تحقيقات استقصائية: مراهقون في صفوف الحشد الشعبي.. حين داعب الفتى المقاتل أباه المقاتل قائلاً: “سأموت قبلك يا أبي”

مراهقون في صفوف الحشد الشعبي.. حين داعب الفتى المقاتل أباه المقاتل قائلاً: “سأموت قبلك يا أبي”

لمياء أحمد وسعد الوردي..

في منطقة الكرمة، حيث المدخل الشمالي لمحافظة البصرة، عُلّقت يافطة كبيرة في أعلى عامود إنارة ينعى فيها “لواء المنتظر” أحد تشكيلات قوات الحشد الشعبي التي تقاتل تنظيم الدولة الاسلامية، مقاتلها “الشهيد البطل أحمد جلاو الذي استشهد دفاعاً عن العقيدة والوطن“.

وعلى مبعدة عن هذه اليافطة بنحو ثلاثين كيلومتراً شمالاً، وتحديداً عند معمل الورق، نعى لواء آخر هو “كتائب درع الشيعة” بالطريقة نفسها “شهيده إبراهيم بريسم” التي ظهرت صورته مرتدياً البزّة العسكرية، ممسكاً بندقية كلاشينكوف.

مئات اليافظات المماثلة المعلقة في الساحات العامة وعلى جدران العمارات الحكومية والمنازل، يغصّ بها الطريق الممتد على مسافة 45 كيلومتراً بين مدينة البصرة وناحية الدير شمالاً، لكن ما يميز هاتين النعوتين تحديداً، أن القتيلين مراهقان لم يبلغا السن القانوني للقتال بعد.

أحمد (16 سنة) وإبراهيم (15 سنة) ينحدران من البصرة، المحافظة التي تتصدر عدد القتلى في صفوف قوات الحشد الشعبي بحدود الألف قتيل، وفق تصريحات مصادر قيادية في الحشد.

كان الصبيان قد انضما إلى تشكيلات الحشد بعد أسبوع واحد فقط من فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني في 13 حزيران (يونيو) من العام الماضي لمواجهة تقدّم تنظيم “داعش” الذي طرق أبواب بغداد بعد سيطرته على مدينة الموصل ومناطق واسعة من محافظتي صلاح الدين والأنبار.

وفيما تنفي قوات الحشد الشعبي ومعها الحكومة العراقية رسمياً انخراط أطفال وقاصرين مثل أحمد وإبراهيم في عشرات الفصائل الشيعية المقاتلة، وتعترف في أحيان قليلة بتدريبهم فقط في المدارس، إلا أن المآتم والنعوات المستمرّة في مدن وسط وجنوب البلاد لا تنفك تؤكد سقوطهم ضحايا في المواقع الأمامية للقتال.

نهايتهما كانت واحدة

في يوم التحاقهما في 20 حزيران (يونيو) 2014 أدخل أحمد جلاو وابراهيم بريسم، إلى جانب العشرات من أبناء المنطقة، في دورات للتدرّب على السلاح في معسكرات تم اقامتها سريعاً في ناحيتي الكرمة والنشوة.

كانت هذه المعسكرات قبل ذلك ساحات ترابية خالية يشغلها الصبية بلعب كرة القدم. “كان عليهما التدرّب على السلاح لمدة أسبوعين متواصلين في درجات حرارة تجاوزت 45 مئوية. قليلا ما كنا نراه فيها، حيث يعود إلى المنزل منهكاً من التدريب”. تقول والدة أحمد. بعدها جرى نقل الصبيين إلى منطقة لا يعرفانها، هي قاطع الدجيل في محافظة صلاح الدين شمال بغداد، وكان هذا القاطع وقتها محاصراً من قبل تنظيم “داعش“.

القدر جمعهما مجدداً في السرية الخامسة من اللواء التاسع التابع للحشد الشعبي، وكانت نهايتهما واحدة، في هجوم شنّه التنظيم على قاطعهما في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2014.

تصف والدة أحمد ابنها القتيل بأنه كان “مندفعاً”، تغمره في ايامه الأخيرة رغبة جامحة بالمشاركة في القتال ضد داعش “كنت اتفهم تلك الرغبة، لذلك لم أمانع خضوعه للتدريبات” تقول. لكن لم يدُر بخلدها أن ولدها الصغير سيكون مقاتلاً في الخطوط الأمامية. “كنت أعتقد أنه سيؤدي دوراً يتناسب وسنّه وقدراته البدنية في الوحدات الادارية للحشد، أو على الأقل، في أماكن بعيدة عن خطوط التماس“.

تلقي هذه السيدة باللائمة على وسائل الإعلام والأحزاب الدينية التي كانت تثير حماس الشباب بعد صدور فتوى المرجعية بالجهاد الكفائي، وتقول إن محطات التلفزة الرسمية وتلك التابعة للأحزاب الدينية “أججت صدور الصغار دون الأخذ بالاعتبار أعمارهم ولا قدراتهم البدنية والقتالية“.

والدة أحمد لم تتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان ولدها، وكذلك هو الحال مع أسرة إبراهيم. فقد استعادت قوات الجيش ما تبقى من الجثمانين بعد أكثر من خمسة أشهر من وقوع المعركة، عندما تمكنت من طرد “داعش” من منطقة النباعي في قضاء الدجيل. لكن الأم كانت حاضرة في مراسم التأبين النهائية الخاصة بـ “شهداء الحشد” في مقبرة وادي السلام في النجف، وراقبت من بعيد التابوتين محمولين على الأكتاف وقد لفّهما العلم العراقي، يطاف بهما حول الضريح ذي القباب والمنائر الذهبية.

الأحزاب استغلت الفتوى

فتوى السيد السيستاني التي جاءت بعد 100 عام من فتوى الجهاد ضد الاستعمار الانكليزي كان لها بالغ الأثر في دفع مؤمنين للتطوع، خصوصاُ أنها حظيت بمباركة باقي المراجع الكبار المعروفين وهم، آيات الله، بشير النجفي، اسحاق الفياض، محمد تقي المدرسي، محمد سعيد الحكيم، ولم يعارضها إلا رجل الدين المثير للجدل محمود الصرخي الذي اعتبرها “بداية لحرب طائفية بين المسلمين الشيعة والسنة“.

