبتت براءتهم ومطالبة بعضهم الحكومة بالتدخل العاجل لإغلاق هذا الملف، لكن الأيام مضت دون جديد فرضخت الزوجة للابتزاز. “مقابل جهاز هاتف نوع “ايفون 5S” سلّمها المحامي لأحد حراس السجن تمكنت من نقل رسالة إلى زوجي أطلب رأيه حول بيع نصف المنزل للحصول على المبلغ المطلوب”.

ترفض العائلة الكشف عن مكان السجن الذي أودع فيه “أبي علياء” لأنه قد يسهل التعرف على هويته وإدلائه بقصته في هذا التحقيق، وتشترط عدم الكشف عن أسماء الضباط المتورطين خوفا من الانتقام. لكنها سمحت لمعد التقرير بالإطلاع على وثائق ورسائل نصية وصوتية على خدمة “واتس آب” تبادلتها الزوجة مع عناصر من مركز الشرطة المحلي والأمن والقضاء، ومع وسطاء عرضوا المساعدة مقابل أموال طيلة محنة العائلة، وصولاً إلى رسائل إتمام الصفقة وتسليم المبلغ المطلوب إلى مساعد الضابط المسؤول وكان برتبة مفوض، في مكان متفق عليه بترتيب من المحامي.

اليوم تعيش العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص في نصف منزل بعد أن فرزت المساحة المخصصة للسكن إلى قسمين عبر بناء جدار ومطبخ وحمّام وباعت القسم الآخر. ويقول الزوج الذي يستعد حاليا مع عائلته لمغادرة البلاد بعد أن قدم طلب هجرة عبر الأمم المتحدة: “ربما كانت الشكوى المقدمة بحقّي كيديّة.. أو ربما كنت ضحية اعتقال عشوائي دون تمييز. لم يشرحوا لي طبيعة التهمة. فقط قالوا بأني إرهابي”. ويضيف: “لقد كنت موظفاً وعائلتي معروفة في المنطقة منذ سنوات. كانت حياتي سعيدة ولدي عمل. خسرت الكثير وتشوهت سمعتي. بناتي يسمعن كلاماً جارحاً من زميلاتهن في المدرسة ولم أعد أثق بأي جهاز أمني أو قضائي”.

 

تأخير في عرضهم على القضاء

قصة أبي علياء ليست حالة منفردة. أعقد منها تبدو حالة موقوفٍ من محافظة الأنبار كان عمره 15عاماً عندما دخل السجن بتهمة الضلوع في مساعدة إرهابيين. قضى ست سنوات كاملة في الاحتجاز بزغت فيها ذقنه واشتدت ملامحه وتنقل بين أكثر من سجن ومركز تحقيق، ليصدر بعدها قرار من محكمة الجنايات المركزية برّأه من كافة التهم التي وجهت اليه.

يرفض “غزوان” الحديث عن أي تفصيل يتعلق بتلك الفترة التي سرقت جزءاً من طفولته وشبابه. لكن النائب مشعان الجبوري أحد الذين توسطوا لإطلاق سراح الفتى بعد صدور حكم القضاء بالبراءة يقول: “بقيت تسعين يوماً أتواصل مع المسؤولين بينهم مدير عام السجون والمدراء الآخرين حتى تمكنّا بشق الأنفس من إعادته إلى منزله، وتبين لنا أن البعض كان يساوم أهله على دفع أموال مقابل الإفراج عنه”.

تكشف إحصاءات جمعها معدّ التحقيق صادرة من مصادر رسمية ومن القضاء العراقي أرقام كبيرة عن أعداد الذين تم القبض عليهم وتبيّن لاحقاً أنهم أبرياء. ولا يطلق سراح هؤلاء إلا بعد أن يقضوا أشهر في سجون وزارة الداخلية وباقي التشكيلات الأمنية. من يمتلك منهم الأموال أو وساطة شخصية سياسية أو عشائرية يحصل على تنفيذ قرار الافراج عنه، أما الذين لا يستطيعون تحمل مصاريف الرشى، ينتظرهم مصير مجهول، ربما يصل الى الإعدام.

التقصي عن حالات مشابهة مشفوعة بشهادة مشرّعين عراقيين، تشير إلى أن المشكلة تكمن في تجاهل إدارات السجون المتعددة قوانين وقرارات قضائية نافذة، عبر تأخير عرض الموقوفين على القضاء لأسابيع وأشهر.

