انتصار الاختلاف المذهبي على الوحدة القومية
عباس عبد الكريم
في بيت صغير على الطريق الممتد بين كربلاء والنجف، يصارع علي احمد، التركماني الشيعي، لبناء حياة جديدة وتأمين عمل دائم وتشييد منزل، مثل مئات الشيعة الذين فروا من محافظة نينوى عقب سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية عليها، واستقروا في جنوب العراق “لن أعود.. لا اريد ان استيقظ يوما على كابوس ابادة جديدة”.
عائلة احمد المؤلفة من ستة أشخاص، تؤيد قراره في الاستقرار بموطنهم الجديد، والتخلي عن فكرة العودة مستقبلا الى مدينتهم السابقة “تلعفر” والتي فقدوا فيها 13 فردا من أقاربهم وأصدقائهم، يقول ابنه الذي بلغ الـ28 من عمره “سنتحمل كل صعوبات الاندماج نتيجة اختلاف اللغة والعادات وقلة فرص العمل والمتطلبات الأمنية.. لقد نجونا في المرات السابقة من الموت لكن دورته المستمرة هناك قد تحصدنا .. لا نريد ذلك”.
في حزيران 2014، ما أن استولى تنظيم داعش على نينوى، حتى باشر بخططه لإبادة وتهجير الشيعة الذين يعتبرون في حكم التنظيم “خارجون عن الدين” يحلُّ قتلهم، مهدداً بذلك وجود غالبية التركمان، القومية الثالثة، في ثاني أكبر محافظات البلاد، وراسما لواقع سكاني مختلف عما كان عليه منذ قرون، عبر احداث عملية تغيير ديموغرافي كبيرة يصعب اصلاحها.
خلفت عمليات داعش خلال ايام، بحسب “مؤسسة إنقاذ التركمان” التي تتابع ملف ضحايا التنظيم، نحو 1200 حالة اختطاف لمواطنين تركمان جُلهم من شيعة تلعفر ، بينهم 120 طفلاً ونحو 450 امرأة وفتاة. كما وثقت المؤسسة ذاتها، مقتل 416 تركمانياً في نينوى وإصابة 746 آخرين على يد تنظيم داعش في أحداث وقعت بمجمل محافظة نينوى التي فرّ منها اكثر من 200 الف تركماني وأكثر من 360 الف ايزيدي، بحسب نواب ومنظمات مجتمع مدني.
ينتشر التركمان الشيعة بمحافظة نينوى، في كل من قضاء تلعفر ونواحي تابعة ادارياً لمركز الموصل وهي الكُبة، الرشيدية، شيرخان، سادة وبعويزة، ويُقدر عددهم بنحو 250 ألف نسمة، بينهم نحو 125 ألف شيعي في مركز تلعفر، ونحو 75 ألف في الرشيدية وشريخان وسهل نينوى، إلى جانب نحو 50 الف في قرى ومجمعات تابعة لسنجار وتلعفر، بحسب منظمات تركمانية.
هؤلاء كانوا جميعا مهددين بالابادة، وكانوا هدفا سهلا للتنظيم لوجودهم في مناطق سهلية منعزلة وبمحيط ذي غالبية سنية. لكن الادراك المسبق لهم بما ينتظرهم دفعهم للفرار سريعا مع وصول طلائع مقاتلي التنظيم الى مناطقهم، ما مكن معظمهم من النجاة.
ذلك الادراك للكارثة المحتملة، كان نتاجاً لمحاولات التغيير الديموغرافي التي بدأت قبل سنوات من استيلاء داعش على نينوى، عبر المعارك الدموية التي شنها تنظيم “القاعدة” في المدينة والتي تزامنت مع ارادات وطموحات التغيير السكاني التي تبنتها جهات داخلية ودول اقليمية كتركيا وايران كلٌّ وفق مصالحها، والتي ترجمت على ارض تلعفر تصفيات دموية. فقد شهدت المدينة 327 تفجيراً مختلفاً قبل الاستيلاء النهائي عليها من قبل داعش في 22 حزيران 2014، بحسب بيانات لجنة تعويض العمليات الإرهابية في العراق.
تاريخ الحرب الديموغرافية
طبيعة تلعفر التركمانية السنية الشيعية، وموقعها القريب من الحدود السورية والتركية، ومن اقليم كردستان، جعلها بعد 2003 احدى نقاط الصراع الاقليمي كما كانت نقطة ساخنة للصراع المذهبي بين القوى العراقية.
