تحقيقات استقصائية: شركات توظيف وهميّة في العراق.. انتهاك لحقوق العاملين واستغلال لأوضاعهم

شركات توظيف وهميّة في العراق.. انتهاك لحقوق العاملين واستغلال لأوضاعهم

أطباء سوريون وعمّال هنود وبنغاليون، ضحايا ينتظرون حقوقهم

ذي قار /محمد الزيدي- حسن الشنون

عندما حطتّ طائرتها في مطار بغداد الدولي قبل عامين من الآن، كانت الطبيبة السورية “رولا” تظنّ أن الفرصة قد سنحت لبدء حياتها المهنية من جديد. كل شيء كان يعدها بالأفضل مقارنة بسنواتها الأخيرة في بلدها. فمحافظة ذي قار جنوبي العراق مستقرة أمنياُ، لم يحصل فيها تفجير أو اشتباكات مسلّحة منذ سنوات. الراتب مغرٍ. وشروط السكن أكثر من مريحة.

استقلت “رولا” حافلةً كانت بانتظارها عند بوابة المطار، اتجهت بها إلى مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار) مارّةً بعشرات نقاط التفتيش. كان معها أطباء آخرون من اختصاصات طبية متنوعة. ما أن وصلوا حتى كانت عقود العمل بانتظارهم ليقوموا بتوقيعها. “لم أكن أدرك أنني وقعت في شرك عملية احتيال على يد مكتب توظيف وهمي وشخصيات نافذة في الحكومة المحلية، وأن العقد هذا لايساوي ثمن الحبر المكتوب به” تقول الطبيبة الثلاثينية.

مصير “رولا” لا يختلف عن مصير حوالي مائة طبيب سوري جميعهم جاؤوا الى العراق واستقروا في محافظة ذي قار في أوقات مختلفة تمتد من شهر أكتوبر/تشرين أول من عام 2013 إلى شهر يناير/كانون الثاني من العام 2014، معظمهم مختص في الجراحة العامة والطب النسائي والتخدير. أبرم هؤلاء عقوداً مع دائرة صحة ذي قار عبر شركة محلية “لتوظيف العمالة الوافدة” يشارك في إدارتها مجموعة من الموظفين الحكوميين يعملون في دائرة الصحة.

العقد الذي وقعته “رولا” وبقية الأطباء أمّن لها فرصة عمل في مستشفيات الحكومة لمدة عام واحد قابل للتجديد، وبراتب شهري قدره أربعة آلاف دولار أمريكي مع توفير السكن والطعام والنقل من وإلى مكان العمل، على أن يدفع كل طبيب عمولة مالية للمكتب المذكور قدرها راتب شهر واحد.

مرتبات شهرين فقط

فور وصولهم تم توزيع الاطباء على “كرفانات” غير صالحة للسكن في مستشفى الحسين التعليمي وسط مدينة الناصرية (365 كم جنوب شرق بغداد) وبعدها انتقل قسم منهم إلى غرف “حديدية” في مستشفى سوق الشيوخ العام شمالي محافظة ذي قار، حسب “رولا” التي كانت تروي الفصل الأول من قصتها. تقاطعها “منال” طبيبة أخرى قدمت مع المجموعة: “الغرف التي سكنا بها كانت خاوية تماماً من الأثاث ومظلمة، أشبه بالقبور، متهالكة وقذرة، ينقطع فيها التيار الكهربائي بشكل دائم”.

استلمت “منال” مرتبها لأول شهرين، وبعدها بدأ تلكؤ الطرف الأول في العقد وهو دائرة الصحة في ذي قار، عن دفع مستحقاتها المالية. “حاولتُ أنا وبقية الأطباء السوريين في بادئ الأمر تسوية الخلاف عبر سلسلة مراجعات مع الدوائر الرسمية في المحافظة ووزارة الصحة الاتحادية، لكن جميع محاولاتنا باءت بالفشل، ولم نحصل على أي فلس”.

سومر جهاد، طبيب سوري مختص بأمراض النسائية والتوليد يتواجد حالياً في قضاء سوق الشيوخ جنوبي الناصرية لجأ في أواسط العام 2015، مع “رولا” و”منال” ومجموعة من زملائهم إلى وكيل المرجعية الدينية في كربلاء عبد المهدي الكربلائي، لاعتقادهم بأنه “يمثل ثقلاً معنوياً مؤثراً” في المحافظات الجنوبية.