ويوضح المحامي “ثابت اللامي” أن القانون ينص على وجوب قيام التشكيلات الأمنية برفع ملفات الموقوفين إلى القضاء خلال 24 ساعة من تاريخ التوقيف، لكن هذا لا يحصل على أرض الواقع، بل على العكس، “حتى القرارات القضائية بالإفراج عن المحتجزين الأبرياء يتأخر تنفيذها. هذا الوقت يخلقه الضباط الفاسدون عن قصد تحضيرا لعمليات الابتزاز”.

 

12 برئ يعتقل في كل ساعة

أحد المآخذ المسجلة على طريقة إدارة السجون في العراق تتمثل في تعدد إدارات المؤسسات السجنية، فبعضها يرتبط بوزارة العدل والآخر بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية إضافة إلى وجود إدارة من وزارتي الدفاع والداخلية وأجهزة الاستخبارات لها سجونها الخاصة، ولهذا يصعب إيجاد إحصائية شاملة لعدد الموقوفين، إذ لا تكشف هذه المؤسسات عن إحصاءات دقيقة مطلقاً.

معدّ التحقيق تمكن من الإطلاع على بيانات صادرة عن مؤسسة “مجلس القضاء الأعلى” التي تتمتع باستقلالية تامة بموجب الفصل الثالث من الدستور العراقي، وهي عبارة عن إحصائيات عن أعداد الموقوفين الذين حكم القضاء ببراءتهم من التهم المنسوبة إليهم سواء كانت جنائية أو إرهابية، لكنها لا تكشف عن الأعداد الشاملة للسجناء الحاليين في البلاد.

يرتكز هذا التحقيق على تتبع الأرشيف الالكتروني لموقع السلطة القضائية في العراق على مدى ثلاث سنوات (2014-2015-2016) ولمجموعة كبيرة من الإحصاءات والبيانات المتفرقة. وكانت آخر إحصائية قد نشرت في كانون الأول (ديسمبر) عام 2016 وتتعلق بشهر تشرين الثاني (نوفمبر) الذي سبقه.

وخلال عام 2016 منذ كانون الثاني (يناير) وحتى آخر إحصائية في تشرين الثاني (نوفمبر) تشير البيانات الرسمية التي تم الاستقصاء عنها إلى أن القضاء العراقي أصدر قرارا بتبرئة (76415) موقوفاً بينهم (8418) وجهت له تهم الإرهاب، أي بمعدل (6368) عملية احتجاز في الشهر، و(212) في اليوم الواحد.

وسجل شهر حزيران (يونيو) 2016 أعلى معدّل في تبرئة الموقوفين إذ بلغ عددهم (10791) بينهم (1608) متّهمين بالإرهاب، ويليه شهر أيار (مايو) وبلغ عددهم (10373) منهم (3456) متهمين بقضايا إرهاب.

وفي عام 2015 تشير الإحصاءات إلى أن القضاء أقرّ ببراءة (88297) شخصاً منذ كانون الثاني (يناير) وحتى كانون الأول (ديسمبر)، بينهم (10124) وجهت له تهمة الارهاب، بمعدل (7358) عملية اعتقال في الشهر الواحد، و(245) عملية اعتقال يوميا.وسجل شهر أيلول (سبتمبر) من 2015 أعلى نسبة في تبرئة محتجزين، وبلغ عددهم (9480)، ويليه شهر كانون الأول (ديسمبر) وبلغ عددهم (9268)، ولم توضح البيانات أعداد الذين وجهت لهم تهم بالإرهاب، إذ يتحفظ القضاء عن نشر هذه التفاصيل في بعض الفترات.

أما بخصوص عام 2014، فأعلن مجلس القضاء الأعلى خلال المؤتمر الإعلامي السنوي لأعضاء السلطة القضائية عقد في بغداد في 11 كانون الثاني (يناير) 2015 عن تبرئة (150158) موقوف، بينهم (8957) وجهت لهم تهم الإرهاب، وهو أكبر من عدد الموقوفين الأبرياء في عامي 2015 و2016، وبمعدل شهري (12513) موقوف بريء.