تلك الصراعات خلقت انقساما داخليا عميقا بين تركمان تلعفر من الطائفتين، ترجم الى تصفيات متبادلة امتدت حتى حزيران 2014 حين سيطر مقاتلو تنظيم داعش على المدينة “مدعومين بعشرات من التركمان السنة” من ابناء المدينة الذين شاركوا في عمليات القتل والسبي والنهب ضد مواطنيهم من الشيعة، وهو ما يجعل “العودة الى قاعدة التعايش هراءً عقلياً” بحسب الناشط المدني عبدالله علي، خاصة مع اشتداد الاستقطاب الطائفي وتصاعد تدخلات الدول الاقليمية.
فمحافظ نينوى السابق إثيل النجيفي، اعتبر في حديث صحافي له مطلع 2016، ان سقوط نينوى كان جزءاً من محاولات إيران لإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة لتأمين خطوط تواصل لها الى سوريا عبر العراق، مؤكداً أن إيران تريد السيطرة على تلعفر. وهو رأي يتردد في الأوساط السنية التي تتحدث عن “هلال شيعي” يمتد من ايران الى سوريا عبر العراق، أحد مركتزاته تلعفر.
وتبدي تركيا اهتماما كبيرا بما كان يعرف في العهد العثماني بولاية الموصل التي تضم تلعفر ايضا، وهي تعتبر حماية التركمان “واجباً قومياً”، وقد سعت بوسائل عديدة للمشاركة في معركة الموصل بينها استقدام قوات عسكرية الى سهل نينوى – رغم رفض الحكومة العراقية لتواجدها- بحثا عن دور لها في رسم مستقبل المدينة المتنازع عليها.
الحديث التركي عن حماية التركمان، يعتبره غالبية المواطنين الشيعة “كلاماً زائفاً” يقول لؤي محمود، وهو نازحٌ تركماني يعيش في الحلة “اين كانت تركيا حين فرَّ 200 الف تركماني شيعي من تلعفر، وحين كان يتم تصفيتنا، ولماذا لم تحرك قواتها يومها لمواجهة داعش… جُلّ تصريحات القادة الأتراك تؤكد على نصرة السنة حصرا ولمطامع خاصة، وهذا يزيد من مخاوفنا كونه يحمل رسالة واضحة أنه لا ضمان لنا في حال عودتنا الى مناطقنا”.
مثله يرى عادل محسن، النازح الى محافظة الديوانية “التركمان عموما لم يلمسوا دوراً تركياً طوال العقود الماضية، فقد أعدم صدام الكثير منا ولم تحرك تركيا ساكناً، ومئات العمليات الارهابية استهدفت تلعفر بعد 2003 ولم نرَ دوراً لتركيا لحمايتنا، بل حتى عندما استولى داعش على مناطقنا لم تسمح للنازحين التركمان عموما بدخول أراضيها.. وقامت عبر اتصالاتها باطلاق سراح كادر قنصليتها في الموصل الذين كانوا محتجزين لدى التنظيم في حين انها لم تسأل عن مصير مئات النساء التركمانيات اللواتي خطفهن التنظيم ولا نعلم الى اليوم مصيرهن”.
بعكس الشيعة يرحب التركمان السنة بأي دور تركي في تلعفر، يقول سالم كمال، الذي ترك تلعفر بعد اسابيع من سيطرة التنظيم عليها متوجها الى اربيل “الدور التركي سيكون مفيدا لجميع أبناء تلعفر، فهو سيمنع حصول نزوح واسع للسنة بعد طرد داعش من المدينة خوفا من الجماعات الشيعية المتطرفة المدعومة من ايران وسيسهم بمنع الهجمات الانتقامية المحتملة واستعادة المدينة لمكوناتها، فتركيا يمكن ان تلعب دور توفيقياً، حيث تجمعها القومية مع التركمان الشيعة، ويجمعها المذهب مع التركمان السنة”.
ويوافقه الرأي احمد خليل، وهو تركماني سني يقيم في كركوك “السنة تعرضوا للاضطهاد والتهميش منذ 2003 وظلوا في خوف من الملاحقات الأمنية والتصفيات حتى على الشبهة.. واليوم هم متهمون بدعم تنظيم داعش، والحقيقة انهم كانوا مضطرين للتعايش معه فلم يكن امامهم بديل.. واليوم هم خائفون من انتقام المتطرفين الشيعة ولا يثقون حتى بالجيش وبقدرته على ضبط الأوضاع لأنه مشكل من طرف واحد، ولتبديد مخاوفهم المستقبلية لابدَّ من وجود جهة اقليمية او دولية تمنع حصول تصفيات”.