ولم يرد في نص الفتوى أي تفصيل بخصوص من يتوجب عليه المشاركة بالقتال إنما حصر ذلك بـ”من يقدر على حمل السلاح” حيث قال الشيخ عبد المهدي الكربلائي وهو يعلن عن فتوى الجهاد من داخل مرقد الإمام الحسين وسط كربلاء إن “العدد الذي يدافع عن العراق يجب أن يحقق الكفاية، فإذا تصدى 10 آلاف مقاتل ولم يتحقق الهدف يكون 11 ألفاً ويزيد حتى يتم تحقيق الكفاية“.

لكن توضيحاً صدر عن مكتب السيستاني لاحقاً، وتحديداً في 14 حزيران (يونيو) 2014، نقلته الفضائية الرسمية “العراقية” جاء فيه أن “الموظفين غير مكلفين بالواجب الكفائي للدفاع لحين توفر الضرورة لذلك“.

الكاتب الصحفي، محمد جعفر السوّاد، يعتقد أن فتوى الجهاد الكفائي، تم استغلالها من قبل أحزاب شيعية تتنافس على النفوذ والسلطة والمال لرفع شعبيتها وتوسيع قاعدتها الجماهيرية.

وقال السواد إن “هذه الأحزاب رحبت بتجنيد الموظفين والطلاب والمتطوعين من صغار السن وكل من يأتي إلى مكاتبها، لأنها أرادت زيادة قوتها وقاعدتها، والحصول من خلال ذلك على المزيد من الدعم المالي من الدولة“.

ويلفت السواد إلى أن المرجع الشيعي أصدر بعد الفتوى سلسلة من التوجيهات للحد من حالة الفوضى التي سادت، منها دعمه لمشروع قانون “الحرس الوطني” بغرض تشكيل قوة أمنية تضم المقاتلين غير النظاميين من الفصائل الشيعية أو العشائر السنية تحت مظلة الدولة.

السلاح .. القوة والفخر

هكذا، ومنذ 13 حزيران (يونيو) من العام الماضي، بدأت الأحزاب الشيعية التي تتقاسم السلطة مع الأحزاب الكردية والسنيّة، وفي أجواء “حرب مصيرية” بتشكيل فصائل تستقبل المتطوعين في مكاتبها، ولو أن بعض أهم تلك الفصائل كعصائب أهل الحق مثلاً كان قد أعلن عن نفسه فعلياً قبل صدور الفتوى على إثر الحرب الدائرة في سوريا، وبعضها الآخر كان شريكاً فاعلاً في سنوات الحرب الأهلية.

وجرى الدعوة للتطوع في ظل الشعارات الدينية واستعارة الموروث العقائدي، التي شكلت أبرز المحركات التي استعانت بها الفصائل المسلحة في جذبها المتطوعين. فرفعت في بغداد ومحافظات الجنوب العراقي رايات لأكثر من أربعين  فصيلاً تحمل جميعها أسماءً بدلالات مذهبية، قدّر تعداد مقاتليها وفق تصريحات رسمية بنحو 156 ألف مقاتل، حوالي مئة ألف منهم يتقاضون مرتبات من الدولة.

لكن محركات اخرى كانت حاضرة، فالتطوع شكل للكثير من المراهقين والشباب فرصة لابراز الذات في مجتمع تفرض قوة السلاح نفسها اجتماعيا وأمنيا، ويمثل حمل البندقية مؤشرا على الرجولة ومدعاة للفخر.

وتمتنع تشكيلات الحشد الشعبي عن الإدلاء بمعلومات حول عدد الأطفال المتطوعين. فهي من الناحية الرسمية لا تعترف بوجودهم أصلاً على جبهات القتال، وإن كانت تعترف في حالات نادرة وتصريحات متناثرة بتدريبهم، بغرض حماية مناطقهم فقط في حال تعرضها لهجوم.

لكن ضابط في “لواء أبو الفضل العباس” وهو جزء من الحشد، يشعر “بالفخر” لأن فصيله سبق تشكيلات أخرى باحتضان مقاتلين من صغار السن. وقال إن “لدينا شهداء في اللواء لم تتجاوز أعمارهم 15 عاما”. وهو يرى أن إشراكهم في المعركة كان “اقتداءاً بالإمام الحسين وأطفاله ممن شاركوا في معركة كربلاء (سنة 61 هـ) ونالوا شرف الشهادة“.

سلوكيات مختلفة

لا يشكل الحشد الشعبي كياناً عسكرياً متجانساً على عكس الدّارج عند تناوله إعلامياً، ويدور بين فصائله تنافس محموم على كسب ولاء الشيعة العراقيين فضلاً عن وجود اختلافات عميقة فيما بينها من ناحية الانتماء العقائدي وجهة التمويل والتسليح والأهداف السياسية.

ويقسم الباحث محمد موسى الزيدي قوات الحشد إلى ثلاث مجموعات رئيسة لديها سلوكيات مختلفة في تجنيد الأطفال؛ الأولى موالية لإيران، أبرزها “فيلق بدر” بزعامة هادي العامري و”عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي، و”كتائب حزب الله” بزعامة أبو مهدي المهندس، و”سرايا الخراساني”، و”النجباء” بزعامة أكرم الكعبي، و”كتائب التيار الرسالي” بزعامة عدنان الشحماني

ويوضح الزيدي أن “هذه المجموعة هي الأقوى من ناحية التسليح والتنظيم والتدريب والأكثر تاثيراً في محاربة تنظيم “الدولة الاسلامية”، وهي تمتلك طموحات سياسية مستقبلية وتريد لنفسها معاملة خاصة مستقلّة عن الجيش العراقي، لذلك فهي تدأب على توسيع قاعدتها وتجنيد أكبر عدد ممكن من المتطوعين بمن فيهم المراهقين، وتدفع لهم أعلى الرواتب بالمقارنة مع بقية التشكيلات“.