بحسب الوثائق التي بين أيدينا، أجرى الشيخ الكربلائي بالفعل سلسلة من الاتصالات مع حكومة ذي قار المحلية فوافقت الأخيرة خلال جلسة رسمية على تخصيص مبلغ مليون ونصف المليون دولار أمريكي من مستحقات المحافظة من البترودولار لدفع رواتب الأطباء السوريين وتغطية كافة الالتزامات التعاقدية معهم. غير أن المبلغ لم يصرف في حينه بذريعة عدم استلام الحكومة المحلية لمستحقات البترودولار من الحكومة الاتحادية.

العودة إلى سوريا

سعياً وراء حلّ، تواصل الأطباء المائة وبجهود شخصية منهكة وسط سيل من التعقيدات الادارية وتقاطع الصلاحيات، مع الوزارات الاتحادية في بغداد عاصمة البلاد. وحصلوا على وثيقة صدرت من مكتب المفتش العام في وزارة الصحة في الشهر الثامن من العام 2015 تلزم دائرة صحة ذي قار بصرف كافة مستحقات الأطباء السوريين.

وهناك وثيقة أخرى صادرة عن وزارة المالية العراقية تشير إلى موافقتها على إجراء مناقلة لمبلغ مالي يصرف كأجور للمتعاقدين، لكن دائرة صحة المحافظة كانت تتنصل دوماً من دفع الأجور تحت ذريعة العجز المالي.

المفاجأة بالنسبة للأطباء كانت عند تلقيهم قرارأً مكتوباً من دائرة صحة ذي قار في نيسان/ أبريل 2016، يقضي بإبرام عقود جديدة معهم لكن هذه المرة براتب شهري قدره  100 الف دينار عراقي لكل طبيب، أي ما يعادل 80 دولاراً فقط.

“نزل الخبر كالصاعقة على رؤوسنا” يقول طبيب آخر مختص بالتخدير في حديث عبر الهاتف. ترتفع نبرة صوته بينما يضيف: “كان الاتفاق على أربعة آلاف دولار وانتهى بنا الأمر لنقبض ثمانين دولاراً”.

يتابع الطبيب الذي أغلق عيادته في ريف دمشق قادماً مع زوجته وطفليه: “لقد تركنا أعمالنا السابقة ودفعنا عمولات للمكتب الوسيط وصرفنا كل مدخراتنا.. وفي النهاية يجبروننا على توقيع عقد مجحف”.

قلة المبلغ ورمزيته دفع رئيس المجلس البلدي لقضاء سوق الشيوخ وهو محل تواجد أغلب الأطباء السوريين، إلى مطالبة الحكومة المحلية بالموافقة على فتح عيادات خاصة لهؤلاء لتأمين مصدر رزق جديد لهم. وفعلاً وافقت الحكومة وباشر الأطباء بالعمل، لكن سرعان ما تم إغلاق العيادات من قبل نقابة الأطباء التي اعتبرت أنّ لا حقّ لهم بالعمل لحسابهم الخاص.

خُيّر السوريون إذن بين القبول بثمانين دولار راتباً شهريّاً وبين الترحيل إلى سوريا. وبعد انقضاء أكثر من سنتين على الرحلة الشاقة التي بدأت من مطار دمشق الدولي، اضطر 89 منهم إلى التسليم بالأمر الواقع والعودة إلى بلدهم خالي الوفاض عبر المطار نفسه. أما البقية فما زالوا يأملون استرجاع حقوقهم.

يقول الطبيب السوري أسامة الأكثمي العائد إلى ريف دمشق: “وقعنا ضحية لعصابات متعاونة مع أشخاص نافذين في الحكومة، لعبت بمستقبلنا وعرّضتنا إلى خسارة فادحة”. ويضيف “فقدنا الأمل بالحكومة المحلية أو بالقضاء”.

المكتب المسؤول

رحلة بحث طويلة أجراها معدا التحقيق للعثور على مقر المكتب (الشركة) المسؤول عن استقدام هؤلاء الأطباء. لكن جميع المراسلات مع الجهات الحكومية والزيارات الميدانية تشير أن لا وجود فعليّ لأي مكتب في محافظة ذي قار لتشغيل العمالة تحت الاسم الذي وقع الأطباء السوريون عقدا معه. فكيف استطاع مكتب غير موجود أصلاً التعاقد مع هذا العدد من الأطباء السوريين؟

أوصلنا البحث إلى وثيقة صادرة في منتصف العام الماضي عن غرفة تجارة ذي قار، تشير إلى أن السيد عبد الهادي ……….، مواطن عراقي، انتسب إلى الغرفة في شباط فبراير 2010 وافتتح مكتباً. وتبين الوثيقة أن عبد  الهادي عاد مرة أخرى بعد ثلاث سنوات وقدم طلباً إلى غرفة التجارة لتعديل بيانات الاسم التجاري للمكتب وجعله مختصا بتجارة الأدوات الطبية.

