تحقيقات استقصائية: «أشبال البغدادي»… ألغام المستقبل المجهول في غياب خطط ما بعد التحرير

«أشبال البغدادي»… ألغام المستقبل المجهول في غياب خطط ما بعد التحرير

أطفال جنّدهم «داعش» من السجون والمدارس والجوامع … وحوِّلهم من ضحايا إلى قَتَلة

تحقيق: محمد عواد

دخلت سيارة بيضاء اللون تحمل راية “الدولة الاسلامية” حي المطاحن الشعبي غربي مدينة الموصل وتوقفت وسط زقاق ضيق مكتظ بالسكان. ترجل منها ثلاثة مسلّحين، توجهوا نحو منزل فلاح عبيد، وطرقوا بابه. “مبارك يا شيخ!” قال أحد الثلاثة وهو رجل ضخم ملتحٍ، لصاحب المنزل ويده اليمنى تربت على كتفه. “ولدك رفع رأسك.. استشهد مقبلاً غير مدبر وسيكون شفيعاً لك إنشاء الله عند ربّ العالمين”.

ساد الصمت المكان، واكتفى أهالي الزقاق الذين تجمهروا، بالنظر في وجوه بعضهم البعض، فيما دخل الأب مطأطئ الرأس الى باحة منزله ليعلو بعد قليل صراخ الأمّ والأخوة في الداخل. بهذه الطريقة أبلغ تنظيم “داعش” عن مقتل سالم فلاح عبيد في منتصف أيلول (سبتمبر) 2015، بحسب عبدالله، احد جيران عائلة سالم.

لم ينه سالم ذو الـ 16 عاماً دراسته الابتدائية، فهو الابن الخامس لعائلة نزحت من قضاء سنجار إلى حي فقير في الموصل عام 2009 إثر موجة جفاف ضربت المحاصيل الزراعية آنذاك. قبل سيطرة “داعش” على محافظة نينوى كان يعمل في ورشة صغيرة لصناعة الأدوات البلاستيكية يملكها أحد معارف والده. يصفه صاحب الورشة بأنه كان “صبياً خدوماً ومهذّباً، خفيض الصوت وخجول الطبع”. لكن سلوكه ومظهره بدأ يتغير قبل أن تبزغ ذقنه.

أواخر عام 2014 ترك سالم العمل في الورشة. أطال شعره وارتدى ما يعرف باللباس الأفغاني، وبدأ يتولى مهام داخل المدينة ضمن ما يسمى بالشرطة الاسلامية. “صار يتردد علينا أحياناً لإلقاء السلام لا أكثر”، يتابع ربّ عمله السابق.

في مجلس العزاء الذي أقيم لسالم في الحي، كانت صورة الصبيّ وأحاديثه الأخيرة عن “الجهاد والشهادة” حاضرة في أذهان عائلته وأقربائه وأصدقائه، وهي كل ما تبقى منه، فجسده كان قد تطاير إلى أشلاء عندما نفذ عملية انتحارية بمركبة ملغومة عند مصفاة بيجي في محافظة صلاح الدين.

جاره الذي كان حاضراً مراسم العزاء يقول إن سالم وزع حلوى “السّجَق” في الحيّ قبل أسبوعين من مقتله فرحاً بظهور اسمه في قرعة الانتحاريين. “ظنناه يتفاخر فقط ولم نعتقد أنه سينفذ فعلاً عملية انتحارية”.

هذا الصبي واحد من آلاف يستخدمهم تنظيم “الدولة الإسلامية” وقوداً في حربه بأساليب مبتكرة، منذ أن فرض سيطرته على محافظة نينوى ومركزها الموصل في حزيران (يونيو) 2014 وأزال الحدود مع الجارة الغربية سوريا.

ففي معارك بيجي وتكريت وسهل نينوى وأطراف كركوك كما في الرمادي وبلدات محافظة الأنبار ومؤخرا الفلوجة، استخدم التنظيم مئات الانتحاريين، لاحداث اختراقات في صفوف البيشمركة والجيش العراقي وميليشا الحشد الشعبي ولوقف تقدمها.

من أشبال القائد إلى أشبال الخلافة

بحسب مسؤولين محليين بنينوى، يقدر عدد الذكور دون سنّ الـ 18 عاماً في المحافظة بحوالي 750 ألف نسمة. تمهيداً للغزو جنّدت الجماعات المسلحة العشرات منهم في عمليات اغتيال بالمسدسات الكاتمة والعبوات اللاصقة استهدفت وجهاء محليين وموظفين حكوميين. “كانوا يستغلون خفة حركة الصغار وعدم إثارتهم للانتباه”، يقول اللواء مهدي صبيح الغراوي قائد العمليات السابق، في إفادته أمام اللجنة البرلمانية حول أسباب سقوط الموصل.

ولم تمض أيام قليلة على إعلان “دولة الخلافة” حتى بدأ التفكير بزج هؤلاء الصبية مع أبناء القادمين من دول آسيا الوسطى وأوروبا والمغرب العربي في تنظيم خاص بهم. إذ تشير وثيقة مسربة بعنوان “مبادئ في إدارة الدولة الإسلامية” كتبت في الأيام الأولى للغزو إلى ضرورة “مراعاة التغيير الاجتماعي والتربوي الذي حصل بعد الفتح”. ويصف كاتب الوثيقة، ويدعى أبو عبد الله المصري، أهمية “توطين المهاجرين الجدد وعائلاتهم في دولة الإسلام” وبناء معسكرات تدمج الأطفال من أبناء “المهاجرين” و”الأنصار”، وتكون اللغة العربية هي السائدة فيها.

