تحقيقات استقصائية: إمبراطورية “داعش” العقارية: استثمار أمني ومالي وتلاعب متكرر بالملكيات

إمبراطورية “داعش” العقارية: استثمار أمني ومالي وتلاعب متكرر بالملكيات

تحقيق/ نوزت شمدين وعمران ضاهي

أعتذر عنها العشرات من الموظفين وقبلت خولة السبعاوي المهمة التي رآها كثيرون مستحيلة. ففي ظهيرة يوم قائظ من آب (أغسطس) 2010 قصدت السيدة الأربعينية مبنى دائرة التسجيل العقاري بمدينة الموصل وبيدها حزمة كبيرة من المفاتيح. دخلت غرفة المحفوظات حيث آلاف السجلات التي توثق الملكيات العقارية وبدأت أول يوم عمل محفوف بالمخاطر في واحدة من “ملكيات” الجماعات الجهادية المسلحة.

أحمد العطار كان معاوناً لخولة السبعاوي، وهو محامٍ مختصّ بالتسجيل العقاري يقيم حالياً مع زوجته وابنته في بغداد. يصف ما قامت به المديرة الجديدة آنذاك بـ “الانتحار” . فطوال السنوات الأربع التي سبقت تعيينها لم يجرؤ أحد حتى على الاقتراب من المبنى الواقع في حي الفيصلية بالساحل الأيسر من المدينة التي كانت فعلياً تحت قبضة “المجاهدين”، خصوصاً بعد اغتيال المدير السابق بالرصاص وتدفّق سيلٍ من رسائل التهديد على الموظفين تنذرهم باقتراب أجلهم.

عند زيارتها الأولى اكتشفت السبعاوي أن هناك من كان قد سبقها إلى المكان خالعاً أقفال الخزانات. كانت الملفات والسجلات مبعثرة هنا وهناك، فقررت على الفور تعيين فريق من المحققين. يقول العطار: “اكتشفنا اختفاء وثائق وحجج ملكية تخصّ 25 ألف عقار تخص القسم الشمالي من محافظة نينوى”. ويضيف: “هذه الوثائق سرّية لا يجوز إخراجها من مبنى دائرة التسجيل العقاري ولا تفتح ولا يتم الاطلاع عليها إلا بقرار قضائي”.

لم يتمكن فريق التحقيق الذي شكلته السبعاوي من معرفة الجهة التي سرقت الملفات وبقي الأمر غامضاً إلى اليوم، “لكننا نجحنا في إنقاذ بقية السجلات فصوّرناها وأرسلنا نسخاً منها على أقراص مدمجة إلى وزارة العدل في بغداد وإدارة محافظة نينوى” يضيف العطار.

بأسف يتابع الموظف السابق أن نبوءته بخصوص السيدة السبعاوي قد تحققت. ففي صباح يوم الخامس عشر من شباط (فبراير) 2011 أطلق مسلحون النار على هذه المحامية التي عملت في دائرة العقارات لمدة 17 عاماً فماتت على الفور. كان الملثّمون يهرولون نحو سياراتهم وخيوط الدم تسيل من رأسها دون أن تردّ نقطة التفتيش القريبة من منزلها في حي الوحدة شرقيّ الموصل ولو بطلقة واحدة في الهواء. كل شيء كان محكوما بأمر الجماعات المسلحة وتحت خدمتها.

بمقتلها أعيد إغلاق دائرة العقارات من جديد وبقيت على هذا الحال إلى أن احتل تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” المدينة في حزيران 2014 وسيطر على كافة مفاصل الحياة هناك بما فيها “امبراطورية” ضخمة من العقارات بوثائقها الأصلية.

نزوح من وإلى الموصل

حادثة اغتيال السبعاوي ليست سوى أحد فصول قصة التلاعب بملفات الملكيات العقارية في نينوى. أما البداية فتعود للعام 2006 عام تفجير قبتي الإمامين العسكريين في سامراء واشتعال فتيل الحرب الأهلية. يروي أحمد العطار أن المدينة حينها شهدت موجتي نزوح باتجاهين متعاكسين: نازحون أتوا من قضاء تلعفر (غربي نينوى) إلى ضواحي الجهة اليسرى لمدينة الموصل، وآخرون قصدوا إقليم كوردستان أو دولٍ مجاورة هرباً من أعمال القتل والخطف والتفجيرات. “تلك الحركة من وإلى الموصل والفوضى الأمنية التي رافقتها خلقت الأجواء المناسبة لعناصر تنظيم الدولة، كي يستولوا على مئات المنازل ويتخذوها مقاراً لشبكة كبيرة من الخلايا النائمة”.