المراقب السياسي للوضع في تلعفر جمال حسن، ينبه الى عمليات القتل المحتملة “تلعفر ليست الفلوجة ولا الرمادي ولا تكريت، تلك مدن سنية خالصة ومن تورط مع داعش هناك كانوا اناس متشددون او طلاب مصالح من مختلف العشائر، وبالتالي فان تجاوز المشكلة يمكن ان يكون أسهل ولن تكون هناك انتقامات واسعة. لكن في تلعفر الامر مختلف، فالمدينة مقسمة طائفيا، وهنا الحديث عن مصالحات داخلية مستحيل، فالضحايا هم من مذهب واحد ويتهمون ابناء المذهب الآخر”.
وينخرط المتطوعون التركمان من شيعة تلعفر، في احدى تشكيلات الحشد الشعبي لواء محور نينوى (لواء الحسين) والذي يضم نحو ألفي مقاتل. وهناك عناصر من تركمان شيعة تلعفر منضوين تحت تشكيلات عديدة للحشد الشعبي كفرقة العباس القتالية وعصائب أهل الحق وسرايا السلام وحركة حزب الله.
الانتهاكات ومخاوف تكررها
رصد صحفيان ساهما في انجاز هذا التحقيق خلال جولات تقصي في مناطق نينوى والأنبار حالات تهجير متكررة للعوائل التي تورط أبناؤها في الانتماء الى داعش في مناطق نينوى والأنبار.
تقول حمدة وهي امرأة عربية سنية، في الخمسين من عمرها تقيم في احدى قرى جنوب الموصل “سلمت ابني بيدي للقوات الأمنية بعد تحرير قريتنا، لأنه بايع داعش وعمل معهم لمدة شهرين فقط وتركهم دون ان يقاتل الى جانبهم.. سلمته لكي احمي شقيقه الآخر من انتقام من لهم ضحايا على يد داعش”.
رغم ذلك لم تحصل حمدة على الأمان وظلت حياة ابنها الآخر مهددة، تضيف “قام عناصر الحشد العشائري (جماعات مسلحة سنية) باجبارنا على مغادرة القرية وترك بيتنا، وهذا حدث مع آخرين.. والقوات الأمنية أبلغتنا بعجزها عن حماية ابني من انتقام العشائر والأفضل لنا ترك القرية، والان نحن تحت خيمة في مخيم جدعة”.
حسنة، التي تعيش في ذات المخيم، واجهت الأمر ذاته “اخي كان مع داعش وقاتل معه وقُتل لذا اتهموا العائلة كلها بموالاة التنظيم، وحتى بعد موته لم يتركونا بحالنا، رحلوني مع والدتي ووالدي المسنيين، ومنعونا من اخذ اي شيء من بيتنا”.
محمد الجبوري، مهجر آخر من جنوب الموصل “أُجبرنا على ترك قريتنا لأن عمي انضم الى التنظيم وهو الان في الموصل، ورغم ان والدي رفض العمل معهم بل حاربهم، لكن ذلك لم يشفع لنا، والان نحن في مخيم جدعة وممنوعون من العودة لبيتنا”.
في بعض مناطق الأنبار وصلاح الدين، حدث الامر ذاته، فكل عائلة لديها فرد في داعش، لم يسمح لها بالعودة للمدينة، وان تواجدت في المنطقة طلب منها الهجرة لتجنب حالات الانتقام. عدد كبير من عوائل مقاتلي التنظيم تقيم اليوم في مخيمات النازحين بعامرية الفلوجة، وهناك آلاف المعتقلين من المشتبه بانتمائهم لداعش في معتقل قريب.
واتهمت منظمة العفو الدولية، في تقرير نشر في مطلع كانون الثاني 2017 تحت عنوان «العراق: غض الطرف عن تسليح ميليشيات الحشد الشعبي»، جماعات مسلحة تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي بتنفيذ عمليات إعدام وتعذيب واختطاف، وارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني “بما في ذلك جرائم حرب… دونما أدنى خشية من العقاب”.