هكذا وخلال أسابيع ولد مشروع “أشبال الخلافة” الذي يستهدف كل طفل ذكر دون تحديد سن معين للتكليف. بل إن التنظيم وفي معرض مبالغته في الحشد للمشروع نشر صوراً لرضيعٍ يستلقي إلى جانب الراية السوداء وأسلحة رشاشة تحيط به.

يقول أحمد الجبوري، مدرس سابق في جامع “فتحي العلي” غربي الموصل، ان الإعلان عن افتتاح معسكرات لتدريب الأطفال في نينوى بدأ في شهر أيلول (سبتمبر) 2014 ومعه تقلصت عمليات إرسال الأولاد إلى الجانب السوري وتركزت على حالات خاصة فقط “وصلتنا في الشهر نفسه توجيهات من ديوان الدعوة والمساجد بتعميم اسم “أشبال الخلافة” أثناء الخطب والدروس”.

يصعب العثور على نظير لتسمية “الأشبال” في ماضي الجماعات الجهادية في العراق. فالفصيل الوحيد المكون من صغار السن كان ذاك الذي أعلنت عنه قبل نحو عشر سنوات خلايا القاعدة في ديالى وحمل اسم “طيور الجنة”. لكن يمكن العودة بالتسمية إلى عقد التسعينات من القرن الماضي عندما زجّ نظام صدام حسين بطلبة المدارس ضمن تشكيلات “جيش فدائيي صدام” وحملوا إسم “أشبال القائد”. الفارق أن توظيفهم آنذاك كان مقتصراً على الدعاية الحربية، إذ لم تشر أي من المصادر إلى مشاركتهم الفعلية في القتال كما يحدث الآن.

دروس التكفير على الشبهات

يكشف الجبوري، أن الخطوات الأولى لمشروع “أشبال الخلافة” بدأت بوضع اليد على المراكز الدينية. فقد شن التنظيم حملة اعتقالات واسعة طالت مئات الأئمة والخطباء خصوصاً أولئك المقرّبين من الحزب الاسلامي (جزء من حركة الإخوان المسلمين). “هؤلاء كانوا يسيطرون على جلّ الوظائف وبالتالي على حلقات الدروس الدينية المخصصة للأولاد” يقول.

الرجل الذي تحدث عبر خدمة “الفايبر” ينوّه إلى خطورة ما حصل. فنينوى تحتل المركز الأول على مستوى العراق من ناحية عدد المساجد والجوامع، والمسجل فيها رسميا هو 2217، ويتساءل هنا: “ترى، أي وزارة إعلام وأي وزارة تربية، ستكون أقوى تأثيراً من وضع اليد على ألفي جامع ومسجد؟”.

تلقى الجبوري العلوم الدينية طوال ثماني سنوات، وصار بعدها مدرساً. وبعد أن أوكلت له مهمة شرح كتاب “نواقض الإسلام العشرة” لمحمد بن عبد الوهاب لنحو ثلاثين طفلاً قرر أن يلزم بيته ويعتزل التدريس. ويقول موضحاً أسباب اعتكافه “إن مناهج الدورات الحالية تكفّر على الشبهات.. هي تكفّر عموم المسلمين”.

وكمثال على الأثر الذي تحدثه الدروس الدينية الجديدة يقول الجبوري إنه من مجموع 140 صبيّاً شاركوا في دورات جامع فتحي العلي الصيف الماضي انتقل 15 منهم إلى معسكرات للتدرب على السلاح فبايعوا “داعش” وصاروا مقاتلين في صفوفه.

ويؤكد أن الهدف النهائي ليس تجنيد الأطفال بل خلق “مجتمع داعشي بالكامل”. ويوضح: “إنهم يستخدمون الصغار في مسائل الحرب وفي تطبيق الحدود، ويوزعون عليهم الرواتب والغنائم لتصبح كافة الأسر مرتبطة بالتنظيم ومتورطة في أعماله، تتلقى منه المنافع وتتقاسم معه الثارات والدماء”.

طريق الجامع

من السهل ملاحظة الإشارة إلى “المجتمع الداعشي” في أجزاء من مدينة الموصل، خصوصاً عند حلول مواقيت الصلاة. إذ يقدم إلى المساجد عشرات الأطفال بالزي الأفغاني صحبة آبائهم، يبدون لمن يراهم للوهلة الأولى نسخاً كاريكاتورية مصغرة عن مقاتلي التنظيم الكبار، لكن لمن شاهد عدداً منهم وهم ينفذون أحكام القتل العلنية في منطقة باب الطوب وسط المدينة يدرك على الفور أن الطفولة قد انتزعت منهم وبوسعهم فعل أي شيء.

في حي الزنجلي أحد المناطق الشعبية المكتظة غربي المدينة، تتلاصق البيوت الاسمنتية بكثافة إلى جانب بعضها البعض، يقطنها فقراء ومتوسطو دخل. هناك تعرّف معدّو التحقيق في شهر آب (أغسطس) 2015 إلى 23 صبياً من المبايعين، تخرّجوا في دورات شرعية وعسكرية، منهم تسعة أطفال كانوا من المواظبين سابقاً على المشاركة في دوريات كرة القدم للفرق الشعبية، من بينهم كان سمير حمادي (13 عاما).

الطريق الذي كان يوصل سمير إلى ملعب الكرة هو ذاته الذي كان يقوده الى “جامع الهدى” في منطقة الزنجلي حيث التقطته شباك “داعش”. فمنذ أن بلغ سن السابعة وهو يرافق والده الى صلاة الجمعة.