يكمل رواية القصة سعيد ثابت، وهو نقيب في الشرطة المحليّة يقول إن شراء المنازل أو الاستيلاء عليها بالتزوير والتلاعب كان سائدا في تلك الفترة، خصوصا مع خلو البيوت من ساكنيها أو عرضها للبيع والإيجار بأسعار زهيدة. ويضيف: “لقد كان هدف التنظيم تأسيس بنية تحتية لحكومة الإرهاب، فحرص على أن تكون جحوره موزعة في كل مكان وهدد مخاتير الأحياء الذين لم يتعاونوا معه وقام بتصفية 33 منهم أسماؤهم موثقة لدينا”.

خارطة عقارية للخلايا النائمة

ضابط في استخبارات الفرقة الثانية للجيش العراقي التي كانت متمركزة في الجزء الشمالي من نينوى قبل انسحابها المدوّي في صيف العام 2014، يمسك خارطة بيده ويشير إلى حزام المباني التي سكنتها خلايا نائمة تمهيداً للسيطرة العسكرية المطلقة وإعلان “دولة الخلافة”.

الخارطة التي رسمها تنظيم “الدولة” تبدأ من المدخل الغربي للمدينة وتحديداً من حي المشاهدة و17تموز، وتمر جنوباً بسوق المعاش واليرموك والموصل الجديدة وصولاً إلى الشرق حيث أحياء سومر ودوميز والصديق، ثم إلى أحياء الكرامة والزهراء شمالاً وصولاً إلى الحدباء، وهي إحاطة محكمة بالمدينة في مناطق شعبية يخنقها الفقر والزحام.

الطوق الذي صوّره الضابط على الخارطة كان يسمح لـ “داعش” بمراقبة ما يدخل إلى الموصل من بضائع قادمة عبر المنفذ الغربي مع سوريا أو المنفذ الشمالي مع تركيا، أو جنوباً من بغداد. ووفق هذه الخارطة العقارية تجمع عناصر التنظيم مع العتاد والسلاح طوال الأشهر الستة الأولى من 2014 مع مشاغلة مستمرة للقوات الأمنية بحرب شوارع يومية وبغطاء من التفجيرات وعمليات الاغتيال.

يتابع الضابط: “عندما حان موعد الهجوم لم يكن داعش بحاجة إلى جيش، فقد كانت هناك خلايا تنخر في جسد قيادة عمليات نينوى التي تهاوت في العاشر من حزيران (يونيو) 2014 وفر مقاتلوها تاركين ترسانة سلاح”. ويختم بالقول: “هذا ما حصل فعلياً، وليس كما نقلت وسائل إعلام عراقية أن بضع مئات من مقاتلي التنظيم أسقطوا الموصل”.

الأقليات أول المتضررين

سعد بهنام عراقي يقيم منذ حوالي عشرين عاماً في ولاية ميشيغان الأمريكية، خسر بيته في حي المهندسين الراقي في الموصل عندما استولى عليه غرباء صيف العام 2012 بعقد بيع مزوّر. يقول: “حين علم أقاربي بأن الإرهابيين استملكوا منزلي التزموا الصمت ولم يجرؤوا على التدخل”.

يوضح بهنام أن تعطيل دائرة التسجيل العقاري مكّن عناصر التنظيم من الاستيلاء على العقارات من خلال دعاوى نقل ملكية “صورية” تنظرها محكمة البداءة وهي محكمة لا تتطلب حضور الطرفين لتثبيت العقد، بل تكتفي بتوكيل وبحضور المشتري فقط. وفي حالة منزله زور أحدهم عقد بيع وهميّ، ووجهت المحكمة إنذارات إخلاء وأصدرت قرار النقل غيابياً. يعلّق القاضي المدني أحمد عبد الله من محكمة البداءة على ما حصل مع بهنام بالقول إن لجوء الناس في ذاك الوقت إلى محكمته “كان الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامنا لتثبيت الملكية ولو أنها ليست الطريقة المثلى”.