لم يرد في الطلب المقدم أي اختصاص يتعلق باستقدام العمالة والتوظيف من داخل البلاد أو خارجها، كما أن تعديل الاسم التجاري لم يدرج في السجل التجاري في غرفة التجارة بدعوى السهو، وهو ما يطرح جملة من الاستفهامات الأخرى حول الإجراءات المتخذة في منح اجازات تأسيس الشركات.

عرضنا الوثائق التي بحوزتنا على محمد الغزي، وهو مدير دائرة العمل والشؤون الاجتماعية في محافظة ذي قار، فنفى الغزي وجود أي صلة لغرفة التجارة بمنح شهادة تأسيس مكتب لاستقدام العمالة، مبيناً بأن مكاتب توظيف العمالة في جميع المحافظات العراقية تخضع إلى ضوابط وشروط وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ولا دخل لها في غرفة التجارة أصلاً.

هذا المسؤول رأى أن استقدام الأطباء السوريين جرى بصفة غير قانونية وأن ما جرى يعد “تحايلاً على القانون”. وتساءل: “كيف يحصل مكتب على إجازة لتجارة المواد الطبية ويستخدمها في استقدام العمالة الأجنبية؟”.

يتفحص الغزي الوثائق ويتابع قائلاً: “تتنوع المخالفات هنا، بين عدم وجود مقر فعلي للمكتب على الأرض، وعدم تسجيله في الدوائر الرسمية ذات العلاقة، وغياب المعلومات عن أولئك الأطباء المستقدمين من خارج البلاد”.

المكتب يرد

بعد محاولات حثيثة تمكن معدا التحقيق من إجراء مكالمة هاتفية مع عبد الهادي، مدير المكتب الذي يرد اسمه في وثيقة التأسيس المزعومة. رجل الأعمال الذي يقيم في الناصرية، أقر بأن شركته إبان التأسيس كانت معتمدة لاستيراد الأجهزة الطبية ولا علاقة لها بتوفير العمالة. “لكننا سرعان ما دخلنا في مجال استقدام الكوادر الطبية، وعلى ضوء ذلك تم التعاقد مع دائرة صحة ذي قار”. اكتفى بذلك القول، دون توضيح قانونية الخطوة.

وبحسب العقد الموقع يحصل مدير المكتب على عمولة مالية قدرها راتب شهر واحد لكل طبيب، أي حوالي 400 ألف دولار أمريكي يسدد له أقساطاً عبر دائرة الصحة. لكنه يقول إنه حصل منها على نصف المبلغ فقط، والجزء الآخر كان يفترض أن يحوّل إلى حساب الشركة عند نهاية التعاقد. ويدافع عن نشاطه التجاري “نحن استدعينا الأطباء بشكل رسمي وتولى مكتبنا تزويدهم بتذاكر السفر، أما عدم منح المستحقات المالية للأطباء السوريين فتتحمله دائرة صحة المحافظة ولا علاقة لنا بهذا مطلقاً”.

عبد الهادي الذي كان مقتضباً في إجاباته أنهى حديثه بالقول: “نحن نعمل وفق الضوابط القانونية ودائرة الصحة تتحمل ما آل إليه وضع السوريين” مقراً بوجود أطباء في الحكومة المحلية يعملون معه ضمن المكتب المذكور تحت صفة “مستشارين”.

موظفون في الحكومة

ظاهرة استقدام العمالة الاجنبية، تجري في بعض المحافظات العراقية بشكل غير قانوني ومن خلال مكاتب غير مرخصة يقف خلف بعضها سماسرة وأصحاب شركات وموظفون رسميون.

فالبحث في ملفات الشركة التي استقدمت الأطباء السوريين يبين ضلوع أسماء أخرى كشركاء في التأسيس، هم موظفون في دائرة صحة ذي قار بما يخالف القوانين التي تمنع الموظف الرسمي من ممارسة أعمال من هذا النوع  ضمن الحدود الوظيفية، من بينهم الدكتور “أ. خ.” والدكتور “ع. م”.