سمير يجسّد جزءاً من التناقض الذي تعيشه المدينة. فقد قتل تنظيم القاعدة (اصبح لاحقا الدولة الاسلامية) والده قبل نحو ثلاث سنوات بتهمة الترويج للانتخابات المحلية. رغم ذلك انتمى إلى “أشبال الخلافة” بتأثير رفاق الكرة والجامع الذين كان يقضي معهم وقتا أطول مما يقضيه في البيت.

أحد المدرسين في الدورات التي كان ينظمها “جامع الهدى” وشارك فيها سمير لثلاثة مواسم قبل سيطرة “داعش” على الموصل يقول بان “استعراضات مبايعة داعش تجذب المراهقين”، مضيفاً: “عندما أردت اقناع الطفل بالعدول عن المبايعة بحكم علاقتي بعائلته أجابني مبتسماً: أستاذ يجب ان نذهب جميعنا إلى الزر، لأن الله سيكون في استقبالنا، وكان يقصد الزر الذي يضغط عليه الانتحاري ليفجر سيارته أو حزامه الناسف”.

صالح الذي لم يتجاوز 14 عاما كان أيضاً من فريق حي الزنجلي لكرة القدم. اعتاد قضاء معظم يومه خارج المنزل واللعب مع رفاقه خاصة بعد توقفه عن الدراسة كآلاف الطلاب. في صبيحة احد الايام قبل أربعة أشهر خرج ولم يعد. يقول أبوه: “بحثنا عنه في المستشفيات والطب العدلي ومخفر الشرطة الإسلامية القريب ولم نجده. أمضيت الليلة دون نوم، وفي اليوم التالي علمنا أنه التحق بمعسكر التدريب في منطقة صحراوية بقضاء البعاج”.

يتابع الوالد: “قصدت المعسكر صحبة قريب لي تربطه معرفة بأحد المسؤولين هناك، وتمكنا من لقاء القيادي وطلبنا منه إعادة ابني، فخرج الرجل بمفرده وبعد ساعة عاد ومعه صالح الذي بدا متعباً. عندما رآني علت وجهه ابتسامة عريضة”.

حين وصل والده، صالح لم يكن قد بايع التنظيم بعد. قال قريبه “لحسن الحظ وصلنا سريعا، وإلا كان صعباً علينا استرجاعه”.

دفعات “المجاهدين” الأشبال

سمير وصالح رغم صغر سنهما، لا ينتميان إلى الجيل الأول من مشروع الأشبال. فكما تشير شواهد عدة، تم التقاط الدفعات الأولى من الصبية من السجون أو من أبناء المقاتلين الذين شاركوا في عملية اقتحام المدينة.

وبقدر تعلق الأمر بمحافظة نينوى فإنه حتى حزيران (يونيو) 2014 كان في الموصل أكثر من 500 سجين وموقوف دون السن القانوني، 65% منهم مدانون بالإرهاب. “نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا في الحقيقة أبرياء اعتقلتهم الأجهزة الامنية لابتزاز عائلاتهم أو لأسباب طائفية”، يقول يونس الجبوري، ضابط شرطة برتبة مقدم، ويتابع “لم يكن ثمة عزل بين الأحداث لذلك كان من السهولة تجنيدهم”.

أبو عبيدة، خطيب مسجد في شرقي الموصل بايع “داعش” حفاظاً على حياته، يؤكد هو الآخر أن أول دفعة متطوعين دون سن الـ 15عاماً كانوا أقرباء لمقاتلين أو سجناء سابقين، وقد انطلقت إلى مدينة الرقة السورية مطلع تموز (يوليو) 2014، إذ لم يكن هناك وقتها معسكرات داخل نينوى.

من بين هؤلاء كان حاتم، عمره اليوم 15 سنة، لديه أشقاء ثلاثة معروفون قبل الغزو بنشاطهم في التهريب عبر الحدود السورية العراقية. أمضى حاتم ثلاثة أسابيع في سوريا عاد بعدها بهيئة جديدة محاكياً جنود “داعش” في الزيّ وطريقة الكلام.

يقول أبو عبيدة إن “الصبي بعد تخرجه من الدورة صار يتصرف وكأنه رجل بالغ، يشارك في مجالس العزاء ويتحدث إلى رجال بعمر والده، يعظهم ويأمرهم بتقوى الله”. ومع أن حاتم لم يشارك في أي من الأعمال القتالية، إلا أنه يقود اليوم سيارةٍ رباعية الدفع ويرافق وفود ديوان الدعوة والمساجد في زيارات إلى المدارس لحثّ التلاميذ على المبايعة، مستشهداً بنصوص دينية يردّدها بطلاقة.

أبطال عروض التجنيد

ثمة خطوات مساعدة ابتكرها “ديوان الدعوة والمساجد” لجذب الأحداث وتجنيدهم في صفوفه، منها “القوافل الدعوية”، وهي شاحنات ركاب تحمل ملصقات ترويجية تجول الأماكن العامة كالمنتزهات والأسواق، وتؤدي عروضاً في الهواء الطلق، أبطالها لا تتجاوز أعمارهم 15 عاماً، ما أن يتحلق حولهم الأطفال حتى يبدأوا بإلقاء خطب حماسية.

في مدينة ألعاب الموصل، أكبر منتزهات الأطفال في نينوى والتي تقع في منطقة الغابات، يواظب “الديوان” على تسيير هذه القوافل خاصة في العطل والأعياد، يظهر فيها أولاد مدججين بالأسلحة يروجون للبيعة والجهاد.