بهنام الذي مازال يحتفظ بلهجته الموصلية رغم سنوات الغربة يروي أن المسيحيين الذين لم يخسروا منازلهم آنذاك خسروها لاحقاً مع إعلان “دولة الخلافة” سنة 2014، فرسم التنظيم على أبوابها حرف “نون” كبير بلون احمر. ثم أضاف: “كان الحرف نون يرمز إلى كلمة نصارى. أما بالنسبة لأولاد عمومتي فهو يرمز اليوم الى كلمة أخرى وهي نازحون”.

لا تتوفر إحصاءات رسمية عن أملاك المسيحيين المصادرة من قبل الدولة الإسلامية، لكن أنور هداية ممثل المسيحيين في مجلس محافظة نينوى يشير إلى أن منازل 120 ألف مواطناً مسيحياً ومئة ألف دونم زراعي في الموصل وقضاء الحمدانية وناحية برطلة وكرمليس وبلدات تلسقف وتلكيف والقوش جميعها نقلت إلى “بيت مال المسلمين” وألغيت سنداتها العقارية الأصلية.

الحال نفسه ينطبق على أملاك الشبك والتركمان الشيعة التي صودرت أملاكهم بعد أن وضع على جدرانها حرفاً آخر وهو (ر) أي “رافضي” بحسب موظف سابق في دائرة التسجيل العقاري صادر التنظيم منزله الكائن في منطقة دوميز شرقي الموصل. هذا الموظف يضيف أن التنظيم صادر أيضاً آلاف العقارات لمنتسبي الجيش والشرطة وموظفين وسياسيين ونازحين، وعمد إلى استثمار هذه العقارات كمقار له أو قام بتأجيرها وحتى بيعها. كما تم نهب او مصادرة موجودات المحلات التجارية العائدة للمسيحيين والايزيديين والشبك والتي يستحيل استردادها.

حالات الاستيلاء على العقارات بأشكالها المختلفة، وخاصة تلك العائدة للأقليات، يعتبرها المواطن المسيحي ذو الستين عاما جميل توما، مشكلة بالغة التعقيد. “الأمر لا يتعلق فقط باثبات أن الدار ملك لك في المستقبل إذا طرد داعش من المدينة، بل بامكانية ان تعود الى دارك او تبيعها بسعرها الحقيقي، فلا أحد يصدق أن الجماعات المسلحة سيقضى عليها وستطوى صفحتها وسط الصراعات التي يعيشها البلد”.

الرعب من قدرة الجماعات التكفيرية على العودة مجددا وفرض ارادتها على المدينة عبر خلاياها المنعزلة، شعور يتشارك به الكثيرون من اهالي الموصل، فقد اثبتت تلك الجماعات طوال 13 عاما قدرتها على التناسخ والاستمرار.

يضيف توما “آلاف من رجالات داعش سيحلقون لحاهم ويُغيرون ملابسهم وسيتم تسوية أوضاعهم سياسيا او عشائريا، ليعودوا بعد فترة لتهديدنا مجددا، وفق ذلك لن أحلم بالعودة، وحتى ان استردت منزلي وقررت بيعه فسيكون السعر مخفضاً جدا”.

رغم كل شيء عقارات الاقليات تمثل ارقاما صغيرة، وتبقى الكتلة الأكبر التي استحوذ عليها التنظيم هي بالأساس تلك العقارات الحكومية التي تعود ملكيتها لبلدية الموصل والوقف السني والمؤسسة العسكرية، والذي سعى معدّو التحقيق إلى تقدير حجمها ومقدار الدخل الثابت الذي تدره على خزينة “داعش”.

غنيمة عقارية جاهزة للاستثمار

خلال رحلة البحث عن إحصاء دقيق لحجم الكتلة العقارية في نينوى التي أدارها التنظيم بشكل مباشر وجنى منها مدخولاً ثابتاً في العامين الفائتين، حصلنا على وثائق غير منشورة تعود للعام 2009 وهي المعطيات الوحيدة عن البنية العقارية في المحافظة منذ سقوط نظام صدام حسين. وقد كان علينا أن نفرش خارطة إدارية كبيرة لمحافظة نينوى لكي نتتبع عليها الأرقام الواردة.

تشير الوثائق التي بحوزتنا ومصدرها موظّف في مديرية إحصاء نينوى إلى وجود 560 ألف مبنى في عموم نينوى، من بينها 340 ألفاً واقعة في البلدات والمدن الرئيسة وأكبرها الموصل. كما أن عشرين ألفاً من هذه الكتلة الضخمة هي عقارات تجارية.