أما النوع الثاني من الفصائل بحسب الباحث العراقي، فهي الموالية للأحزاب الشيعية التقليدية وأهمها “سرايا السلام” التابعة الى التيار الصدري، و”سرايا الجهاد والبناء” و”سرايا عاشوراء” و”سرايا أنصار العقيدة” التابعة إلى “المجلس الأعلى”، و”كتائب “الغضب الحيدري” وفصيل “لواء الشباب الرسالي” التابع إلى حزب الفضيلة، وتشارك هذه الفصائل بشكل محدود في القتال وتعتمد على الحكومة في تسليحها الذي عادة ما يكون محدوداً، “وقد تم رصد حالات عديدة لتجنيد القاصرين في صفوفها، لكن على نحو أقل من المجموعة الأولى”، يقول الباحث.

وأخيراً هناك الفصائل الموالية للمرجع السيستاني، وتشكلت بعد فتوى الجهاد الكفائي، وأشرف مكتبه وممثلوه على تأسيسها، وأبرزها “لواء علي الأكبر” و”سرايا العتبة العباسية” و”سرايا العتبة العلوية”، و”سرايا العتبة الحسينية”، و”كتائب سيد الشهداء” و”حركة انصار الله الاوفياء”. “ولا تمتلك هذه الفصائل طموحات سياسية وقد وضعت نفسها تحت تصرف الحكومة، وهي تمتاز بضعف حضورها الإعلامي وكثرة أعداد مقاتليها وقلة تسليحهم، ويندر العثور على صغار ومراهقين في صفوفها“.

ويرى الزيدي أن استقطاب المراهقين من قبل بعض الفصائل هدفه في الأساس دعائي فهي تمتلك العدد الكافي من الرجال “وجودهم يمثل دليلاً رمزياً على عمق موالاة الشارع لها، كما  يوفر مادة دعائية لحثّ البالغين على التطوع، وهو ما يظهر من خلال الأفلام التي تنشرها الفصائل والتي تتفاخر بصغر سنّ المقاتلين والقتلى لديها“.

سأموت قبلك يا أبي

على الرغم من أن “الجهاد الكفائي” الذي نصّت عليه فتوى المرجعية الشيعية ليس تكليفاً عاماً شاملاً، إنما يسقط عن الآخرين بتطوع عدد كاف من الأشخاص، إلا أن العديد من الأسر تعاملت مع الأمر باعتباره ملزماً لجميع أفرادها الذكور، كما هو الحال مع جليل عبد الهادي، 52 سنة، وهو متقاعد من ناحية الجدول الغربي في كربلاء.

يقول عبد الهادي إنه يخشى غضب الله في حال منع أولاده الأربعة من الالتحاق بالقتال، وبينهم اثنان في سنّ الـ 15 والـ 17. ويتابع “حتى لو قمت بمنعهم، فإنهم سيلبّون النداء ويلتحقون“.

وتكشف مقاطع فيديو تنشر على “اليوتيوب” عن مقاتلين يبدون صغار في السن يشاركون في المعارك في مناطق شمال وغربي العراق. كما ينشر يافعون آخرون صورهم في المعارك على حساباتهم الشخصية في “فيسبوك”، ولا تترد قنوات فضائية بينها قناة “العراقية” الرسمية في نشر قصص عن مراهقين صغار يقاتلون في صفوف الحشد .

في ناحية الفضلية، قضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، التي تقع على مبعدة 350 كم جنوب العاصمة بغداد، كانت عائلة أبو علي، مثالا واضحا للتأثر بخطاب الأحزاب الدينية. فإلى جانب الأب الذي يبلغ من العمر 38 عاما، التحق الابن ذي الـ 15عاماً بكتائب “حزب الله” العراقي.

يعتقد أبو علي، الذي تعرض لإصابة بالغة في معركة دارت في مصفى بيجي في منتصف أيار (مايو) 2015 أنه كان يقتدي بائمة المذهب الشيعي، بالسماح لابنه القاصر بالقتال الى جانبه. مع ذلك تفضح عينا الرجل شوقه لابنه البكر الذي قتل بانفجار عبوة ناسفة في تكريت في نيسان (أبريل) 2015.

يتذكر أبو علي، مواقف إنسانية جمعتهما في جبهات القتال، إذ كان الإبن يحرص على ألا يبتعد كثيراً عن والده. “كان يقول لي مداعباً، سأموت قبلك يا أبي، فأنا لا أقدر على تحمل مسؤولية الأسرة من بعدك”.  ردد الوالد هذه العبارة أمامنا مرتين وانهمرت دموعه بغزارة.

الطاعة واجبة

رغم التكتم الإعلامي يسهل في محافظات الجنوب والوسط تتبع حالات متكررة لالتحاق الأبناء بجبهات القتال إلى جانب آبائهم.

في حي الميلاد عند المدخل الشمالي لمدينة النجف، 160 كم جنوب العاصمة بغداد، وهو من الأحياء الفقيرة، وفي بيت متواضع لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع، تسكن سيدة مع أسرتها المكونة من خمسة أفراد، ثلاث فتيات وصبيين. كانت قبل ذلك مؤلفة من سبعة أشخاص، غير أن ربّ الأسرة، وعمره 43 سنة، وابنه كرار، 16 سنة، التحقا أيضاً بصفوف “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري، فقضيا في إحدى المواجهات المسلحة في الفلوجة في محافظة الأنبار.

لم تكن أم كرار مرحبة كثيراً بفكرة مشاركة إبنها في المعارك “ولدي كان صغير السن، قليل الوزن، لايقوى على خوض الحروب ومواجهة صعوباتها”. بيد أن زوجها الراحل لجأ في إقناعها، إلى قصة معركة كربلاء التاريخية المعروفة والصغار الذين قاتلوا إلى جانب الإمام الحسين.