أحدهم كان يصيح عبر مكبرات الصوت فيما يتحلق حوله العشرات: “اسمعوا إنني ناصح لكم يجب أن تجاهدوا في سبيل الله وتبايعوا الخليفة”. ويأتي من بعده صبي آخر يحاول تقمُص دور أبو بكر البغدادي حتى في ارتداء الساعة بيده اليمنى، ليردد أناشيد حماسية. أما الأطفال الذين هرعوا راكضين باتجاهه فكانوا ينظرون إليه بإعجاب.

يقول أمين مراد موظف في المنتزه، إن أعضاء التنظيم ينادون بمكبرات الصوت الأطفال للتوقف عن اللعب والقدوم للمشاهدة، ويستعينون بصبية يتمتعون بصوت جهوري وبنية جسمانية سليمة وشعر طويل وشخصية مؤثرة لجذب أكبر عدد من المتفرجين. ويتابع مراد: “يتم توزيع الحلوى على الاطفال وتنظيم مسابقة تتضمن الإجابة على أسئلة دينية، وينال الفائزون جوائز عينية كالألعاب والملابس والكتيبات وغيرها”.

أحد أبطال العروض يدعى عبيدة (12 عاما) تعرف عليه معدو التحقيق عن طريق أحد اقاربه، فهو ابن قيادي داعشي يدعى أبو أسد العراقي قتل بغارة جوية للتحالف الدولي في أيار (مايو) 2015. ونقلاً عن قريب عبيدة فإن الطفل تلقى تدريباً على إلقاء الخطب وحركات هز اليد وفرد السبابة ومهارات التواصل مع الجمهور في المكتب الإعلامي لـ “داعش”.

مراكز دعائية في الأحياء

في موازاة القوافل، ظهرت في آب (أغسطس) 2014 النقاط الإعلامية، بينها أربع نقاط ثابتة توزعت في المناطق المكتظة بالمارة، تركز عملها على بث مواد فلمية وأخبار دعائية فضلاً عن توزيع افلام ومطبوعات، كمجلة “الميسرة” الالكترونية التي يصدرها المكتب الإعلامي لـ “داعش”.

بعد نحو عام ونصف العام صار عدد النقاط الاعلامية أكثر من سبعين، نصفها تقريباً أنشئ عند مداخل الأحياء الشعبية الكبيرة حيث تنصب غرفٌ من الصفيح وتثبت شاشات كبيرة على الجدار الخارجي لها وتزود بحاسوب محمول (لابتوب) موصول بمكبرات صوت، لتكون جاهزة لبث الأخبار والأفلام بين فترة واخرى.

في حي القاهرة شرقي الموصل، حيث توجد نقطة دعائية، تَعَوَد محمود ابراهيم (15 سنة) وأصدقاؤه التردد اليها لقضاء أوقاتهم في مشاهدة ما تعرضه الشاشات، فالأجواء مهيئة هناك والمقاعدة وفيرة. وإذا ما أشاح أحدهم وجهه عن مشاهد قطع الرقاب والأطراف يصرخون بوجهه ضاحكين: “هي هي جبّونة (يا جبان!)”.

هذه النقاط توفر المقررات الخاصة بمعسكرات التدريب مثل مقرر “فقه التوحيد والجهاد”، وهي ترشد من يريد التطوع إلى المكان الذي يجب أن يقصده. الصبي محمود، توجه إلى جامع “الأوابين” في حي 17 تموز بعد صلاة الجمعة، فسجّل إسمه وحصل على موعد الالتحاق بالمعسكر.

معسكر “الأشبال”

منذ أن آل الأمر لـ “الدولة الاسلامية” تولى “ديوان الجند” تنظيم عملية التطويع وتدوين أسماء المقاتلين وتوزيعهم على جبهات “ولاية نينوى” التي تضم الموصل وبلدات اخرى تابعة لها، و”ولاية الجزيرة” التي اعلنت في شباط 2015 وتضم مدن وبلدات غربي وشمال غربي وجنوبي الموصل، والتي تمثل في معظمها خطوط تماس مع القوات الكردية تمتد لأكثر من 250 كم، فضلا عن إرسال مقاتلين إلى جبهات ولايات الأنبار وصلاح الدين وكركوك.

ولكي يتم قبول صغار السن لا بد أن يحصلوا على تزكية أحد عناصر التنظيم، وغالباً ما يكون مقاتلاً أو مدرّساً أو إمام مسجدٍ، فالتطوع عادة يتم عبر الجوامع.

في مطلع حزيران (يونيو) 2015 عصبت أعين محمود وانطلقت حافلة متوسطة الحجم تقلّه مع آخرين إلى وجهة يجهلونها، وفق ما يرويه شقيق المتطوع. طوال الطريق الذي قطعوه كانوا يستمعون إلى أناشيد “الدولة الاسلامية”. توقف الباص وبدأ أحدهم بتحرير أعين المتطوعين الصغار ورحب بهم: “أهلاً باشبال الخلافة!”.

المكان الذي وصفه شقيق محمود هو “معهد عبدالله بن عمر” الذي يحاكي الأكاديميات العسكرية كونه يمزج بين الدروس النظرية الدينية والتدريبات العملية على السلاح والقتال. وهو يشغل بناية جديدة لمدرسة بقضاء تلعفر. وما يميز هذا المعهد أنه يضم متطوعين من مختلف الجنسيات والغالبية فيه تركمان، وهو معروف بالالتزام العالي والتدريبات القاسية والتنظيم والدقة في المواعيد، وتتراوح الدورات فيه بين شهر الى شهرين.