يعلق المهندس “أقدم زهير” من مدينة الموصل مؤكداً أن لا تغييرات جذرية طرأت على هذه الأرقام خصوصاً أن سوق البناء في نينوى كان كاسداً في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة الأمنية.

زهير الذي عمل لسنوات طويلة رئيساً للمهندسين في دوائر حكومية عديدة منها بلدية الموصل قبل ان ينتهي به المطاف نازحاً في مدينة زاخو على الحدود العراقية التركية، يضيف أن 60% من العقارات التجارية في المدينة تملكها البلدية (حوالي 12 ألف عقار) وهي بذلك تكون المالك الأكبر في الموصل التي تضم 65 حياً سكنياً وعشرة أسواق شعبية واسعة مع منطقتين صناعيتين. وكانت البلدية قد أجّرت بعقود سنوية تسعة آلاف من هذه العقارات للمواطنين وشركات خاصة، والبقية كانت مشغولة من قبل دوائرها الفرعية أو من دوائر حكومية أخرى. وهنا يتابع زهير: “عندما سيطر التنظيم فعلياً على المدينة وضع اليد على واردات بلدية الموصل في مصرف الرافدين 112  وصار يتقاضى بدلات الإيجار السنوية عن هذه العقارات المستأجرة”.

مائة مليون دولار استثمارات عقارية

أبو يحيى شاب في منتصف عقده الرابع من العمر ينحدر من جنوبي مدينة الموصل، عمل سابقا موظفاً في بلديتها قبل أن ينتقل إلى “ديوان الخدمات” في “الدولة الإسلامية” بعد أن أطلق لحيته وارتدى “الزي الرسمي” المعروف بالزي الأفغاني. في لقائه مع أحد المشاركين في إنجاز التحقيق والذي قدم نفسه مستفسرا عن عقود إيجار البلدية كان الموظف يتباهى بقدرة “الدولة الإسلامية” على إدارة وتطوير موارد المدينة فقال إن ديوان الخدمات يستحصل من المستأجرين بدلات الإيجار السنوية ويعرض العقارات غير المشغولة عن طريق المزايدة العلنية.

ذكر الموظف الذي يكنى بأبي “يحيى” في ثلاث مرات تم اللقاء به، أن الواردات التي تحققت من الأملاك التجارية في الموصل سنة 2015 بلغت (87) مليون دولار أمريكي كبدلات إيجار. ولا ينشر التنظيم أية وثائق تخص ميزانيات “دواوينه” لكن المبلغ المذكور قريب من تقديرات رئيس المهندسين السابق “قائم زهير” الذي احتسب متوسط إيجار العقار التجاري ثمانمئة دولار بزيادة مقدارها 25% عن سنة 2013 خلال فترة إدارة الدولة العراقية.

أبو يحيى، كشف عن أن العقارات التي تحقق أعلى بدلات إيجار هي ساحات سيارات الأجرة في باب الطوب وباب الجسر وكراج الشمال وباب سنجار وساحات وقوف السيارات المنتشرة في عموم مناطق المدينة فضلاً عن (علاوي) الخضر والفواكه والورش الصناعية في كلا المنطقتين الصناعيتين في جانبي المدينة، والعمارات التجارية في باب الطوب والسرجخانة وباب السراي ومتنزهات ومطاعم غابات الموصل.

وقال ان مبالغ جباية غرامات فورية حصلت عليها بلدية الموصل من المواطنين كانت بواقع مليار ونصف المليار دينار شهرياً (مليون وربع المليون دولار أمريكي) وهي عن رمي النفايات في المناطق غير المخصصة والتجاوز على شبكات المياه والمجاري والبناء أو إضافة مشيدات على العقار دون إجازة بلدية، ما يعني وصول 15 مليون دولار أمريكي إضافية إلى خزينة “داعش” لسنة 2015 من الغرامات. اهتزت لحية “أبي يحيى” الكثة وهو يفرش يديه في الهواء قائلاً:” كانت دولة المرتدين قبلنا فاسدة ومرتشية والإيجارات عرضة للسرقة والمساومة ولا غرامات تفرض على المتجاوزين. انظر الآن شوارع الموصل نظيفة والمستأجرون يدفعون بدلات الإيجارات بمواعيدها”.