ويبدو أن الهجوم الذي شنه تنظيم “داعش” في حزيران (يونيو) 2014 والفوضى التي عمت البلاد بعد انكسار الجيش العراقي كانا وراء تصاعد نسبة “الموقوفين الأبرياء” في ذاك العام. واعتبر النائب عن ائتلاف “الوطنية” شعلان الكريم في مؤتمر صحافي داخل مبنى البرلمان في تموز (يوليو) 2017 أن “غالبية عمليات الاعتقال التي نفذت منذ عام 2014 وحتى الآن غير صحيحة”.

وبجمع هذه الاحصاءات فان (314870) شخص برئ أوقف بشكل خاطئ على مدى الأعوام الثلاثة، بمعدل (8996) موقوف في الشهر الواحد، و300 في اليوم الواحد، و12 شخص في الساعة، وشخص واحد كل خمس دقائق، تشمل جميع الموقوفين بمختلف التهم سواء إرهابية أو جنائية.

ولا تعلن الجهات الرسمية عن الأعداد الكاملة للسجناء العراقيين وتوزيعهم جغرافياً، لكن عضو اللجنة القانونية في البرلمان العراقي النائب زانا سعيد قال لمعد التحقيق أن “عدد السجناء بحسب إحصائية ذكرها لنا وزير العدل قبل عام 2017 يصل الى 35 ألف في السجون الرسمية، ولكن في الوقت الحالي لا نمتلك تفاصيل أكثر”.

أعداد السجناء الأبرياء تشير إلى مشكلة حقيقية في النظام الأمني والتحقيقي في العراق بحسب خبراء التقيناهم خلال إعداد هذا التحقيق. إذ تجري آلاف عمليات الاعتقال العشوائية لمواجهة تصاعد أعمال العنف، وتخلق هذه الاعتقالات مشكلات في السلم المجتمعي وتؤدي إلى خلافات بين القوى السياسية. فالقوى والأحزاب السنّية تواظب على اتهام الأجهزة الأمنية بالطائفية، بينما تتهم القوى الشيعية سكان المحافظات السنية باحتضان المتطرفين.

 

معتقلات سريّة

الإحصاءات المذكورة لا تشمل اعتقالات في “سجون” تابعة لبعض فصائل “الحشد الشعبي” التي تأسست في صيف 2014 وما قبله لمواجهة تنظيم “داعش” بعد انهيار وحدات الجيش. تلك الاعتقالات تكلم عنها النائب عن محافظة الأنبار أحمد السلماني في 8 آب (اغسطس) 2017 عندما ذكر أن الفصيل الشيعي المسلح “حزب الله” اعتقل ثلاثة آلاف من سكان المحافظة على مراحل منذ انطلاق معركة استعادة مدينة الفلوجة من المتطرفين في أيار (مايو) عام 2016. وأكد السلماني أن مصيرهم لا يزال مجهولاً.

أحد الذين اعتقلهم فصيل شيعي في حزيران (يونيو) 2016 هو محمد الجميلي من سكان منطقة “المعلمين” في الفلوجة، ثاني أبرز مدن محافظة الانبار بعد الرمادي، أطلق سراحه بعد وساطة عشائرية من قيادي في “الحشد العشائري” (السني) المعروف بعلاقته الجيدة مع قادة “الحشد الشعبي”.

يروي محمد الجميلي (27 عاماً) ظروف اعتقاله: “مطلع حزيران (يونيو) 2016 حاولت الهروب من الفلوجة التي كان داعش يحكم السيطرة عليها. خرجت مع عائلتي ومعنا العشرات بينهم نساء وأطفال باتجاه القوات الأمنية التي هاجمت المدينة آنذاك. الطقس كان حاراً ونفذت المياه التي معنا حتى وصلنا إلى مجموعة مسلّحة كانت ترفع العلم العراقي والى جانبها عجلات عسكرية عليها أعلام لفصائل شيعية من الحشد”. يضيف الجميلي: “عناصر المجموعة عزلونا نحن الرجال عن النساء والأطفال، وأجبرونا على صعود سيارات حمل كبيرة”.

كانت العجلة التي أقلّت محمد مكتظة بالمعتقلين بحسب وصفه. “كنا محشورين في الخلف، نشتِم داعش ونقول للعناصر المسلحة “والله احنه مو دواعش، هم أذونة وجوعونه وجينه الكم حتى نخلص منهم”، معتقلون آخرون كانوا يتلون الشهادة، فقد كنا على يقين بأننا ذاهبون إلى ساحة الإعدام”.