بل إن هناك أوامر استقدام صادرة من قاضي محكمة النزاهة في ذي قار بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2015 بحقّ مدير عام دائرة صحة ذي قار سابقاً “س. م” وفق أحكام المادة 331 عقوبات والمتعلقة بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة، وهو الشخص نفسه الذي أبرم عقود الأطباء السوريين، لصرفه مخصصات مالية في أوجه غير مناسبة. “لكن سرعان ما أُغلق هذا الملف القضائي بشكل نهائي بعد تدخل جهات سياسية متنفذة”، يقول أحد المسؤولين الحكوميين المطلعين على تفاصيل الملف.

تكشف وثائق رسمية من دوائر الإقامة والقضاء والأمن الوطني، ان مكاتب تشغيل العمالة في المحافظة الجنوبية والبالغ عددها ثلاث شركات حسب المعلومات المتوفرة، تعمل خارج الضوابط القانونية. لكن ذلك لا يمنعها من الاستمرار في نشاطها بما فيها مكتب عبد الهادي الذي عقد اتفاقاً مع شركة سورية مقرها في مدينة اللاذقية، لتأمين التواصل مع الأطباء المطلوبين من سوريا.

يقول طبيب العيون السوري علاء المنولي إن “المكتب السوري حصل على عمولة قدرها 500 دولار أمريكي عن كلِّ طبيب يجري التعاقد معه”. ويضيف “بعدما لمس المكتب في ذي قار إقبال الأطباء السوريين على العمل في العراق أصبح يتواصل معهم بشكل مباشر من دون الشركة السورية الوسيطة”.

“السوّاح” البنغاليين

حال الكوادر الصحية السورية لا يختلف عن حال أطباء وعمال خدمة هنود وبنغال يبلغ عددهم في المؤسسات الصحية 300 عاملٍ وصلوا الى الناصرية بعد أن أبرموا في نهاية شهر شباط/ فبراير 2013 عقوداً مع شركة أخرى غير مسجلة لدى دائرة العمل والشؤون الاجتماعية في ذي قار.

سرعان ما وجدوا أنفسهم ضحيةً لابتزاز مالي في “رحلة خاسرة بكل معنى الكلمة” كما يصفها العامل البنغالي “حسن”. آثار التعب والإعياء الشديد بدت واضحة على وجه العامل الذي يقول بأنه اختار مدينة الناصرية لأن أقاربه وأصدقاءه يعملون هنا.

الشركة التي استقدمت “حسن” لحساب دائرة صحة ذي قار تمنحه 600 دولار أمريكي عن كل خمسة أشهر، في مخالفة صريحة للعقد الموقع الذي ينص على منحه راتباً شهرياً قدره 300 دولار مع سكن ملائم في واحد من فنادق المحافظة.

يسكن “حسن” اليوم مع عمال آخرين في غرفٍ رطبة ومظلمة تتسرب من جدرانها المياه في الطابق الارضي لمستشفى الحسين التعليمي، وهو لا يملك رخصة عمل رسمية مما يضطره حسب قوله للرضوخ.

يقدر عادل الدخيلي نائب محافظ ذي قار، عدد العمال الأجانب المخالفين لقانون الإقامة العراقي بنحو 2500 عامل، يعمل أغلب هؤلاء في الشركات النفطية المنتشرة في المحافظة. ويصل العدد الأكبر منهم إلى البلاد بصفة “سواح” عبر شركات محلية غير مرخص لها.

إساءة وضرب

قلة الأجور التي يتقاضاها العمال الأجانب وتواجدهم بشكل دائم على مقربة من مكان العمل، يجعلهم صيداً دسماً لمكاتب تشغيل الأجانب في المحافظات العراقية. وكانت مفارز الأمن الوطني والاستخبارات داهمت في السابق منزل صاحب الشركة التي استقدمت العمال الهنود والبنغال، وسط مدينة الناصرية بعد توفر معلومات حول استخدامه منزله لإيواء العاملين الأجانب.

زكي فالح وكيل مدير تلك الشركة يردّ على اتهامات العمّال بالقول إن شركته تعاقدت رسمياً مع دائرة الصحة نافياً أن يكون عملها غير قانوني، ونافياً تعرض العمّال البنغاليين والهنود لأية إساءة.