وأكدت المنظمة انه «منذ يونيو 2014، أعدمت ميليشيات الحشد الشعبي خارج نطاق القضاء، أو قتلت على نحو غير مشروع، وعذبت واختطفت آلاف الرجال والصبيان» وان بعض هؤلاء تم اقتيادهم من «بيوتهم أو أماكن عملهم، أو من مخيمات النازحين داخليا، أو لدى مرورهم بحواجز التفتيش، أو من أماكن عامة أخرى» وان «الآلاف منهم لا يزالون في عداد المفقودين، رغم مرور أسابيع وأشهر وسنوات على اختطافهم».
وسبق للمنظمة ان اكدت حصول جرائم وانتهاكات لحقوق الانسان في معركة استعادة الفلوجة (50 كلم غرب بغداد) في ايار 2016، واشارت الى وجود افلام تظهر حصول انتهاكات، وفيديو لقائد بجماعة مسلحة يخطاب حشدا من المقاتلين وهو يصف الفلوجة بمنبع الارهاب وأنه لم يبق بالمدينة مدنيون أو مسلمون حقيقيون.
واقر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في 4 حزيران 2016 بـ“وقوع أخطاء، لكنها لم تكن ممنهجة ولن نخفي أي منها”. . ولاحقا اعترفت الحكومة بحصول انتهاكات محدودة وقالت انها شكلت لجنة للتحقيق وتم اعتقال اشخاص لمحاسبتهم.
كما أكدت منظمات دولية حصول انتهاكات في عملية استعادة بلدة آمرلي التابعة لمدينة طوزخورماتو في محافظة صلاح الدين. وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن لديها ما يثبت أن الحشد الشعبي نهب ممتلكات للمدنيين السُنة الذين فروا بسبب القتال، وأحرق منازل ومحال، ودمر على الأقل قريتين.
في تلعفر يخشى متابعون لأوضاع المدينة ان تحصل انتهاكات أوسع، رغم كل الضمانات التي تقدمها الحكومة العراقية، مع المراقبة الدولية والاقليمية للعملية. يقول جلال عمر، وهو ناشط على صفحات التواصل الاجتماعي “نحن نتحدث عن مدينة ارتكب فيها داعش جرائم واسعة وحصلت علميات قتل جماعي وسبي ومحاولة ابادة مذهبية، لذا فان حجم المآساة كبير وبالتالي احتمالات حصول حالات انتقام اكبر بكثير، ما لم يتم ضبط الامور”.
تقسيم المدينة الى جزئين
الخوف من “تداعيات” مشاركة الحشد الشعبي، تنعكس في تصريحات القادة السنة التركمان، فرئيس الجبهة التركمانية العراقية أرشد الصالحي، ابدى في تشرين الثاني 2016 قلقه من اقتراب قوات الحشد الشعبي وقرب محاصرتها لتلعفر “نخشى من وقوع أحداث غير مرغوب فيها”.
وأعرب النائب التركماني بالبرلمان الكردستاني آيدن معروف، عن مخاوفه من تنفيذ الحشد لعملية تحرير تلعفر “نرفض مشاركته في عمليات تسبب حربا طائفيا”، محذرا من محاولات احداث تغيير ديموغرافي فيها.
واتهم النائب التركماني في البرلماني العراقي نبيل حربو، شيعة تلعفر بارتكاب انتهاكات في 2004، معتبرا المدينة بؤرة المشاكل في نينوى “عدم استقرارها سيؤثر على أمن العراق كله، فشرارة الطائفية انطلقت في تلعفر وانتقلت نحو المناطق الأخرى”. واقترح حربو أن يتم تقسيم القضاء إلى قسمين، يكون قسم للتركمان السنة وآخر يكون للتركمان الشيعة، وان تتواجد قوات حماية دولية بالقضاء.
وتتناغم تلك التصريحات مع رؤية بعض القيادات العربية السنية، فالأمين العام للمشروع العربي خميس الخنجر، حذر من ما وصفه بالتبعات المحتملة لدخول قوات الحشد الشعبي إلى تلعفر “هذا التحرك يهدد فعليا بتحويل المعركة من حرب تحرير المدينة من داعش، الى حرب إقليمية طائفية بين ايران وتركيا”.
تلعفر السنية – الشيعية
رغم التطمينات التي يقدمها قادة الحشد، بشأن أي مشاركة لهم في استعادة تلعفر وحفظ الأمن فيها، فان قوى سنية عراقية وحتى دول اقليمية تتخوف من ذلك، وتحذر من تصفيات دامية ستقع في المدينة، مطالبة بمشاركة الجيش حصرا مع ضمانات من جهات دولية لمنع احداث اي تغيير ديموغرافي. لكن العديد من مقاتلي الحشد يبدون امتعاضهم. يقول أمير حسين “اين كانوا حين نفذ داعش عمليات الابادة بحقنا وقاموا بأكبر عملية تغيير ديموغرافي في العراق الحديث خلال ساعات”.