وصل محمد وباقي المعتقلين إلى بناية مهجورة بعد مسيرة تقارب من الساعة في السيارة. “المكان لم يكن معتقلاً، ربما كانت مدرسة أو دائرة رسمية مهجورة”. بعدها بخمسة أيام فقط أطلِق سراحه مع أربعة آخرين. “الفضل في تحريري يعود لوساطة قام بها أحد أقربائي، ولا أعرف مصير المعتقلين الباقين حتى اليوم”.

 

تهمة الإرهاب الأعلى ثمناً

وفقا للبيانات التي حصلنا عليها، الممهورة بأختام مجلس القضاء الأعلى فإن (27499) شخص اعتقل من قبل الأجهزة الأمنية بموجب المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب تحديداً، على مدى اعوام (2014-2015-2016) وتبين لاحقاً أنهم أبرياء بعد أن كانوا يواجهون عقوبة الإعدام، معظمهم من محافظات وسط وغربي العراق.

ودرج سياسيون وزعماء عشائر من تلك المحافظات على استخدام مصطلح “أربعة سنّة” في إشارة إلى أن المادة الرابعة تستهدف الطائفة السنية فقط. وتستند هذه المادة القانونية على قانون مكافحة الارهاب رقم (13) لسنة 2005 الذي ينص على عقوبة الإعدام “لكل من ارتكب بصفته فاعلا أصلياً أو شريكاً، عملاً من الأعمال الإرهابية.. ويعاقب المحرض والمخطط والممول وكل من مكّن الإرهابيين من القيام بالجرائم.. بعقوبة الفاعل الاصلي، ويعاقب بالسجن المؤبّد من أخفى عن عمد أي عمل إرهابي وآوى شخصاً ارهابياً بهدف التستر”.

المحامي “ك ت” الذي دافع عن أكثر من متهم بقضايا إرهاب من بينهم “أبي علياء” وتوسط لدى مسؤولين وضباط لإطلاق سراحهم، يقول إن “الموقوف بتهم إرهابية يكون وليمة دسمة للضباط والمشرفين على السجون، فالمبالغ التي يطلبها هؤلاء من عائلاتهم تكون الأعلى بين باقي التهم لأن الإعدام سيكون مصيرهم وفقا للقوانين العراقية السارية”.

في حين يؤكد النائب في البرلمان العراقي كامل الغريري أن “مساومات تجري بين الأجهزة الأمنية وذوي السجناء بدفع أموال مقابل إطلاق سراح أبنائهم من السجون”. وعن الطريقة التي تتهم فيها المساومة يقول إن “العملية تتم عبر المحامين المكلفين بمتابعة أوراق القضية”. ويزيد: “من لا يملك المال لا يمكنه الخروج من السجن رغم براءته”.

اما عن التسعيرة المتداولة لإطلاق سراح الموقوفين الأبرياء، فتتوقف وفقاً للنائب العراقي على نوع التهمة. “تهمة الإرهاب هي الأعلى ثمناً بين باقي التهم ويصل المبلغ إلى مئتين أو ثلاثمائة ألف دولار وتليها السرقة”، ويستطرد بالقول “إنها مافيات منظمة لا نتمكن حتى نحن المشرعون من الوصول إليها لأنها مرتبطة بشخصيات متعددة وكثيرة”. ويضيف: “هناك موقوفون يدفعون هذه المبالغ ولا يفرج عنهم ويستمر الابتزاز”.

 

“ما لم يكن مطلوباً..”

النائب عن الموصل نوره البجاري تؤكد حديث زميلها الغريري، وتقول لمعد التقرير إن “حجم الأموال يتوقف على نوع المادة المحكوم بها السجين وعلى وضعه المادي”. وتتابع أن “الجهات الفاسدة تستقصي جيداً عن أحوال السجين. إن كان ميسوراً تكون المبالغ والمساومات عالية، وتحاط هذه الصفقات بالسرية التامة”.

الخطورة والسرية التي تحوم حول عقد هذه الصفقات والمساومات المالية تمنع ذوي السجناء من الكشف عنها خشية الانتقام، وهو ما يؤكده أيضاً مشرعون عراقيون، كما تؤكده بيانات متتالية من مجلس القضاء الأعلى تدعو من خلالها الأجهزة الأمنية التنفيذية إلى احترام قرارات القضاء الخاصة باطلاق سراح الموقوفين الذين صدر حكم ببراءتهم.