مليونا دولار من الوقف السني

تنظيم “داعش” وجد نفسه وريثاً أيضا لأملاك الوقف السني ومعظمها عقارات سكنية تبرع بها أهالي المدينة لاستثمار عائداتها في إدارة الجوامع وصرف رواتب الأئمة والخطباء والمقيمين والمؤذنين منها. وتشير الإحصاءات التي لدينا ومصدرها موظفون سابقون إلى أن دائرة استثمار الوقف السني تمتلك ما يزيد عن (1600) داراً سكنية مستقلة أو ضمن مساحة الجوامع والمساجد كانت تؤجرها إلى موظفي الوقف لقاء مبالغ رمزية. كما أن هناك نحو ألفي عقار تجاري بين عمارة ومحلات وورش صناعية تتبع الوقف، وهي موزعة في داخل الأحياء السكنية بالمدينة وسوق باب السراي -أكبر أسواق الموصل الشعبية- وباب الطوب والدواسة وشارع حلب.

خطيب جامع وموظف سابق من الوقف السني مازال يقيم في الموصل ويشغل داراً سكنية من أملاك الوقف ويدفع إيجارها بانتظام أشار إلى أن القيمة الوسطية لبدلات الإيجار الشهرية لهذه المنازل رفعها التنظيم إلى حدود الـ (75) ألف دينار شهرياً (حوالي 65 دولار أمريكي) ما يعني أن وارداته السنوية عن مساكن الوقف السنية فقط قد بلغت المليون وربع المليون دولار سنوياً.  أما عقارات الوقف التجارية التي يبلغ عددها 890 عقاراً فيقول آخرون تواصلنا معهم، إن التنظيم رفع أيضاً أسعار إيجاراتها إلى نفس الحد الوسطي تقريباً. وبذلك تكون أملاك الوقف السني عموماً قد وفرت لـ”داعش” حوالي مليوني دولار سنة 2015 غطى منها رواتب خطبائه وموظفيه الذين عيّنهم في الجوامع والمساجد، ومدرسي الدورات الدينية للأطفال ضمن مشروع “أشبال الخلافة”.

“داعش” يفرض كفالات عقارية

فضلا عن الرقم الثابت المقدر بأكثر من مئة مليون دولار أمريكي حصل عليها “داعش” سنة 2015 من قطاع العقارات، وصلت إلى خزينته عشرات ملايين الدولارات من بدلات تضمين الأراضي الزراعية وإيجارات آلاف المنازل الخاصة المصادرة من المسيحيين والشبك والايزيديين والموظفين والعسكريين.

من خلال جولات رصد كثيرة على مدار خمسة أشهر بدءا من شهر نيسان (أبريل) الفائت، توصل معدو التحقيق إلى أن التنظيم قام بتأجير المساكن الفخمة التي استولى عليها في أحياء العربي والضباط والبعث (سابقا) والمهندسين والمجموعة والزراعي والثقافة والزهور بمبالغ تصل إلى 200 ألف دينار شهرياً (حوالي 170 دولار أمريكي) وتنخفض قيمة الإيجار بالنسبة للمنازل في باقي الأحياء لتصل إلى مبالغ رمزية لا تتجاوز خمسة آلاف دينار. لكن المحصلة العامة من الواردات تزيد عما حصل عليه من عقارات بلدية الموصل والوقف السني مجتمعين نظرا لكثرة أعداد المنازل المصادرة.

لكن هناك مصدراً آخر للدّخل لا يقل أهمية عن المذكورة أعلاه يتمثل في “الكفالات العقارية” وهي السبب الذي أبقى “مؤيد منصور” محتجزاً  مع أولاده وزوجته في الموصل دون أن يتمكن من الالتحاق بأقاربه المتواجدين في مدينة السليمانية. “لكي تغادر الموصل عليك تقديم كفالة عقارية بمعدل سند عقار واحد عن كل شخصين من العائلة” يقول منصور، ويتابع: “هذا يعني ثلاثة عقارات إذا كانت العائلة مؤلفة من ستة أشخاص”.

قبل ساعات فقط من قيام “داعش” بحجب الإنترنت مطلع شهر تموز (يوليو) الماضي عن عموم مناطق نينوى كتب لنا منصور عبر خدمة “الفايبر” قائلا: “أنا وشقيقي لسنا موظفين ولا علاقة لنا بالدولة أو الحكومة. اعتقدنا أن بقاءنا في المدينة سيجعلنا نحتفظ بمنزلينا” وعاد ليستدرك: “لكننا بالمقابل فقدنا حريتنا”.