مع ذلك تبقى والدة كرار مؤمنة “بأن طاعة المرجعية الدينية واجبة” وتبقى تتفهم إرادة زوجها فقد كان مدفوعاً بالرغبة في “حماية أهله الشيعة من سكاكين داعش التي تتوعدهم بالذبح“.

وهو ذات الموقف الذي تتبناه الكثير من العوائل، التي لا تجد مشكلة في تطوع ابنائها المراهقين في صفوف الحشد ومشاركتها في مواجهة داعش، طالما كان ذلك واجبا “دينياً ومجتمعياً” في ظل استمرار تهديد التنظيم للبلاد.

أجواء الخوف من “العدو الذي يذبح ويحرق ويعدم على الشبهة” والتي سادت مناطق بغداد الشيعية كما كل مدن جنوب العراق، كانت كافية لتجنيد آلاف المراهقين في صفوف فصائل الحشد المكلفة بمواجهة عدو تساقطت أمامه تشكيلات الجيش النظامية. تلك الأرقام وان تراجعت لاحقاً مع تراجع خطر داعش، فانها “تظل كبيرة ومحل قلق” مع تعطل صدور قانون ينظم عمل الحشد ويحدد شروط التطوع فيه، وبوجود فصائل مسلحة تجد في استقطاب الأطفال فرصة لتعزيز وجودها، كما يرى الباحث سليم حمزة.

حمزة ينبه الى ان صور “الأطفال الشهداء” وقصص سقوطهم على الجبهات، سيظل لها حضور في الشارع العراقي، طالما ان الحرب لم تبلغ مراحلها النهائية “هناك أطفال تطوعوا للقتال على هذه الجبهة، وآخرون في الجبهة المقابلة جندهم داعش وأكرهم على القتال… انهم يقاتلون ويموتون لأسباب يجهلونها“.

البحث عن الثأر والذات المفقودة

في منتصف حزيران 2014، استيقظ الحاكمون في العراق، على سلسلة هزائم عسكرية اوصلت الدولة الهشة بمؤسساتها الأمنية والادارية والسياسية الى حافة  الانهيار مع تهديد “جيوش الدولة الاسلامية” لتخوم بغداد الغربية والشمالية.

وبينما لم تكن بغداد ولا عواصم العالم، مستوعبة للتساقط السريع للمدن بيد تنظيم داعش، وتتخبط في بناء خطوط الصد حول بغداد وكركوك وسامراء. ظهرت فتوى “الجهاد الكفائي” لمرجعية النجف لبناء خط الصد الأول لوقف سقوط عاصمة العراق ومدن الجنوب الشيعي من خلال تشكيل قوات دفاع شعبية عرفت لاحقا بالحشد الشعبي.

يقول الصحفي محمد الأمير، الذي عايش تلك الفترة، إن “الصدمة كانت هائلة، والرعب يشل البلاد، والتخبط يعم مراكز اتخاذ القرارات الأمنية والسياسية، ولم يكن أحد يعلم ما عليه فعله إلى أن جاءت فتوى المرجعية“.

ويضيف “بعد الفتوى، كان يمكنك ان تجد في كل بيت شيعي أعدادا من المتطوعين، بينهم مراهقون وكهول، تجمعوا خلال ساعات في المدارس والساحات والمقرات الحزبية. كانت مراكز التطوع التي افتتحت دون أي تخطيط عاجزة عن استيعابهم وتقييد أسمائهم“.

ويلفت الأمير الى ان الرسالة التي اتت من تلعفر والموصل كانت واضحة “فكل شيعي تجاوز الـ 13 من عمره سيكون مهدداً بالقتل على يد التنظيم، لذا كان التطوع كبيرا والمراهقون يتقدمون الصفوف“.

من الواضح ان الدولة بمؤسساتها لم تكن مهيأة لترتيب التشكّل السريع لقوات الحشد مقابل الانهيار السريع لقطعات الجيش النظامي، ولم تملك اي رؤية واضحة، فتركت الأمر للتنظيمات الحزبية المسلحة.

هكذا، لم تخضع قوات الحشد لضوابط قانونية فيما خصّ طريقة عملها وشروط الانضمام اليها، فكان “من الطبيعي والحال كذلك أن ينخرط في صفوفها صغار السن”، كما يوضح الشيخ جواد الكناني، أحد قادة الحشد الشعبي من فصيل “عصائب أهل الحق“.

الكناني، 49 سنة، كان قد أشرف شخصياً على تطويع المئات من المقاتلين من بينهم قصّر، وذلك في مكتب الحركة المسلحة التي ينتمي اليها في مدينة الصدر. يقول “اقتصر دوري بدءاً على تسهيل التحاقهم بجبهات القتال دون الاهتمام بتدريبهم وتجهيزهم، حتى أن بعضهم جلب سلاحه الشخصي معه لعدم توفر أسلحة“.

يبرر الكناني قبول طلبات تجنيد من هم دون السن القانوني، بأن “البلاد كانت تعيش حالة من الفوضى، بعد انهيار الجيش وتخلي المجتمع الدولي عن دعم العراق في ظل حكومة نوري المالكي (رئيس الوزراء السابق) وتشتت الطبقة السياسية“.

ويضيف الرجل الذي كان من أوائل المستجيبين لفتوى الجهاد في مدينة الصدر، إن “التجنيد خضع لاعتبارات مرحلية فرضتها ظروف قاهرة”، لذلك جرى استقبال المتطوعين “عشوائيا” دون التدقيق بأعمارهم.

قوانين ترفض التجنيد

لا يوجد نص قانوني أو تشريع استند إليه تشكيل الحشد الشعبي، إنما تعتبر فتوى الجهاد الكفائي هي الغطاء الأول لتشكيل الحشد بفصائله المختلفة.