ويرفض مجلس القضاء الأعلى الإدلاء بتصريحات خاصة ويكتفي بالبيانات الرسمية الصادرة عنه، لكن شوان صابر رئيس منظمة “شبكة العدالة للسجناء” في العراق يقول لمعد التقرير، إن “حالات مسجلة لدينا ضد جهات أمنية لا تقوم باطلاق سراح موقوفين بعد ثبوت براءتهم”. ويوضح إن المماطلة في إطلاق سراحهم تتم عبر ذرائع عدة، بينها أن القرار القضائي الصادر بتبرئة موقوف يذيّل بعبارة “ما لم يكن مطلوبا بقضايا أخرى”. “هذه العبارة تستغلها أجهزة الشرطة لكسب الوقت والقول إنهم يخاطبون الجهات الأمنية الاخرى للتأكد  من عدم مطلوبية المتهم لهم”.

النائب عن محافظة بغداد عبد الكريم عبطان يصف هذه العبارة بأنها “مفتاح باب المساومات”. ويتابع: “من هذا الباب تدخل المطالبات بدفع الأموال وبعض هذه المساومات تقودها جهات نافذة (لم يسمّها)”.

من ناحيته، يستغرب شوان صابر من أن “بعض الدعاوى القضائية الخاصة بالموقوفين الأبرياء تحصل على تأكيد قضائي من محكمة التمييز التي تعتبر أعلى سلطة قضائية في البلاد وقراراتها تكون حاسمة وواجبة التطبيق، ورغم ذلك لا تنفذها الجهات التنفيذية أو الشرطية”. وهو يحيل ظاهرة المماطلة في إطلاق سراح الأبرياء إلى تعدد إدارات السجون، فبعضها يرتبط بوزارة العدل وأخرى بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية إضافة إلى وجود إدارات من قبل وزارتي الدفاع والداخلية.

بعد اتصالات هاتفية عدة مع مسؤولين في وزارة العدل العراقية وزيارات إلى مقرها وافق مسؤول في الوزارة بدرجة معاون رئيس قسم على التصريح لمعد التقرير بشرط عدم الكشف عن هويته لدواعي أمنية. يقول الموظف الحكومي: “الظاهرة شائعة، وفي شأن السجون التابعة لوزارة العدل هناك خروقات تحصل عند المعتمدين الذين يحملون قرارات إطلاق سراح المفرج عنهم إلى السلطات القضائية. هؤلاء يماطلون ويساومون لأخذ الرشى من ذوي الموقوفين. كشفنا حالات عدة ونعمل على تجاوزها”.

أما النائب عن كتلة “التحالف الوطني” (الشيعية) سليم شوقي، وهو عضو في اللجنة القانونية في البرلمان فيقر أيضا بوجود “حالات ابتزاز للموقوفين يقوم بها ضعاف النفوس وهي تصرفات غير قانونية ولا دستورية”، ويضيف: “نحتاج الى إحصائية من قبل الجهات المختصة عن عدد المعتقلين في السجون بعد قانون العفو العام”.

القضاة داخل مراكز الاعتقال

الشهادات التي استمعنا إليها من محتجزين أبرياء تشير إلى أن حالات التوقيف التعسفية تلفها عملية فساد مرّكبة تسير باتجاهين، فهناك الذين يتعرضون للابتزاز في مراحل التحقيق الأولى داخل مراكز الشرطة المناطقية وهي المسؤول الأول عن الظاهرة، أو تلك التابعة لأفواج الجيش، أي قبل رفع أوراقهم إلى القضاء، ويجري ابتزازهم بتهديد عائلاتهم بإرسال ملف الدعوى مع تلفيق تهم جاهزة. أما في حال رفعت أوراق القضية إلى القضاء وحصل الموقوف على البراءة وقرار الإفراج، فهنا تقوم الجهات الشرطية بتعطيل الأمر القضائي.”سجلت لدينا الكثير من الحالات التي يتم تعطيل قرارات الإفراج القضائية عن الموقوفين لأشهر”، الحديث للنائب عبد الكريم عبطان.