بحسب منصور وآخرين التقيناهم يطلب التنظيم كفالة شخص يحاسب في حال عدم عودة المغادر الذي يقدم عذر العلاج في معظم الأحيان كذريعة. ويطلب مبلغ كفالة انخفض مقدارها مؤخراً إلى أربعة آلاف دولار أمريكي عن كل شخص، وإن لم يعد المكفول توضع شارة حجز على سند العقار ويتم لاحقاً نقل ملكيته إلى الدولة الإسلامية.

داعش يطبق إجراءات الحكومة

بعد شهرين فقط من انسحاب الجيش العراقي من نينوى قررت وزارة العدل العراقية إيقاف عمليات نقل الملكية وتسجيل العقارات في المحافظات التي تصفها بالسّاخنة أمنياً وهي نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين “حتى إن تم تسجيلها بالإكراه فهي تعتبر باطلة ضماناً لحقوق الساكنين في هذه المناطق والأقليات” بحسب بيان الوزارة الصادر آنذاك. أما “الدولة الإسلامية” فأصدرت قراراً موازياً قضى بـ “مصادرة عقارات الكفار والمرتدين”.

أحمد أمين واحداً من “المرتدّين” الأكثر تضرراً من هذا القرار. فقد خسر مشروعاً للدواجن هو الأكبر من نوعه في نينوى يتضمن حلقة إنتاج متكاملة على مساحة 61 دونم (الدونم في القياسات الرسمية العراقية 2500 متر). إضافة إلى ذلك صادر التنظيم أملاكاً أخرى له وهي ثلاثة معامل علف ومجزرتي دواجن ومخزن تبريد وأربعة حقول تربية دجاج مع ستّة عقارات سكنية يملكها في مناطق متفرقة من الموصل ومحلاً لتسويق منتجاته في حيّ الجزائر.

كان أمين يتحدث من مكتبه البديل في مدينة بابل جنوب العراقي والتي نزح إليها وبدأ عمله فيها مجدداً بنفس مهنته القديمة وهي تجارة الدواجن. يقول إن جميع عقاراته بيعت وقام المشترون بإجراء الكشف ودفع رسم البيع البالغ 3% من قيمة العقار وجرى نقل الملكية بإصدار سند عقاري يحمل شعار الدولة الإسلامية والإشارة إلى جنس العقار ومشيداته، وهي ذات الإجراءات تقريباً التي كانت تتخذها دائرتا التسجيل العقاري (الأيسر والأيمن) في الموصل من إقرار البيع والشراء.

بالنسبة لتاجر الدواجن هذا فإن المشكلة أن أملاكه بيعت أكثر من مرة. “لقد غير التنظيم من طبيعتها جاعلا من العقار التجاري سكنياً والعكس، كما أن هناك مبانٍ شُيّدت فوق الأراضي لا أعلم كيف سيسوّي القضاء أوضاعها”. ويضيف: “سأواجه مشكلة عويصة عند خروج داعش من المدينة، إذ سنتقابل انا وبقية المشترين عند القاضي والكل يدّعي ملكية العقارات”.

ذات الأمر تكرر مع عدد كبير من أصحاب المشاريع والمعامل الانتاجية المختلفة والمخازن والمحلات التجارية في سهل نينوى حيث يعيش المسيحيون والايزيديون والشبك، التي نهبت أو صودرت وتناوب على شراء معداتها وموجوداتها أكثر من شخص.

ففي بلدة بعشيقة وحدها كان هناك 51 معملا لانتاج الراشي بقدرات انتاجية مختلفة، ومعامل أخرى للانشاءات والدواجن وزيت الزيتون فضلا عن عشرات من محلات بيع المواد الإنشائية وقطع غيار المكائن ومخازن المشروبات والملابس، والتي نهبت بالكامل ولا يمكن استعادتها. والأمر ذاته حدث في سنجار، حيث نهبت او صودرت ممتلكات المسلمين الكرد السنة والشيعة الذين تركوا المدينة، كما ممتلكات الايزيديين في القرى والمجمعات السكنية التي دمرت بيوتها بنحو شبه كامل وفر منها اكثر من 400 الف انسان، لم يجر الى الآن احصاء خسائرهم المالية، كما خسر المواطنون الشيعة في تلعفر ممتلكاتهم التي نهبت بدورها بعد نزوحهم الى جنوب البلاد.