ويقول رياض جبارة البهادلي، وهو باحث في القانون الدولي من كربلاء، إن رئيس الوزراء حيدر العبادي حاول مرتين إخضاع الحشد لسلطة الدولة، لكنه فشل، الأولى من خلال مشروع قانون “الحرس الوطني” وهو مؤسسة أمنية رسمية من المفترض أن تضم المقاتلين غير نظاميين من الشيعة والسنة لإبعاد سطوة قادة الفصائل وشيوخ العشائر، والثانية عندما قرر إخضاع الحشد لقانون العقوبات العسكري في 10 نيسان (ابريل) الماضي لكنه فشل ايضاً، وقانون العقوبات هذا يفترض أن يكون الخاضع له قد أتم الثامنة عشر من العمر.

وبالنسبة لهذا الباحث، فإن قوات الحشد من خلال تجنيدها غير البالغين ترتكب “مخالفة صريحة” للقوانين العراقية فضلاً عن المواثيق الدولية. فقانون الخدمة والتقاعد العسكري رقم 3 لسنة 2010، يشترط في المتطوع أن لا يقل عمره عن 18 سنة، وكذلك يحصر قانون الخدمة العسكرية الإلزامية العراقي رقم 65 لسنة 1969، الخدمة بالذكور الذين أكملوا التاسعة عشرة من عمرهم.

المواثيق الدولية بدورها لا تختلف في هذا الصدد عن روح القانون العراقي. فقد نص البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في المنازعات المسلحة رقم 182 لسنة 1999 على “حظر التجنيد القسري أو الإجباري للأطفال لاستخدامهم في المنازعات المسلحة” محدداً سن الطفولة بمن هم دون الـ 18 عاماً ما لم يرد خلاف ذلك في القوانين المحلية.

متطوعون لا مكهرون

مع ذلك، يعتقد الشيخ جواد الكناني أن “لا مانع من استقبال المتطوعين صغار السن طالما أن ذلك لا يندرج ضمن التجنيد القسري”. ويضيف “إن هؤلاء المتطوعين راغبون بالقتال ونحن لم نجبرهم على ذلك، فقد تطوّع العشرات منهم في مدينة الصدر ببغداد، في شهر حزيران يونيو من العام الماضي ومن دون إكراه او ضغط“.

أحد الذين قدموا للتطوع، إلى مكتب الشيخ الكناني، كان عباس جمعة ذي الـ 16 عاما الذي انضم لاحقاً إلى مقاتلي “سرايا أنصار العقيدة” في الأنبار في تموز (يوليو) 2014. لم تكن المدينة قد سقطت بعد بيد تنظيم “داعش”، ما دفع الحكومة العراقية إلى الحرص على تعزيز صمود القطعات العسكرية فيها برفدها بمئات المتطوعين على جناح السرعة.

عباس لم يمكث في الأنبار سوى يومين اثنين فقط،  فاصطادته رصاصة قناص، فعاد في صندوق خشبي ملفوفٍ بالعلم العراقي إلى مقبرة “وادي السلام” في النجف.

أخطر المعارك

لم يحصل عباس على تدريب مناسب على السلاح، وهو حال معظم المتطوعين صغار السن كما تكشف تصريحات أسرهم. ففي أحسن الحالات، اكتفت الفصائل بإلحاقهم بدورات تدريبية سريعة، تلقوا فيها دروساً عن تفكيك وتركيب بندقية الكلاشينكوف عيار 7.62 ملم ودروساً في التسديد والرمي، والانتشار والاستتار أثناء المواجهات.

العقيد المتقاعد أحمد عبدالحسين، 65 عاما، والذي شارك في حروب العراق المختلفة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ويعمل حالياً مدرّباً في معسكرات الحشد الشعبي لتدريب الطلبة في ذي قار، يعترف بأن زجّ الصغار في الحرب أمرٌ “بالغ الخطورة”، “لأننا نخوض حرب عصابات ومعارك مدن، وهما من أخطر وأعقد انواع المعارك“.

لكن عبدالحسين نفسه يقوم بتدريب الصغار على السلاح.

لماذا؟

– “لأن ظروف الحرب الدائرة تقتضي ذلك”، يجيب.

معدّو التحقيق اطلعوا على قائمة بأسماء لـ 58 صبيا دون سن الـ 18 سنة تلقوا تدريبات في معسكرات منطقة سوق الشيوخ حيث يدرّب عبدالحسين، منذ حزيران 2014، وقد لقي ما لا يقل عن 20 منهم مصرعه في مناطق القتال المختلفة ضد تنظيم “داعش”. هذه التدريبات أجريت في ساحات خالية يرفض عبدالحسين نفسه بحكم خبرته العسكرية تسميتها “معسكرات”، لافتقادها للشروط المناسبة.

ولاتوجد احصائية رسمية بعدد القتلى في صفوف الحشد الشعبي، كما لا تحبذ الفصائل المنضوية تحت الحشد الحديث عن عدد القتلى. غير أن جواد الطائي، 36 سنة، ويعمل دفّانا في مقبرة النجف، التي تعتبر المقبرة الرئيسة للمسلمين الشيعة في العراق، قال إن المقبرة تستقبل بشكل يومي “شهداء من جبهات القتال وبمعدل 10 قتلى يوميا”، يزداد المعدل أحياناً حين تحتدم المعارك. وأوضح أن “العدد تجاوز 4000 شهيد منذ صدور الفتوى“.

ويتفق معه في التقدير الدفان عبد الأمير حسين أبو اصيبع. وهو بحكم عمله يؤكد أن واحداً من كل عشرة قتلى على الأقل هو من الأطفال أو المراهقين، مشيراً إلى أن العدد كان أكبر بكثير في الشهور الخمسة الأولى التي تلت الفتوى بسبب حالة الفوضى التي كانت سائدة.

أما بالنسبة لقتلى الحشد من أبناء السنّة، فيصعب تقدير عددهم، إذ يدفنون في مقابر عديدة خاصة بالطائفة، مثل مقبرة الحسن البصري في قضاء الزبير في البصرة جنوب العراق.