على مدار ثلاثة أشهر حاول معدو التحقيق التواصل مع مسؤولين في وزارة الداخلية العراقية، وهي المتهمة بشكل رئيسي بأعمال الاحتجاز غير القانوني، للتعليق على القضية، دون جدوى. أحد العاملين في المكتب الإعلامي للوزارة اكتفى بالقول بشرط عدم الاشارة الى اسمه أو حتى درجته الوظيفية: “لا نستطيع التعليق على هذه القضايا، واجبنا نشر البيانات الرسمية والتصريح لتوضيحها فقط، قضايا الموقوفين حساسة للغاية لا نستطيع التعليق عليها دون موافقة الوزير أو أحد وكلائه”.

ومنذ عام 2014 وحتى اليوم تناوب على منصب وزارة الداخلية كل من الوزير محمد الغبان وهو قيادي في منظمة “بدر” وقدم استقالته بعد التفجير الدامي الذي ضرب منطقة الكرادة في 2 تموز (يوليو) 2016 وراح ضحيته أكثر من 300 قتيل، ليخلفه زميله في الحزب قاسم الاعرجي الذي تسلم منصبه في 30 كانون الثاني (يناير) 2017.

ويؤكد قاض عراقي في محكمة التحقيق المركزية أن “الأجهزة المتعددة المشرفة على مراكز التوقيف لا تطبق في كثير من الأحيان قرارات القضاء سواء تلك المتعلقة بضرورة رفع أوراق الموقوفين إلى المحكمة خلال 24 ساعة من موعد التوقيف، أو قرارات الافراج عن الموقوفين فوراً بعد حصولهم على البراءة”.

ويقول القاضي لمعد التقرير “قبل أشهر اضطر مجلس القضاء الأعلى لاتخاذ قرارات جريئة لمعالجة الظاهرة، وللمرة الأولى وعلى عكس السياقات المتّبعة قررنا إرسال قضاة إلى مراكز الاحتجاز بدلاً من انتظار وصول أوراق التحقيق من هذه المراكز الى المحاكم، واكتشفنا خروقات عديدة متعلقة بتأخير رفع أوراق الموقوفين إلى القضاء”.

يسوق القاضي مثالا: “بعد زيارة عدد من القضاة مراكز توقيف تتبع المديرية العامة للاستخبارات ومكافحة الإرهاب غربي العاصمة، ومقر استخبارات مكافحة الإرهاب جنوبي العاصمة في كانون الثاني (يناير) 2016، تمكنا من الإفراج عن نحو 150 موقوفا بتهم إرهابية فيما تم إحالة 130 آخرين الى المحاكم. هذا جرى خلال أسبوعين وفي موقعين فقط”. كما أن ثماني لجان قضائية وزعها القضاء على مراكز الشرطة المناطقية في كانون الأول (ديسمبر) 2015 تمكنت من حسم نحو أربعة آلاف قضية في شهر واحد، وفقا للقاضي نفسه. وأضاف: “القضاء وبالتنسيق مع الادعاء العام قرر مؤخرا تخصيص أعضاء من الادّعاء العام والمحققين القضائيين في مراكز الشرطة ومراكز توقيف التشكيلات الأمنية الأخرى”.

 

المخبر السرّي

محسن العطار تاجر يعمل في سوق الشورجة الشهير في قلب بغداد ويقطن في “الزيّونة” أحد أحياء العاصمة الراقية. بدأت بلاغات تتوارد عليه من مركز الشرطة القريب من منزله على مدى ثلاثة أسابيع، حتى ألقي القبض عليه أخيراً في آذار (مارس) 2015 بتهمة الإرهاب، فاعتقل لأيام في مركز الشرطة أصيب خلالها بمرض السكري الحاد إثر الصدمة.

يقول الابن الأكبر لأسرة العطار: “المعاناة بدأت منذ لحظة اعتقاله، بعد إصابته بالمرض وفقدانه الوعي، اضطررنا إلى دفع المال من أجل إدخال أدوية السكر من حقن الانسولين وكبسولات ارتفاع ضغط الدم”.

العائلة كلفت محامٍ متخصص بهذا النوع من القضايا. المحامي اكتشف خيوط القضية، اذ تبين ان بلاغ ورد من مخبر سري وراء عملية الاعتقال. حاولت العائلة مع المحامي دفع التهمة عبر السياقات القانونية لكنها فشلت، وبعد اسابيع لجأ الأبناء إلى تسوية القضية عبر دفع مبلغ (150) ألف دولار اميركي (187 مليون دينار عراقي) لإطلاق سراحه وطيّ الملف.