مخاوف من “تسييس” الملف

لم يتوقف الأمر عند ذلك، فآلاف الأملاك السكنية أو التجارية تغيرت طبيعتها في السجلات فلم يعد لأسماء المالكين القدامى أثر، بل وتمادى التنظيم أكثر عندما باعها لتصبح الخصومة بين المواطنين أنفسهم. وقد سجلت الفترة التي انطلقت فيها عمليات تحرير الموصل لجوء مشتري العقارات إلى عرضها للبيع مجدداً وبأسعار لاتصل الى 10% من قيمة العقار الأصلية. ويقدر حجم الضرر استناداً إلى الإحصاءات التي جمعها فريق التحقيق بنسبة  40 بالمئة على الأقل من مجمل عقارات المحافظة.

بهدوء علّق القاضي حسن محمود على هذه الممارسات بالقول إن “لا قيمة قانونية لتصرفات داعش”. هذا القاضي عمل سنوات طوال في محكمة جنايات الموصل عضواً ورئيساً، وكذلك نائبا للمحافظ السابق أثيل النجيفي، ويضيف: “متى ما أبرز المدعي صورة قيد تثبت ملكيته للعقار قبل سيطرة التنظيم على الموصل تنتهي الدعوى لصالحه”.

وتطرق القاضي إلى أهمية الدور الذي لعبته مديرة التسجيل العقاري خولة السبعاوي بنسخها سجلات التمليك وإرسالها إلى بغداد وتابع: “بفضل هذه السيدة الشجاعة نستطيع على الأقل أن نتحقق من هوية صاحب الملكية الأصلي، ولا سيما أن كثيرين في مناطق النزوح بإقليم كردستان أو غيرها يحتفظون بنسخ من سنداتهم العقارية معهم أينما ذهبوا”. لكنه لم يشر الى السجلات التي جرى التلاعب بها وسرقتها قبل أن تتم عملية النسخ.

وهو ما نبه اليه قاضٍ آخر من محكمة بداءة الموصل فضل عدم ذكر إسمه من أجل سلامة باقي أفراد أسرته المحتجزين داخل المدينة “مطالبات المواطنين بتعويضهم عن الضرر الذي وقع على عقاراتهم سوف تستغرق وقتاً طويلاً كما أن هناك الآلاف من حجج الملكية سرقت في فترة إغلاق السجل العقاري ولا تتوفر عنها نسخ أصلية”.

بل إن الصورة تبدو أكثر تعقيداً في المناطق الريفية حيث ألغى التنظيم العقود الزراعية المبرمة بين دائرة الزراعة والفلاحين “ولمّا كانت هذه الأراضي تقع ضمن مناطق قبلية فمن المتوقع أن تنجم فضلا عن المشاكل القانونية خلافات عشائرية عميقة أيضاً” بحسب القاضي.

الشيخ أحمد عبد الله أحد شيوخ عشائر الجبور، أحد الأمثلة عن شكل النزاعات المحتملة القادمة. فهو يشدد من الآن على ضرورة استعادة أراضيه المنهوبة ليس عبر القضاء بل من خلال الفصل العشائري والاقتصاص من المشترين الجدد وترحيل كامل أفراد عشيرتهم. وقال بغضب شديد: “أين كانت الدولة عندما سرقوا أرضي؟ وهل تظن أننا سننتظر سنوات حتى تأخذ العدالة مجراها؟”.

بيد أن أكثر ما يخشاه قاضي محكمة البداءة بعد تحرير نينوى هو تداخل ملف العقارات مع ملف الصراع على حكم المحافظة بين الأقطاب السياسية المختلفة. “القوى الشيعية والكردية والسنّية التي تحارب داعش اليوم ستطالب غداً بحصتها” يقول القاضي “وبدأت التقارير الدولية تتحدث من الآن عن عمليات تهجير قسري وهدم منازل مدنيين بذريعة تعاملهم مع داعش، وهو ما سيعرّض ملف الملكيات العقارية للتسييس في المستقبل ويضع الجهاز القضائي تحت ضغوطات شتّى”.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية وتحت اشراف كمي الملحم

ملاحظة: أرقام السجلات المفقودة (تحتوي على ٢٥ ألف عقار):

 596- 621- 678- 743- 832- 922- 940-950-959- 983-990-1050- 1097- 1250-1275-1278- 1347- 1381.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17510}" data-page="1" data-max-pages="1">