فور وصوله ملأ محمود مع بقية المتدربين استمارات المعلومات الشخصية والتحصيل الدراسي والمهارات الرياضية ومدى الخبرة في استعمال السلاح. بعدها تم انتزاع هواتف المتطوعين المحمولة، ووزعت عليهم بزّات مرقطة موافقة لمقاساتهم.

“في هذا المعهد لا ينادى الأطفال بأسمائهم إنما يكون لكل منهم كنية ترتبط باسم العشيرة أو القرية أو المدينة أو البلد”، يوضح شقيق محمود الذي تحدث إلينا دون أن نفصح له عن هويتنا كصحافيين. وتابع أن اللغة السائدة هي العربية ثم التركمانية حتى خلال التواصل مع أطفال من جنسيات أخرى، “لكن الجميع يحاول تدبر أمر الحديث باللغة العربية، ولو بركاكة”.

يوم في المعسكر

بدأ نشاط محمود، ومعه عشرات الصبية الآخرين، في اليوم الثاني لوصولهم، بالاستيقاظ لأداء صلاة الفجر، تلتها استراحة قصيرة، ومن ثم حصة التدريب البدني وبعدها تناول الفطور، فتمارين الفنون القتالية. وعند الظهر يصلّي “الأشبال” جماعةً، ثم تأتي فترة راحة لنحو ساعتين.

وفي قاعات تشبه صفوف المدارس الحكومية يكون التركيز في الدروس الشرعية على العقيدة السلفية التكفيرية، وأبرزها مقرر في التوحيد والفقه السلفي وفقه الجهاد، وهي إصدارات خاصة بمعسكرات “داعش” أعدتها “هيئة البحوث والإفتاء في الدولة الاسلامية”. وبعد صلاة العصر يبدأ التدريب على استعمال الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، ثم تلقى الدروس الشرعية مجدداً بعد تناول وجبة العشاء.

خلال فترة تواجده، فرض على محمود ورفاقه أن يحفظوا ما لا يقل عن جزء واحد من القرآن (20 صفحة) حتى نهاية الدورة. “الولد ذكي.. لم يجد صعوبة في ذلك.. بل إنه حفظ سوراً إضافية مستغلاً وقت الفراغ قبل ان تدق ساعة النوم (العاشرة ليلاً)”، يقول شقيقه متفاخراَ.

ومع وصول البرنامج إلى مراحله النهائية يقسم المتطوعون حسب قدراتهم ومهاراتهم إلى مجموعات أساسية، وهي القوات الخاصة، والدفاع الجوي، وكتيبة القنص، وجيش الخلافة. ويرسل أضعف الأطفال بنيةً جسمانية إلى جيش العسرة، وهي القوة التي يشكّلها التنظيم عند الحاجة، وتشبه قوات الاحتياط لدى الجيوش النظامية.

يوضح شقيق الصبي المتطوع أن القوات الخاصة تؤدي مهام نوعيّة كالقتال في الأماكن والظروف الصعبة، ويقوم الصبية في هذه المجموعة بمزيد من التدريبات القاسية على الاقتحام وقواعد الاشتباك. أما جيش الخلافة فهو “جيش داعش الاعتيادي” ويضم كتيبة الانغماسيين (الانتحاريين) وصنوف أخرى كالدرع والمشاة.

بيعة الموت

لكي يتم التطوّع يرسل الصبية بعد انتهاء الدورة التدريبية إلى عوائلهم لمدة أسبوع على أن يعودوا بعدها لأداء “بيعة الموت”، فيجري توزيعهم بعدها على القواطع في الجبهات أو في دواوين الدولة الإسلامية أو الهيئات الشرعية. هناك يتقاضون مرتبات تترواح بين 50 و120 دولاراً امريكياً مع حزمة من الامتيازات الأخرى، كالحصول على “الغنائم” والمشتقات النفطية وأولوية العلاج في المستشفيات لهم ولأسرهم.

محمود الذي أثبت مهارة بدنية واضحة خدم في “جيش الخلافة” وشارك أكثر من مرة في هجمات ضد قوات البيشمركة الكردية في ناحية بعشيقة شمالي نينوى. وبعد إصابته بجروح بليغة في ساقه ويده اليمنى انتقل إلى المحكمة الشرعية ليؤدي فيها مهمة إدارية ويتقاضى راتبه.

بخلاف حالة هذا الصبي سبق وأن سجلت حالات لأشبالٍ بايعوا لكنهم انسحبوا فيما بعد. وكان التنظيم في بداية سيطرته يتعامل معهم بتهاون، لكن مع ارتفاع خسائر التنظيم البشرية، فرض تشديدات وأصبح الأمر أكثر خطورة. فعندما قرر فتحي الحديدي ترك التنظيم وذهب ليسلم مسدسه الذي بذمته، فرض عليه مسؤوله إرجاع الأثاث الذي حصل عليه سابقاً كغنيمة، وعاقبه بالعمل لمدة شهر كامل في حفر الخنادق قريباً من قضاء تلكيف شمالي الموصل.

فتحي الذي يبلغ من العمر 14 عاما وكان قد تخرج من معسكرات البعاج، قضى بقصف لطائرات التحالف الدولي عندما استهدفت آليات الحفر، في الثاني من شهر أيلول (سبتمبر) 2015. يعلق خاله على ظروف مقتله بالقول: “لقد ذهب الفتى ضحية تصرّف متهوّر عندما ركب موجة داعش. والده متوفٍ وأمه بذلت جهداً كبيراً لإقناعه بالعدول عن قراره”. ويتابع: “طلبنا من داعش دليلاُ على موته فحصلنا فقط على نثرات من قميصه وبعض المتعلقات التي كانت بحوزته”.