لكن هذا يتناقض تماماً مع ما يطرحه “عبد القادر” أحد عمال الخدمة من البنغال، فهو يتهم مكتب التوظيف المحلي بالاستحواذ على مخصصات الطعام والسكن المصروفة لهم من دائرة الصحة وإسكانهم في أماكن غير ملائمة. عبد القادر يضيف: “نخضع لمعاملة سيئة من قبل المسؤولين في المشافي الحكومية تصل لحد الضرب والإهانة، ويجبرونا على العمل لساعات إضافية مع التهديد بقطع كل المبالغ المالية التي تمنح لنا”.

إخلاء مسؤولية

ينفي المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية الدكتور أحمد الرديني، مسؤولية وزارته عما يتعرض له العمال الأجانب الوافدين إلى العراق، مبيناً بأن عقود الأطباء السوريين وعمال الخدمة البنغال والهنود تمت باتفاق مع دائرة صحة ذي قار وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن الإيفاء بالتزاماتها مع هؤلاء.

وخلص الرديني الى القول إن “وزارة الصحة الاتحادية لا دخل لها في مشكلات من هذا النوع تحدث في المحافظات”.

وكانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قد أصدرت تعليمات ممارسة الأجانب للعمل في العراق رقم (18) لسنة 1987 المعدلة بالتعليمات رقم (4) لسنة 1989. ووضعت الوزارة شروطاً لمنح إجازات العمل لمكاتب التشغيل تضمنت الأخذ بنظر الاعتبار مدى حاجة العراق إلى الأيدي العاملة الأجنبية بعد التثبت من ذلك من قبل دائرة العمل وأقسامها في المحافظات. كما اشترطت على العامل الأجنبي اتباع سلسلة من الإجراءات للحصول على اجازة العمل، كأن يتقدم بطلب تحريري يتضمن جميع المعلومات التي تتعلق بمؤهلاته مع بيان نوع العمل ومدته واسم صاحب العمل وعنوانه الكامل.

لكن الواقع على الأرض لا يشير إلى اتباع هذه الإجراءات مطلقاً، فمكاتب التشغيل الخاصة تنتشر في المحافظات الجنوبية وبغداد، وتستقدم العاملين من كافة الجنسيات بطريقة عشوائية تتداخل في معظم الأحيان مع ملفات الفساد الحكومي.

اتجار بالبشر

محمد التميمي، وهو محامي مختص بقوانين العمل يؤكد “هزالة” الآليات المتبعة في متابعة سوق العمل وتنظيمه، بدءاً من عدم وجود أوراق رسمية لتأسيس مكاتب التشغيل التي انتشرت على مساحة البلاد وليس انتهاءً بعدم التزام المجازين من أصحاب تلك المكاتب بقانون وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وصولاً إلى قصور التشريع وتعقيدات إجراءات التقاضي.

بحسب التميمي فإن هذه الأسباب وغيرها “تُسهم في ضياع حقوق العمال الأجانب وتجعلهم عرضة لأطماع الجشعين الذين يمارسون عمليات بيعهم من وإلى مختلف محافظات البلاد”. إذ تكشف وثائق حصلنا عليها من دائرة الإقامة في ذي قار أن العشرات من العمال البنغال والهنود يقبعون حالياً في سجون الشرطة بسبب دخولهم غير الشرعي أو عدم امتلاكهم رخص عمل. ويحذّر التميمي بأنَّ بعض الممارسات المتخذة مع العمالة الاجنبية تدخل ضمن ما بات يعرف “بالإتجار بالبشر” وهو ما يفترض أنْ يضع المشرع العراقي حداً له بحسب قوله.

وبين أزمة مالية خانقة تمر بها البلاد بسبب تراجع اسعار النفط، وفسادٍ ينخر في مؤسساتها، تذهب مستحقات العمال الأجانب في مهب الريح. فقد استنفذت الطبيبة السورية “رولا” كل محاولاتها للحصول على حقوقها المالية وقررت أثناء إعداد هذا التحقيق العودة إلى بلدها الأم سوريا. بينما عشرات العمال البنغاليين والهنود يسكنون في الأقبية أو يساقون إلى السجن بتهمة الدخول غير الشرعي إلى البلاد من بينهم شقيق “حسن”. جميع هؤلاء كانوا ضحايا للشركات الوهمية والأجهزة الحكومية التي تعاقدت معها.

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وتحت إشراف كمي الملحم.

نشر التحقيق في صحيفة الحياة بشكل مختصر

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17550}" data-page="1" data-max-pages="1">