الثأر أو العار

فضلاً عن نقص التدريب، لم يتلق معظم مقاتلي الحشد الشعبي تسليحاً مناسباً يمكّنهم من مواجهة تنظيم “داعش”.  وبحسب مصادر، تم تزويد عناصر الحشد في بادئ الأمر ببنادق كلاشينكوف ورشاشة متوسطة نوع “بي كي سي” وقاذفات “آر بي جي7″،  بينما كان “داعش” يمتلك رشاشات ثقيلة بمديات بعيدة كان لها الأثر في تكبيد الحشد الشعبي في بداية تشكيله خسائر جسيمة بالأرواح.

بعض من عناصر الحشد اشتروا أسلحتهم على نفقتهم الشخصية. ففي ناحية العزير، التابعة لمحافظة ميسان، 380 كم جنوب العاصمة بغداد، تعيش أسرة لازم يحيى صعيجل، أحد مقاتلي فصيل “درع الشيعة”، والذي قتل في نيسان (أبريل) 2015 في ناحية العلم بمحافظة صلاح الدين في معارك عنيفة خاضها الفصيل مع “داعش“.

تعتبر العزير من المناطق الريفية، وتقع على الضفة الغربية لنهر دجلة، يتوسطها ضريح نبي الله عزير، أو عزرا بن شريا، وسكّانها محكومون بأعراف عشائرية متينة. وغالباً ما تشهد هي والمناطق المحيطة بها صراعات مسلحة بين العشائر التي تملك أنواعاً مختلفة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.

بعد مقتل والده، التحق، الصبي عبد الله لازم يحيى صعيجل، 15 سنة، بفصيل “جند الإمام”، إحدى فصائل الحشد الشعبي، لمقاتلة تنظيم “داعش”. وهو يسعى “للثأر” بقتل أكبر عدد من عناصر “داعش” في الفلوجة التي تحاصرها القوات العراقية والحشد الشعبي.

تلقى عبد الله، تدريبا لأيام على استخدام السلاح الخفيف لكنه يعتقد بعدم حاجته لذلك، كونه يملك في منزله بندقيتين نوع كلاشينكوف ورشاشة متوسطة، ويجيد استخدامها جميعاً، كما يجيد استخدام مدفع الهاون عيار 60 ملم، والذي تتوفر أعداد منه بحوزة عشيرته تستخدم أحياناً في النزاعات العشائرية. بصوتٍ يحاول تخشينه كالكبار، يقسم عبدالله بضريح نبي الله عزير، بأنه سيقاتل ويقتل حتى يثأر لأبيه. “قعودي سيجلب لي ولعشيرتي العار مدى الحياة”، يقول.

الإنتقاد مرفوض

في حزيران (يونيو) الماضي، وخلال مشاركته في المؤتمر الدولي للحد من تجنيد “داعش” للأطفال، وقف رئيس الوزراء حيدر العبادي ليقول إن “هذا المؤتمر رسالة الى جميع دول العالم للانتباه إلى خطورة ظاهرة تجنيد الاطفال”. وتابع بأن “الطفولة صفحة بيضاء لا يجب استغلالها بالقتل والذبح والتفجير”. لكن العبادي لم يتطرق إلى تجنيد فصائل الحشد الشعبي -المعترف بها رسمياً من قبل حكومته- للأطفال، رغم أن المخاطر التي يتعرض لها هؤلاء هنا أو هناك تكاد تكون واحدة، مع اختلاف طبيعة التجنيد وآلياته.

الموقف الحكومي الرسمي من هذه الظاهرة يبقى الانكار، وهو أيضاً الموقف الرسمي لفصائل الحشد الشعبي. إذ يقول كريم النوري، المتحدث باسم هذه الفصائل، “إننا لا نعاني نقصاً في عدد الرجال البالغين ولسنا ممن ينفذون عمليات انتحارية حتى نقوم بتجنيد الأطفال في صفوفنا”. لكن النوري لم يستبعد قيام بعض القاصرين بالانخراط في القتال “مستغلين الفوضى التي أعقبت سقوط الموصل” عادّا ذلك “أمراً محدوداً جداً“.

بيرق الابراهيمي (اسم مستعار) مدير منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان في النجف، يقول إن “الحكومة العراقية مطالبة بالتزام جانب الضوابط والقوانين المحلية والدولية التي تمنع تجنيد الاطفال”. الإبراهيمي، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه خوفاً على أمنه، قال إن المنظمات المدنية في العراق تخشى من انتقاد الحشد، معتبرا ذلك “من الخطوط الحمر التي لا يجرؤ كثيرون على تجاوزها” بينما تعيش البلاد أوضاعاً متوترة وتسودها المشاعر المذهبية.

وقال الابراهيمي إن “من ينتقد تجنيد الأطفال علناً سيعرض نفسه لغضب فصائل الحشد الشعبي التي ستعتبره معترضاً على الجهاد”، وهو ما يفسر برأيه تغاضي الإعلام المحلي عن تناول هذه الظاهرة.

الجهاد والدراسة

في خطبة الجمعة بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 2015 دعا معتمد المرجع السيستاني، أحمد الصافي، الطلبة إلى الانخراط في دورات للتدرّب على السلاح، وكانت دعوة عامة جاءت في سياق استغلال اوقات العطلة الصيفية في ما هو مفيد، والتهيؤ لمواجهة خطر الجماعات الارهابية التي واصلت تمددها. وبعد أيام قلائل أطلقت الفصائل المسلحة العنان لمساعيها باستقبال المئات من الطلاب للتدريب.

ويوضح الباحث محمد موسى الزيدي أن الفصائل غالباً ما تستغل عدم الوضوح في بعض التوجيهات التي تصدرها المرجعية الشيعية والتي درجت على تجنب الخوض في التفاصيل، “فهي مثلاً (المرجعية) لم تُحرّم تجنيد الأطفال، كما أنها لم تجزه، وقد وجدت التشكيلات المسلحة في ذلك مناخاً مناسباً لتجنيد الطلاب دون مراعاة لشرط السن“.