معسكرات متنقلة

فضلاً عن معسكر عبدالله بن عمر في تلعفر، تم رصد أربعة معسكرات كبيرة أنشئت لإعداد الأطفال ما لبثت أن اتخذت صفة متنقّلة تجنّباً لضربات قوات التحالف. بينها معسكر “أبي مصعب الزرقاوي” الذي أنشئ في أيلول (سبتمبر) 2014 بمقر فوج طوارئ شرطة نينوى في منطقة الغابات شمالي الموصل. ووفق أبو وليد وهو أحد عناصر “داعش” فإن الوجبات الأولى من المتطوعين تلقوا تدريبات أساسية فيه، لكن ضربات التحالف الدولي الجوية أدت إلى اغلاقه في ايلول (سبتمبر) 2015 وتحوله الى معسكر متنقل.

وفي خريف العام 2014 التحق نحو مائة متطوع بمعسكر “سلطان أبي أحمد الجبوري”، أول المعسكرات التي افتتحت في ناحية الشورة (جنوبي الموصل). “لم يمض أسبوع واحد حتى سمعنا دوي انفجارات قوية هزت المنازل، ثم شاهدنا أعمدة دخان متصاعدة. أسفر القصف عن قتل نحو 70 شخصا بينهم صبية لا تتعدى أعمارهم 12عاماً” يقول علي سلامة الجبوري أحد سكان الناحية. ويضيف “منذ ذلك الحين تجرى التدريبات البدنية في أماكن مختلفة في العراء”.

ولتجنب القصف اتخذت معظم المعسكرات الأخرى صفة متنقلة كما هو حال معسكر “الكندي” في منطقة الحدباء شمالي الموصل الذي بات مقره الرئيس خالياً اليوم إثر غارة جوية عنيفة في نيسان (أبريل) 2015.

ورصد معدو التحقيق بعض الأماكن المتفرقة يتدرب فيها الأطفال على السلاح وهم يرتدون أقنعة قماشية سوداء تغطي كامل رؤوسهم وبزات رمادية أو سوداء اللون، أبرزها معمل الألبسة الجاهزة في منطقة المنصور جنوبي المدينة، وكلية الإمام الاعظم في الحي الزراعي شماليها.

تلك المعسكرات بما تقدمه من تدريبات عملية على استخدام الأسلحة ودروس تتركز على أكثر الأفكار الدينية تشددا، كفيلة في تخريج مئات الأطفال المتمرسين في القتل، مثل الطفل الذي أطلق النار على رأس الشاب حاكم سوعان الشمري الذي اعدم بتهمة تزويد التحالف الدولي بإحداثيات ومعلومات عن مقار التنظيم، بحسب شريط فيديو وزعه التنظيم في مطلع آب (أغسطس) 2015. الطفل منفذ العملية كان قد تلقى تدريبات في معسكر البعاج لإعداد “أشبال الخلافة” الذي يتم تغيير موقعه بين فترة وأخرى ضمن نفس القضاء.

4500 “شبل”

الحصول على أرقام دقيقة للأطفال والمراهقين المتطوعين، يظل أمرا غير متاحٍ، في ظل سيطرة “داعش” المطلقة، وتعدد مناطق نفوذه. لكن مصادر التنظيم التي اجريت مقابلات معها ومعظمهما أئمة مساجد بايعوا التنظيم، أكدت جميعها إعداد خمس دورات متكاملة في أكثر من مكان منذ أيلول (سبتمبر) 2014 وحتى نهاية العام 2015، يقدر عدد الخريجين فيها بنحو أربعة آلاف وخمسئة من الأطفال الذكور في ولاية نينوى وولاية الجزيرة وولاية دجلة (محافظة صلاح الدين وجزء من نينوى) وولاية الفرات (محافظة الأنبار).

وتقدر حصة نينوى منها بأكثر من ألفي طفل. ولاتوجد بحسب المصادر معسكرات مماثلة للبنات القاصرات ولا أدوار قتالية معروفة لهنّ.

هذه المعسكرات لا تخرج بالضرورة مقاتلين، فكثير من أولئك الصغار يتولون مهاما استخبارية لصالح “داعش” ويطلق عليهم اسم “العيون”. وهو ما يؤكده أستاذ سابق في جامعة الموصل اعتقل التنظيم شقيقه بتهمة سب الذات الإلهية، فعثرت عائلته عليه بعد أسبوعين جثة هامدة في ثلاجات الطب العدلي.

يروي الأستاذ الجامعي أن العائلة كشفت هوية الواشي وهو طفل عمره 15 عاماً، لكنها غير قادرة على محاسبته. “كل شيء مؤجل إلى ما بعد تحرير الموصل” يقول.

يزيد خطيب الجامع أبو عبيدة على كلام الاستاذ الجامعي بالقول إن عشرات الضحايا أعدموا بناء على معلومات مصدرها أطفال. “نحن نحصي كلماتنا جيداً قبل التلفظ بها، فالأولاد الذين ندرّسهم يراقبوننا”.

بين هؤلاء العيون، يبرز في حي الرسالة جنوبي الموصل الفتى ثامر المكنى بـ أبو صخر، والذي يقضي نهاره جائلاً في أسواق المدينة يدقق بعين مدربة وجوه العابرين ويصغي باهتمام شديد للحوارات التي تفلت منهم في الطرقات او داخل المحال التجارية والمقاهي والمساجد.