يضيف حسين، وهو يضع بندقية الكلاشيكوف الخاصة به على ركبتيه خلف ساتر لا يبعد غير بضعة كيلومترات عن مواقع التنظيم في تلعفر، فيما تلوح خلفه راية خضراء “يريدون منا ان لا نشارك في استعادة المدينة وحمايتها، ويتهموننا بالطائفية، في حين اننا هُجرنا من منازلنا وتم اسكان مئات الأجانب القادمين من وراء الحدود فيها..هم من حاولوا القضاء على قرون من التعايش السلمي في المدينة ونحن نريد استعادة ذلك”.
يتناقل مسؤولون تركمان، أرقام مختلفة بشأن المقاتلين الأجانب والعرب الذين اسكنوا في تلعفر بعد سيطرة داعش عليها، فالنائبة التركمانية نهلة الهبابي اشارت الى إسكان 300 عائلة أجنبية من مقاتلي التنظيم في بيوت الشيعة في اوج قوة التنظيم خلال العام 2015. وتمَّ اهداء مئات المنازل للمقاتلين القادمين من سوريا او مناطق عراقية اخرى بحسب عضو الهيئة التنفيذية في الجبهة التركمانية نور الدين قبلان، بينها منزل قبلان. كما حولت عشرات المنازل الى مقرات أمنية ومخازن للسلاح والمؤن.
كل منازل الشيعة المقدرة بأكثر من اربعة آلاف منزل وعقار فضلا عن مئات المتاجر والمخازن بما تضمنته من ممتلكات، صودرت وفق فتاوى التنظيم. يقول الامير في التنظيم ابو عبد الرحمن، وهو سوري اقام لفترة وجيزة في المدينة “انها غنائم حرب وتمَّ التصرف بها وفق الشرع”.
يبدي عبدالله داود، وهو نازح تركماني حطَّ الرحال بكركوك، مخاوفه من المستقبل بعد ان ضرب التنظيم النسيج الاجتماعي “لا نعرف كيف ستكون ردود فعل التركمان الشيعة الغاضبين من محاولات داعش محو وجودهم في تلعفر، فقد قتل واختطف المئات وأجبر نصف أبناء المدينة على الفرار ليتحولوا الى نازحين ولاجئين، وجاء بمقاتلين من تركيا والقوقاز ومن الدول العربية صاروا قادة المدينة وتحكموا حتى بمصير سنة تلعفر”.
عقدة المصالحة
ينبه طه صادق، وهو نازحٌ تركماني آخر استقر في الحلة وسط العراق، الى ذات المسألة “بعد كل ما جرى كيف يمكن تحقيق المصالحة وبناء التعايش.. يقينا هي لن تتحقق من خلال البيانات وتوصيات المؤتمرات السياسية والعشائرية.. شهدنا الكثير منها في تلعفر قبل 2014 لكنك ترى اليوم ما حلّ بنا من قتل وسبي”.
ويرى ان المصالحة لن تتحقق ما لم تسلم العشائر السنية أبناءها الذين “تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء” من التركمان والايزيدية والشبك الى القضاء، وإلا فان الباب سيفتح امام “ثارات ستسبب صراعات ومآسٍ أكبر”.
وهذا ما أكده البيان الختامي لتجمع عشائري لشيعة تلعفر عُقد في شباط 2015 بمدينة كربلاء حيث ذكر صراحة أنه “لا مكان للدواعش المجرمين في تلعفر والمنطقة وكلّ من شارك أو تعاون معهم في القتل والخطف والتفجير وسرقة الممتلكات وهدم المساجد والحسينيات والدور السكنية والمؤسسات الحكومية”.
هذا الكلام يعتبره سنة تلعفر ايذانا بطردهم من المدينة، لأن ضحايا تنظيم داعش وجزء كبير من النازحين، يتهمون كل سني لم يترك المدينة بالولاء والتعاون مع داعش اوالقبول الفكري لجرائمه.
وهو ما يؤكده جميل، الشاب التركماني السني، الذي تحدث لمعد التحقيق من تلعفر “اذا دخل الحشد الشعبي فان الكثيرين سيكون امام خياري الرحيل او الاعتقال بالشبهة لحين ثبوت براءتهم، نحن نعرف بما وقع من انتهاكات في ديالى والأنبار، فكيف بتلعفر، كل من بقي فيها سيكون متهما ومهددا وخاضعا للحساب بعيدا عن القانون”.