على مبعدة 30 كم إلى الغرب من كربلاء، استقبل معسكر الرزازة في حزيران (يونيو) 2015 نحو 600 طالب مدرسة وجامعة ومعاهد متوسطة، على دفعتين شكلتا دورتين تدريبيتين. قبلها بعام تقريباً كان المعسكر ساحة مخصصة لتدريب فصائل الحشد على يد مدربين محترفين من لبنان وايران.

يبدأ البرنامج اليومي للتدريب من الرابعة فجراً ويستمر حتى الرابعة عصراً تتخلله ثلاث ساعات استراحة، بينما الساعات الأخرى تتوزع بين التمارين الرياضية والدروس التعبوية، والعملية، وعلى عدة أنواع من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.

خلال التدريب، ودون تردد أبدى الكثير من الطلبة، الذين تراوحت أعمارهم بين 15 و23 عاماً، استعدادهم للانخراط في الحرب ضد “داعش” إذا لزم الامر. لكن عدداً من الطلبة قاموا بذلك فعلاً.

يقول أحمد عبد العباس، 17 سنة، إنه قرر أن يلتحق باللواء التاسع أبو الفضل العباس في الحشد الشعبي المرابط في بيجي بمحافظة صلاح الدين بعد أن أكمل الدورة التدريبية في معسكر الرزازة. السبب المعلن لقرار أحمد، هو محاربة “داعش” الذي يعتبره عدواً يشكل خطراً على مدينته كربلاء ومراقدها المقدّسة.

لكن هذا لايمنع من وجود أسباب أخرى تتعلق بعدم تفوقه في الدراسة، ومعاناة أسرته الناجمة عن الفقر. فالأسرة تسكن في منزل بسيط في أحد الاحياء العشوائية في منطقة حي النصر إلى الجنوب من كربلاء، ويعتبر الراتب الذي يتقاضاه عناصر الحشد الشعبي وقدره 750 الف دينار (حوالي 570 دولار أمريكي) مهما جدا لإعالتها. ويتابع أحمد “الجهاد قبل الدراسة، فهو يكسبني رضا الله ورضا والديّ“.

امتيازات خاصة

يتمتع عناصر الحشد بامتيازات أخرى فضلاً عن الرواتب، إذ قامت بعض الحكومات المحلية بتوزيع قطع أراض سكنية ومبالغ مالية على الجرحى منهم وعلى ذوي القتلى. ففي أيار (مايو) الماضي وزع مجلس محافظة كربلاء عشرة ملايين دينار عراقي (نحو 8 آلاف دولار أمريكي) على أسر القتلى من الحشد، وخمسة ملايين لأسرة كل جريح

ويعتمد حجم الامتيازات وسرعة الحصول عليها على مدى نفوذ الفصيل المسلح وقربه من الأحزاب الشيعية المتنفذة، وعلى مدى حصول الفصيل على دعم خارجي.

فارس صباح حسّان، 15 سنة، إبن لموظف في مديرية تربية ذي قار، يسكن مع أسرته المكونة من  ثمانية أشخاص في منزل متواضع بقضاء سوق الشيوخ، يقول إن راتب والده لا يكفي لسد احتياجات أسرته، ما حمل الأخير على إرساله هو وشقيقه حسن ( 17عاماً) للتطوع في “فوج ذو الفقار” إلى جانب عمّهما الضابط في الفوج.

يقول فارس الذي قابلناه مرتدياً البزة العسكرية ونظارة شمسية تخفي ملامح وجهه الطفولي: “في البداية لم أكن راغباً بالتطوع وأردت فقط مساعدة والدي، لكني اليوم فخور جداً وأحمد الله، فالجميع ينظر لي باحترام وتقدير وأصدقائي يعاملونني كما لو كنت أكبر منهم سنّاً“.

وكما هو الحال مع هذا الصبي، فإن الحاجة للمال وللتقدير الاجتماعي هما العاملان الأبرز اللذان يدفعان المراهقين للتطوع بحسب الباحث محمد موسى الزيدي.

ويوضح الباحث العراقي أن العوز والفقر في محافظات العراق الجنوبية وهوامش بغداد يدفع مئات الصغار والمراهقين للحصول على وظيفة، “وهؤلاء تتمكن الفصائل الشيعية الموالية لإيران على الأغلب من جذبهم، لأنها تتمتع بالنفوذ المالي وتمنح رواتب مستمرة، في حين تنقطع الرواتب لأشهر عن التيارات الأخرى المدعومة من الأحزاب التقليدية والمرجعية“.

لكن أيّاً كان الفصيل ومهما كانت خلفيته السياسية يبقى المركز الاجتماعي دافعاً أساسياً لاستقطاب المقاتلين، “وهو ما يفسر بقاءهم في صفوف الحشد على الرغم من انقطاع رواتبهم أحياناً لثلاثة او أربعة أشهر متواصلة، فضلا عن ايمانهم بقدسية ما يقومون به” يقول الزيدي.

لا يستحقون النجاح

العديد من صغار السن تركوا مقاعد الدراسة واختاروا أن يكونوا في صفوف الحشد الشعبي. مرتضى قاسم، 16 سنة، كان واحدا منهم، فقد تطوع بعد أيام من فتوى الجهاد الكفائي، وانخرط سريعا في المعارك، قبل ان يقتل في إحداها بغرب العراق.

آخرون غيره التحقوا بالحشد ولم يؤدوا الامتحانات، مع أن وزارة التربية مكّنتهم لاحقاً من أدائها، فقد فضلوا الاستمرار في القتال على الدراسة، وهي حالة لم تؤثر على المستقبل التعليمي للمتطوعين فقط، بل انعكست على مجمل العملية التعليمية.

وزير التربية محمد اقبال، أعلن في بيان صحفي في نيسان (أبريل) الماضي عن أن “الوزارة قررت أن تكون الامتحانات للتلاميذ والطلبة النازحين والحشد الشعبي والمحتجزين غير المنتظمين بالدراسة في الدور الثاني، على أن يعد لهم دوراً أول” وفي هذا اشارة الى حجم الارباك الذي لحق بقطاع التعليم بسبب الحرب.