المحامي أبلغ العائلة بان “منافسة عدد من التجار لوالدهم في السوق وراء ما جرى”، ولكنه لم يتمكن من معرفة هوية المخبر السري بسبب القانون الذي يمنع الكشف عن هوية المخبرين.

عمليات الاعتقال العشوائية لأشخاص يتبين لاحقاً أنهم أبرياء لا تجري فقط عبر المداهمات المفاجئة التي تنفذها قوات الأمن  لمناطق تعتبرها وفق تصنيفاتها ساخنة و”حاضنة للإرهابيين”، بل تتجاوزها إلى معلومات ترد إليها من قبل ما يعرف بـ “المخبر السري” وهي وظيفة أمنية تستند في الاصل على قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل. وقرر مجلس الوزراء في آذار 2013 الغاء العمل به بعد احتجاجات شهدتها محافظات تقطنها غالبية سنية.

يقول شوان صابر رئيس منظمة “شبكة العدالة للسجناء” إن “وظيفة المخبر السري أثبتت فشلها في العراق، بعدما تبين أن كثير من المعلومات التي ينقلها المخبرون كاذبة بغرض الابتزاز أو بغرض الانتقام الشخصي”.

الجهات الرسمية تعترف بذلك أيضا، ففي كانون الأول (ديسمبر) عام 2015 أعلن وزير العدل حيدر الزاملي إلقاء القبض على أكثر من 500 مخبر سري وتقديمهم للمحاكمة بعد توجيه تهمة الإدعاء الكيدي على أفراد أبرياء. كما أن القضاء العراقي أصدر بيانا صريحا في نيسان (ابريل) 2016 أعلن فيه عن إلغاء محكمة التحقيق المركزية (1004) مذكرة قبض استندت في الأساس على بلاغات المخبر السري أو تشابه الاسماء.

ووفقا لتصريح عضو اللجنة القانونية زانا سعيد فإن العمل بوظيفة المخبر السرّي ما زال سارياً  في القضايا الجنائية وقضايا الفساد الاداري، لكن ليس في القضايا الإرهابية. وكشف أن “أكثر من 400 مخبر سري تم توقيفهم في العام 2016 بأمر من القضاء العراقي لانهم ابلغوا عن أناس لاغراض كيدية”، موضحاً أن “قانون العفو العام فسح المجال للذين تمت محاكمتهم بناء على وشاية مخبر سري بإعادة المحاكمة”.

 

تشابه أسماء

عمليات الاعتقال الخاطئة تجري أيضاً نتيجة تشابه الأسماء وهي ظاهرة شائعة داخل العراق، فأسماء الأشخاص المألوفة كثيرة ومستمدة من التراث الديني والعشائري، وجرت مئات حالات الاعتقال لأشخاص على أنّهم مطلوبون للقضاء ليتبين أن قوات الأمن اعتقلت الشخص الخطأ.

فالمفارز الأمنية عند نقاط التفتيش المنتشرة عند مداخل المحافظات العراقية وبين الأحياء تمتلك أجهزة حواسيب تتضمن قوائم المطلوبين للقضاء بتهم إرهابية أو جنائية يحصلون عليها من القضاء العراقي. ولكن المشكلة أن القوائم تتضمن اسم المطلوب وأبيه وفيما ندر جدّه، مع التهمة والمحكمة التي تطالب به، دون أن تتضمن معلومات أخرى كإسم الأم واللقب وأوصاف الشخص أو صورته الشخصية.

شيوع ظاهرة تشابه الأسماء عرّضت الموظف الحكومي من بغداد محمد صلاح محمد إلى الاحتجاز، ويقول لمعد التقرير “عند نقطة التفتيش الرئيسية لمدينة النجف، تم إنزال جميع ركاب الحافلة الذكور من أجل الفحص الأمني لهوياتنا الشخصية. نظر مفوض الشرطة إلى وجهي بملامح متجهمة بعدما ادخل اسمي في جهاز الحاسوب، وفورا اتصل عبر الجهاز اللاسلكي بضباط الاستخبارات المتواجدين في كابينه قريبة، وتم ابلاغي بأني مطلوب للقضاء”.