يضيف جميل “الأمر بالنسبة لنا مرعب، فنحن مطاردون وعالقون بين موتين… فداعش يأمر الناس بالقتال والاستشهاد دفاعا عن المدينة، ويقول لهم ان الحشد سيأتي الى تلعفر مباشرة او تحت عباءة الجيش لينتقم”.
معالجة رعب الانزلاق الكلي الى دائرة التصفيات المذهبية، يتطلب تفاهمات عشائرية وتسويات سياسية تسبق معركة تلعفر، لكن لا شيء تحقق على الأرض رغم ان المعركة قد تقع في اية لحظة، وحتى الاتفاق الذي خرج به مؤتمر اسطنبول الذي عقد في تموز 2015 بمشاركة نحو 80 شخصية تركمانية بينهم نواب ووزراء سابقون وحاليون، بتنظيم اجتماع لرؤساء العشائر والأعيان وأصحاب الرأي من أهالي تلعفر لتحقيق المصالحة، لم يحصل.
ومع ذلك الخطر الماثل أمامهم، يدعو رئيس الجبهة التركمانية ارشد الصالحي، التركمان الى التوحد و”عدم فسح المجال للأعداء بالايقاع بينهم”. الصالحي الذي يقول أن ثلث جغرافية نينوى تعود للتركمان، حذر من النتائج الكارثية على مستقبلهم اذا تخلوا عن أرضهم وانقسموا.
لكن عمار مصطفى، المتطوع في الحشد الشعبي، يرفض الاتهامات، ويرى ان المخاوف التي يبديها بعض القيادات السنية “وراءها مصالح سياسية”. ويقول “ليست لدينا مشكلة مع من لم تتلطخ يداه بدماء الأبرياء بل نحن نريد أن ننقذه من السجن الذي هو فيه الآن، أما أولئك الذين ساهموا بأي شكل في قتل أو خطف أو تفجير مساجدنا أو منازلنا أو سرقتها فلا شك لن نتعاطف معه أبدا”.
الاندماج والتوطين
ينتشر معظم النازحين الشيعة الذين فروا من تلعفر وقرى سهل نينوى، في الحسينيات على طريق النجف – كربلاء، وفي أماكن معدة أصلا لاستراحة زوار المراقد الدينية، ويستقر آخرون في مخيمات أقيمت على أبواب المدينتين، ويقيم البعض في ناحية الحيدرية (40 كم غرب النجف) وينتشر نحو ألف عائلة في مخيم السيدة رقية (10 كم من مركز كربلاء)، فيما فضل عدد صغير منهم الاستقرار في بيوت مؤجرة داخل المدن بالمحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية.
رغم التحديات الاجتماعية والمعيشية، يحاول الكثير منهم الاندماج في بيئتهم الجديدة، فالبعض انخرط في الحركة الاقتصادية كعمال او أسسوا مشاريع تجارية مشتركة مع أهالي المناطق التي استقروا فيها، وتراجعت الحساسيات التي ظهرت في الأشهر الأولى للنزوح والتي فرضها تباين اللغة والثقافة والمنافسة على الخدمات والمساعدات وفرص العمل.
لكن الباحث الاجتماعي رائد عبد الحكيم يرى أن من الصعب توطين التركمان في مدن وسط وجنوب العراق، بسبب اختلاف القومية واللغة والعادات الاجتماعية والعشائرية من جهة، وعدم تقبل أغلب النازحين ترك مناطقهم الأصلية من جهة ثانية، إضافةً إلى عدم تقبل سكان المدن التي نزحوا إليها هذه الفكرة أيضاً.
ورغم أن نحو 680 عائلة تركمانية في محيط كربلاء ابتاعت أراضٍ وشيدّ البعض منهم عليها منازل إلا أن عبد الحكيم يرى انها لا تؤشر عملية توطين “الأراضي التي شيدوا عليها بعيدة عن مراكز المدن وهي أما زراعية أو متجاوزة على القانون، وفي أغلبها تقع على طريق النجف – كربلاء، حيث لا يمكن للنازح شراء أرض داخل المدن لكلفتها الكبيرة وعدم سماح الإدارات المحلية في بعض المحافظات بذلك”.