أبو صخر الذي لم يكمل بعد عامه الخامس عشر، والذي جنده التنظيم مع ثلاثة صبية آخرين في ذات الزقاق صيف عام 2015، يتفاخر بمعرفة أهالي الحي بأمره، كما لا تقابل أمه الأرملة وأختاه ذلك بأي حرج، فالعائلة مؤمنة بالدولة الإسلامية التي قتل على طريقها والده بعد ان اصابته قذيفة مدفعية في سنجار غربي نينوى في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2014.

الطفل كان محط اعجاب مدربه التونسي الحاج أبو ذر، خلال الأشهر الثلاثة التي قضاها في التدريب بمعسكر الغزلاني شرقي الموصل، بسبب قدراته في الحفظ، فقد كان الأفضل ذهنياً من بين 183 صبيا تواجدوا معه في المعسكر، وهو ما أدى الى الحاقه بجهاز (الأمنية) المكلف بالمهامهم الاستخبارية، والذي يرتدي عناصره ثيابا مدنية ووجوههم حليقة ولا يحملون أسلحة، فيما الحق آخرون بجهاز (الحسبة) المكلف بمراقبة تطبيق أوامر الدولة الإسلامية.

التحول إلى انتحاريين

“أراد الجهاد فمنعته أمه، وذات ليلة تسلل من البيت لينضم إلى جيش الخلافة، وهو اليوم في الخطوط الأمامية يقاتل الكفار”. هذه تغريدة نشرها حساب “تويتر” يروّج للدولة الاسلامية عن صبي عمره 15 عاماُ.  بالطريقة نفسها التي تحدثت عنها التغريدة فقدت عائلة الحاج أحمد في آب (أغسطس) 2015 ابنها البالغ من العمر 16 عاماً، وتبين فيما بعد أنه التحق بدورة دينية، ومن ثم بأحد معسكرات التدريب، بعد توبيخ والده له بسبب مشكلة خاصة.

من خلال عملية بحث استمرت يومين ساهم فيها الأقارب والجيران عُثر على الصبي بمعسكر “أبي مصعب الزرقاوي” في منطقة الغابات شمالي المدينة، وعندما تمكنت العائلة من استرجاعه بوساطة أحد عناصر التنظيم، اتفق جميع أفرادها على التعامل معه بحذر ومحاولة إقناعه بعدم العودة للتدريب.

شقيقه الكبير حسين يقول: “تصديت لمهمة التعامل مع شقيقي وبدأت برصد راتب شهري له قدره 50 ألف دينار، ولمزيد من الاطمئنان طرحت عليه فكرة الزواج في وقد تحمس للأمر حتى صارت شغله الشاغل حالياً”.

قصص عديدة عن الأطفال الملتحقين بمعسكرات “أشبال” التنظيم في الموصل، وثقها كاتب التحقيق، حيث يردد الأهالي عبارة تقول: “إذا فقدت ابنك لأكثر من ساعتين فابحث عنه في أقرب معسكر”. التأخر في الوصول الى الملتحقين بتلك المعسكرات يعني صعوبة استردادهم، ليكون مصيرهم اما التحول الى عيون للتنظيم داخل المدن، او انتحاريين في جبهات القتال، وهو أكثر ما تخشاه العائلات الموصلية، إذ إن النسبة الأكبر من العمليات الانتحارية ينفذها مراهقون.

يقول، ابو عمر، وهو تاجر مواد غذائية على علاقة جيدة مع امراء التنظيم في تلعفر، ان “الدولة الاسلامية تعتمد في الغالب على الأشبال والشباب الصغار، لتنفيذ العمليات الانتحارية، هؤلاء من جهة لا يملكون خبرات قتالية، ومن جهة ثانية هم اكثر حماسةً وأشد استجابة، واذا كانت العمليات داخل مدن العدو فان تسللهم أسهل”.

وبحسب ليلى زروقي، الممثلة الخاصة في الأمم المتحدة المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، فإن نحو 700 طفلاً قتلوا أو أصيبوا بتشوهات مستديمة في أنحاء مختلفة من العراق منذ بداية العام 2014 جراء استخدام البعض منهم اثناء هجمات انتحارية.

فيما وثق المرصد العراقي لحقوق الإنسان في تقرير يغطي النصف الأول من العام 2015 تنفيذ 40 طفلاً من نينوى والأنبار عمليات انتحارية أثناء المعارك في المناطق التي تقع بين قضاء بيجي ومدينة تكريت في صلاح الدين.

جيل جديد

“تجنيدهم لا يتعلق فقط بتعويض الخسائر البشرية على جبهات عدة، فالخطة المعلنة هي تهيئة جيل جديد من المتطرفين يحمل لواء دولة الخلافة في المستقبل”، يقول خالد حبيب، وهو صحفي يغطّي نشاط الحركات الجهادية منذ عام 2004.

يعرض الصحفي الموصليّ تسجيلاً بحوزته يظهر فيه خطيب شاب في “جامع الغفران” وسط المدينة، يرتفع صوته فجأة وسط  دهشة مصلّي يوم الجمعة المحتشدين قائلاً: “حتى إن خسرنا هنا أو هناك فإننا باقون”، ثم يرفع قبضته اليمنى المشدودة الى فوق ويصرخ مشيرا على ما يبدو إلى أحد الأطفال لا يظهر في التسجيل: “نحن باقون. أشبال الخلافة سيكبرون ويرفعون راية الإسلام”.

ملامح هذا “الجيل الجديد” يمكن التعرف إليها بسهولة في المناهج التي أصدرها “ديوان التعليم” في تشرين الأول (اكتوبر) 2015. فالرسوم التوضيحية في الكتب المدرسية ككتاب “التربية الجهادية” مثلاً، تكون على شكل أولاد يرتدون لباس “داعش” ونساء منقبات إلى جانب أسلحة مختلفة كالمسدس والرشاش وغيرها. وفي مادة الرياضات للصف الأول الابتدائي هناك عشرات العمليات الحسابية عن عدد جنود الدولة الإسلامية وولاياتها. أما إشارة الزائد فألغيت واستبدلت بحرف الواو.. لأنها تشبه الصليب.