المخاطبات بين مركز الشرطة وبين المحكمة في بغداد استغرقت خمسة أسابيع قضاها محمد في السجن، ويقول “اضطررت لدفع مبلغ تسعة آلاف دولار أمريكي (حوالي عشرة مليون دينار عراقي) من اجل تسريع المخاطبات فقط، لتظهر النتيجة أني برئ، عبر مقارنة اسم ام المتهم وجده الرابع الذي ظهر بخلاف اسم أمي وجدي الرابع”.

في 6 آب (اغسطس) 2017 وافق رئيس الوزراء حيدر العبادي على مقترحات قدمتها وزارة الداخلية ومجلس القضاء الأعلى في شأن ظاهرة تشابه الأسماء بعدما تصاعد السخط الشعبي ضدها. الداخلية العراقية أوضحت في بيان أن “المقترحات تضمنت الغاء مذكرات القاء القبض التي لا تتضمن المعلومات الواردة في المادة 93 من أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 وأهمها (الاسم الرباعي – اسم الأم – اللقب) وان لا يتم تعميمها على نقاط التفتيش إلا بكتاب صادر من محكمة الموضوع المختصة”.

يقول الناشط القانوني احسان محمد، انه وسط دوامة الأزمات الأمنية والصراعات السياسية في البلاد، والعُقد المتعلقة بالفساد والابتزاز في ظل خلل الاجراءات الأمنية وعجز او بطء القضائية، مازال آلاف الأبرياء يقبعون في مراكز التوقيف والسجون في انتظار حسم أوضاعهم، متسائلا عن من يعوض عشرات آلاف المعتقلين وأسرهم الذين ثبتت براءتهم لكن بعد ان تحطمت حياتهم.

  • انجز التحقيق بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية (نيريج) وبإشراف كمي الملحم

 

 

ملاحظات:

  • اسماء عائلة ابو علياء والتاجر محسن العطار والشاب محمد الجميلي التي وردت في التقرير تم تغييرها بطلب منهم لدواع امنية.
  • الروابط الالكترونية الصادرة من مجلس القضاء الاعلى حول المعتقلين الابرياء موزعة شهريا على مدى ثلاثة اعوام (2014-2015-2016):

2016

تشرين الثاني (نوفمبر)

http://www.iraqja.iq/view.3593/

تشرين الاول (اكتوبر)

http://www.iraqja.iq/view.3553/

تموز (يوليو)

http://www.iraqja.iq/view.3411/

حزيران (يونيو)

http://www.iraqja.iq/view.3399/

ايار (مايو)

http://www.iraqja.iq/view.3352/

نيسان (ابريل)

http://www.iraqja.iq/view.3323/

اذار (مارس)

http://www.iraqja.iq/view.3292/

شباط (فبراير)

http://www.iraqja.iq/view.3244/

كانون الاول (يناير)

http://www.iraqja.iq/view.3202/

 

2015

كانون الاول (ديسمبر)

http://www.iraqja.iq/view.3164/

تشرين الثاني (نوفمبر)

http://www.iraqja.iq/view.3126/

http://www.iraqja.iq/view.3091/

تشرين الاول (اكتوبر)

http://www.iraqja.iq/view.3080/

ايلول (سبتمبر)

http://www.iraqja.iq/view.3027/

اب (اغسطس)

http://www.iraqja.iq/view.3002/

حزيران (يونيو)

http://www.iraqja.iq/view.2911/

http://www.iraqja.iq/view.2890/

ايار (مايو)

http://www.iraqja.iq/view.2876/

http://www.iraqja.iq/view.2848/

نيسان (ابريل)

http://www.iraqja.iq/view.2838/

http://www.iraqja.iq/view.2822/

اذار (مارس)، شباط (فبراير)، كانون الثاني (يناير)

http://www.iraqja.iq/view.2805/

http://www.iraqja.iq/view.2787/

 

2014

كانون الاول (ديسمبر)

http://www.iraqja.iq/view.2685/

تشرين الثاني (نوفمبر)

http://www.iraqja.iq/view.2653/

http://www.iraqja.iq/view.2657/

منذ ايلول (سبتمبر) حتى كانون الثاني (يناير)

http://www.iraqja.iq/view.2664/

http://www.iraqja.iq/view.2566/

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17568}" data-page="1" data-max-pages="1">