فقد منع مجلس محافظة كربلاء في 2015 بيع الأراضي والعقارات للنازحين، وأكد قراره للمرة الثانية في تموز 2016 ووعد المخالفين بعقوبات قاسية.
وينبه عبد الحكيم الى “خطورة” القبول باعادة توطين النازحين في مدن غير مدنهم “هذا يحقق الأهداف التي هُجروا بسببها وهي التغيير الديموغرافي في مناطقهم، كما أن ذلك قد يحدث تغييراً أيضاً في ديموغرافية المناطق التي نزحوا إليها”.
شهاب أحمد، اشترى في 2016 قطعة أرض مساحتها 100 م2 على جانب الطريق الواصل بين النجف وكربلاء بمبلغ خمسة ملايين دينار إلى جانب آخرين من أقربائه، البعض منهم يعمل الآن على تشييد منزل له، فيما لا يمتلك هو ما يكفي من المال. يقول: “حتى لو توفرّ المال لدي وشيدت المنزل وسكنتُ فيه إلا أنني لا أفُضل البقاء هنا… ربما سيبقى بعض أولادي المتزوجين هنا وأعود أنا لتلعفر”.
الضمانات المفقودة
رئيس مؤسسة إنقاذ التركمان الدكتور علي أكرم البياتي، مقتنعٌ بعودة التركمان الى تلعفر وباقي المناطق التي تركوها “هو أمرٌ حتميٌ حتى مع المخاطر الأمنية المحتملة رغم كل الويلات التي شهدها التركمان..هي موطنهم الأصيل ولا يمكن التنازل عنه مهما كلف ذلك”.
رغم ذلك لا يخفي البياتي أن عودة التركمان تتطلب ضمانات “لمنع تكرار المآىسي التي وقعت”، محددا اياها بحصولهم على “إدارة ذاتية لمناطقهم وحق حمايتها بأنفسهم” من خلال تشكيل محافظة تلعفر أو دخولهم ضمن إقليم جديد، أو اقليم مع بقية المناطق التي “تضم شركاء حقيقيين لا يغدرون ولا يخونون”، في اشارة الى مكونات المسيحيين والايزيديين والشبك.
ويؤكد البياتي أيضاً على أهمية محاسبة كل “المجرمين والمقصرين من خلال المحاكم الدولية”.
إبراهيم محمد يونس الخانم، رئيس رابطة قلعة تلعفر الثقافية، يرى أن التركمان في العراق متفرقون جغرافياً ما يُصعب تشكيل اقليم خاص بهم “لذا نعتقد أن الحل الأمثل هو استحداث محافظتي تلعفر وطوز خورماتو وبرعاية دولية بعد اعادة الثقة بين أبناء المدينة”.
ويؤكد الخانم، أن الحماية الدولية مطلوبة “بأي شكل من الأشكال وحتى بتواجد قوات فعلية على أرض، ولو بشكل مؤقت، لحين استقرار الوضع وانتهاء الاستهداف التكفيري والفتن”.
تلك المطالب التي تمثل ضمانات للعودة، يتوافق عليها غالبية شيعة تلعفر، وهي في مجملها “تتطلب وقتا وجهدا وارادة سياسية محلية واقليمية حتى يمكن تحقيقها، هذا اذا كانت قابلة للتحقق اصلا” يقول محسن كاظم، وهو مدرس تركماني شيعي يعيش في دهوك منذ ان نزح من تلعفر.
ويتابع “الأهم، هو تحقيق نوع من الحماية الضامنة لأمن الأقليات الدينية والمذهبية والقومية، ومحاسبة المتورطين بقتلهم فلا يمكن السماح للمتطرفين بالهروب وراء الحدود او الاختفاء في الصحراء ليعودوا بعد فترة في اطار تسوية سياسية او عفو برلماني”.
وسط الانقسام المجتمعي والاستقطاب الطائفي، وبيئة الحرب التي تغذيها الصراعات السياسية، تبدو الضمانات المطلوبة لعودة النازحين أمنيات بعيدة المنال، ومعها يستشري الخوف من المستقبل، وهو خوف لا يرتبط بعوائل ضحايا داعش والعنف المذهبي فقط، فنحو 14 عائلة فقط من مجموع مائة عائلة تلعفرية جرى استطلاع رأيها في أيار 2016 من قِبل معد التحقيق، أبدت عدم رغبتها بالعودة حتى مع طرد داعش من المدينة وتحسن الأوضاع فيها. ولم يخفِ أكثر من 52% من المستطلعة آراؤهم خشيتهم على حياتهم رغم رغبتهم بالعودة.