غير أن حبيب يؤكد على أن أبناء مدينته يقاومون رغبة “داعش” في غسل أدمغة أولادهم. فعشرات الجوامع عزفت في عام 2015 عن تنظيم دورات صيفية للأطفال بأعذار شتى “بعضها تذرع بانقطاع الكهرباء أو فقد الكازويل وبعض المدرّسين التمس أعذارا صحيّة”.

كما ان العديد من المدارس الابتدائية اغلقت لعدم التحاق الأطفال بها، تجنبا لمخاطر الدراسة فيها، أو “تحدياً لارادة التنظيم” كما تقول المدونة ليلى الشايب التي تكتب باسم مستعار من داخل الموصل. كما أن المدارس الثانوية (تتراوح اعمار الطلاب فيها بين 13-18 عاما) اندمجت، كل اثنتين او ثلاث في واحدة، ويقتصر الدوام على يومين أو ثلاثة في أحسن الأحوال خلال الأسبوع.

حميد خضر توقف عن ارسال ولده إلى المدرسة رغم تفوق الأخير، بعدما علم بزيارات وفود “الدولة” إلى الصفوف الدراسية لكسب المزيد من الأتباع.

يقول خضر: “دخل وفد من ديوان الدعوة والمساجد إلى صفّ ولدي ووجّهوا بعض الأسئلة للمدرّس ثم سألوا التلاميذ أن يبايعوا الخليفة”. وتابع: “صمت الأطفال لبرهة ثم رددوا نص البيعة بتلعثم وبصوت خافض.. سألهم الوفد أن يعيدوا الكرة فكانت النتيجة نفسها، فأنّب الوفد المدرّس وطلب منهم تكرارها بصوت أعلى..وعندما لم يلق تجاوباً من الأولاد خرج غاضباً”.

يضيف الرجل “من يومها منعت ولدي من الذهاب للمدرسة. لقد خسر عامه الدراسي، ويبدو أنه سيخسر المزيد من الأعوام، لكن هذا أفضل من أن يصبح الولد شبلاَ عند البغدادي!”.

ويرى جميل عيسى، وهو ناشط مدني رصد العديد من عمليات تجنيد الأطفال بنينوى، ان التنظيم يعتمد على الأشبال والشباب الأصغر سنا في عملياته الانتحارية “لأن اقناعهم أسهل، فالتنظيم يطوعهم كما يريد، فيحولهم من ضحايا الى قتلة”.

وينبه عيسى الى المخاطر التي يشكلها أشبال التنظيم مستقبلا “حتى بعد تحرير نينوى، سيظل هؤلاء بمثابة قنبلة قابلة للتفجير في اية لحظة، بعد ان اشبعوا بالفكر السلفي الجهادي التكفيري، وفي احسن الأحوال هم وقود لأية جماعات متطرفة قد تظهر مستقبلا، خاصة ان نسبة كبيرة منهم فقدوا آباءهم وأشقائهم الذين كانوا مقاتلين في التنظيم، وسيكون من الصعب اعادة تأهيلهم وسط الصراعات المذهبية والسياسية المعقدة”.

يتفق معه المحامي الموصلي شاكر مراد، لكنه يشير الى مشكلة اخرى تتعلق بالتعامل القانوني مع هؤلاء: “البالغون ممن يتجاوزون الـ 18 عاما، يمكن أن يحاكموا بالاعدام وفق القوانين العراقية، لكن الأمر مختلف بالنسبة لليافعين، فمحكمة الأحداث تحكم بالحبس لأقل من خمس سنوات أو السجن بأكثر من ذلك”.

ويضيف “هنالك تخوف كبير من أن يفلت من العقاب عدد كبير من الصبية المتورطين بارتكاب جرائم قتل عمد، والبعض يرى أن لا أمل مطلقاً في إصلاحهم ولا بد من بترهم بالقتل او احتجازهم. ومن سيحبسون قد يخرجون بعد سنوات أكثر تشددا في سجون ينعدم فيها التأهيل. هي مشكلة كبيرة مازال المشرع العراقي ساكتاً عنها”.

يقول الناشط والمحامي دلير احمد، ان الكل يتحدث عن تحرير الموصل عسكريا وكأنه سيحمل الخلاص، لكن المشكلة أكبر بكثير من مجرد طرد عناصر الدولة الإسلامية وإعادة قوانين الدولة العراقية الى المدارس والمؤسسات الحكومية “التنظيم أشعل حروبا بين المكونات المختلفة ومارس القتل بشكل غير مسبوق حتى عند اكثر الجماعات الاسلامية تطرفاً، واستخدمه كسلاح للترهيب والتمدد والاستمرار، وورط معه عشرات الآلاف من المتعاونين، بينهم آلاف الأطفال”.

وينبه “علينا توقع مئات من عمليات الانتقام الدموية في دولة بلا مؤسساتها قوية، ينتشر فيها السلاح. علينا ان لا نخدع أنفسنا بتحقيق استقرار حقيقي بعد التحرير اذا لم ترافقه برامج متكاملة لمواجهة العُقد السرطانية التي زرعها التنظيم في كل موضع بما فيه عقول الأطفال”.

انجز التحقيق بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية وتحت اشراف كمي ملحم

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17492}" data-page="1" data-max-pages="1">