تلك النسبة يراها الناشط حسين كريم، صغيرة ولا تعكس الواقع “نعم، الكثيرون يرغبون بالعودة في ظل التغير الجذري في حياتهم نتيجة الاختلاف الثقافي والقومي اللغوي بينهم وبين شيعة الجنوب، ومع عوامل الفقر وقلة فرص العمل”.
ويستدرك “لكن الغالبية لا تريد العودة وان صرحت بعكس ذلك، لأن البديل أسوأ، والحقيقة انه كلما طالت فترة تواجدهم وتحسن مستوى اندماجهم في البيئة الجديدة فان رغبتهم بالعودة تقل”.
يورد علي عبو رئيس مركز حقوق الانسان في نينوى، جملة من المشاكل التي يعاني منها النازحون التركمان إلى محافظات الوسط والجنوب والتي تُصعب اندماجهم في البيئة الجديدة، على رأسها الوضع المعاشي السيء والبطالة المستشرية في صفوف الشباب، ونقص الخدمات في مواقع النزوح، والاجراءات الأمنية التي تفرض قيوداً مشددة على حركة النازحين فضلا عن “الحالة النفسية السيئة نتيجة طول فترة النزوح، والمعاملة السيئة من قِبل بعض الموظفين الذين يتعاملون مع النازحين كمواطنين من الدرجة الثانية”.
هذا ما يجعل حسين احمد، متشائماً “دورة المعاناة لن تنتهي أبداً، المشاكل التي يعيشها النازحون هنا ومع غياب الاهتمام الحكومي، أكثر من أن تُعد، لكننا لا نملك بديلاً آخر”.
المستقبل المجهول
يرسم كاظم محمود، النازحٌ الى كربلاء، رؤية سوداوية عن مستقبل تلعفر، فهو لا يرى أن دائرة العنف ستنتهي مع قلب صفحة داعش “نار الصراعات المذهبية موقدة ومسبباتها قائمة وقد تشعل حرائقا في اي لحظة، هناك في كل بيت جراحٌ عميقة لا يمكن مداواتها بسهولة”. حتى أولئك الذين لم يخسروا أفراداً من عوائلهم، يشعرون انهم خسروا سنوات من عمرهم في بناء وامتلاك أشياء سلبتها داعش منهم خلال ساعات.
النازح السني الى اربيل احمد سالم، يشارك مواطنه احباطه “حين ستقف في أي موضع بتلعفر ما بعد داعش، ستذكرك ركام البنايات المهدمة والبيوت الخاوية بأن الحياة لن تعود الى سابق عهدها”. يعتقد سالم ان محاولة استعادة الماضي تشبه محاولات داعش في 2015 بناء حياة جديدة في المدينة “لن يتحقق ذلك، سنحتاج الى سنوات لترميم النسيج الاجتماعي”.
ويضيف “أثناء التحرير سيترك الكثير من التركمان السنة المدينة ليقيموا في المخيمات او المناطق السنية القريبة، والشيعة القلقون على مستقبلها سيترددون كثيراً في العودة، والانتقامات المحتملة والشكاوى الكيدية سترسم خطوط مظلمة لسنوات مقبلة”.
ويخلص الى القول “ما لم تحدث معجزة فان التركمان الذين غلبت انقساماتهم المذهبية على توحدهم القومي، سيكونون أكبر ضحايا تنظيمي داعش والقاعدة اللذين نجحا في اعادة تشكيل الديموغرافية العراقية، ومع قلة أعدادهم وتشتتهم على بقع متناثرة في الخارطة العراقية، سيصبحون أولى الاقليات الكبيرة المهددة بالفناء”.
في انتظار ان تضع الحرب أوزارها وينضج القرار السياسي والأمني الداخلي والاقليمي، يواصل علي احمد كفاحه لبناء حياة جديدة بعيدا عن مدينته تلعفر التي يرى انها ستظل لسنوات قادمة في دائرة الصراع الطائفي الدموي، فيما يتطلع نازحون آخرون مثل حيدر جاسم الى العودة في أول فرصة ممكنة “لا يمكننا التخلي عن حياتنا”.
• انجز التحقيق بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية “نيريج”.
التحقيق نشر بشكل مختصر في صحيفة الحياة، وتحت عنوان: تلعفر مدينة التركمان أرض الفتنة المقبلة… ما لم تتداركها الحكومة وقوى الإقليم
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17514}" data-page="1" data-max-pages="1">