اضافة الى الارباك، برز تراجع واضح في الاهتمام بالدراسة، وتساهل في النجاح، بحسب المدرّس عباس جواد، الذي يعمل ضمن الكوادر التدريسية في تربية كربلاء، نحو 100 كم إلى الجنوب الغربي من العاصمة بغداد “معظم الطلبة ممن التحقوا بالحشد حصلوا على النجاح بمساعدة مدرسيهم، وهم في الواقع لا يستحقون النجاح“.

جواد، نبه الى تراجع نسب النجاح هذا العام في محافظته، بسبب تداعيات الحرب والتحاق الطلبة بالحشد، فكربلاء حلت في المرتبة 11 من حيث نسب النجاح في العام الدراسي 2014-2015 للفرع العلمي، وبالمرتبة الثامنة للفرع الأدبي، بعد أن كانت تتصدر المراكز المتقدمة في السنوات الماضية.

المقبرة تتوسّع

رغم التأييد المستتر لها من قبل بعض الفصائل المسلحة، والسكوت الاعلامي عنها، تظل حالات التحاق اليافعين بصفوف الحشد الشعبي، مثيرة لقلق الباحثين الذين يحذرون من نتائجها.

يقول رائد الوائلي، مدير قسم الموارد البشرية، في منظمة “أهداف”، إحدى منظمات المجتمع المدني، إن “العراق يخسر طاقاته شبابه وأطفاله والأمر بدأ يتفاقم”، مطالباً الحكومة “بوقف تجنيد الأطفال فوراً وتنظيم عملية التطوع في صفوف قوات الحشد بطريقة شفافة”، مشيراً إلى حالات لتجنيد الأطفال تمّت حتى من دون معرفة ذويهم، كما حدث مع عباس الخفاجي، 17 سنة، من “كتائب سيد الشهداء” في كربلاء، إذ لم يعرف أهله أنه كان في الحشد الشعبي إلا بعد أن تلقوا جثته، وكان يبرر غيابه عن المنزل بالعمل في مطعم بالعاصمة بغداد.

ويلفت الوائلي من خلال متابعته إلى أن الفصائل وبعض قنوات التلفزيون التابعة لها صارت في الآونة الأخيرة تغيّر من مواليد المقاتلين صغار السن عند عرضهم على شاشات التلفزة وقنوات التواصل الاجتماعي تجنّباً للانتقادات. ويضرب مثلاً بأحد الأولاد الضحايا من مدينة كربلاء، كان عمره 16 سنة عندما قتل، فنعاه الفصيل الذي جنّده عبر موقع “اليوتيوب” بعد أن رفع سنّه إلى 19.

يؤكد دكتور الطب النفسي، عامر الجبوري، أن لمشاركة الصغار بالحرب تداعيات خطيرة على سلوكهم ونشأتهم الاجتماعية، قد تدفعهم لامتهان القتل مستقبلاً.

ويشير إلى أن الفصائل المسلحة في مختلف الدول التي تشهد نزاعات تستقطب أطفالاً فقدوا آباءهم أو ذويهم مستغلة نزعة الانتقام لديهم. ويتابع “أن هذه الفصائل تدرك أن الصغار لم يختبروا المواقف السياسية والمذهبية بعد، وأنهم أسهل للاقناع، وأن الجيل الجديد من الصغار والمراهقين يكون أكثر تشدداً وكرهاً للجانب الآخر من الجيل الأكبر سناً“.

وبينما يستمر الأطفال والمراهقون في الانخراط في هذه التشكيلات، تتقاطر الجثامين إلى العتبة العلوية في مدينة النجف، يطاف بها حول الضريح طلباً للبركة قبل أن تغادر إلى مقبرة وادي السلام القريبة، ثاني أكبر مقبرة في العالم، حيث يتم دفنها بحضور ممثلي الفصائل المسلحة.

هناك، خصصت كل مليشيا مدفناً لها، فاصطفت شواهد وصور القتلى في نسق دقيق ومساحات منتظمة وبينهم كثير من صغار السن. بعضهم دفعته الغيرة على الدين والمذهب كما هو حال أحمد جلاو وابراهيم بريسم، وآخرون وجدوا في السلاح طريقاً سريعاً نحو تحقيق الذات أو إعالة الأسرة كما هو حال عبد الله صعيجل وأحمد عبد العباس، وبعضهم أراد أن يكون إلى جوار أبيه في ساحة القتال، كما هو حال عليّ وكرّار.

مهما كانت الدوافع، وفي ظل سيادة مشاعر الحرب بما تحمله من عنف وكراهية، ستظل فرصة وقف هذا النزيف بعيدة المنال، وسيظل إعادة من يقاتل منهم إلى ساحات اللعب ومقاعد الدراسة امراً مستبعداً مع استمرار الحرب وارتفاع عدد ضحاياها وتهديدها كل يوم لمناطق جديدة.

*****

الأسماء البارزة للفصائل المقاتلة ضمن صفوف الحسد الشعبي: سرايا السلام التابعة للتيار الصدري، ومنظمة بدر (الجناح العسكري)، وكتائب حزب الله العراق، وعصائب أهل الحق، وحركة حزب الله النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وسرايا الجهاد والبناء، وكتائب التيار الرسالي، وسرايا الخراساني، وسرايا عاشوراء، وسرايا العتبات، وفيلق الوعد الصادق، ولواء أسد الله الغالب، وكتائب أنصار الحجة، ولواء القارعة، وسرايا الزهراء، وسرايا أنصار العقيدة، وكتائب الغضب، وحركة الأبدال، ولواء المنتظر، وكتائب درع الشيعة، وجيش المختار وحزب الله الثائرون.

فيديوهات، تظهر اطفال ومراهقين في صفوف الحشد الشعبي

https://www.youtube.com/watch?v=-nJsBRlxm78

https://www.youtube.com/watch?v=cQb-Onf8kDk

https://www.youtube.com/watch?v=IsFRkFMHQ3U

https://www.youtube.com/watch?v=6ctwWQBXYKQ

https://www.youtube.com/watch?v=nrKLnIhDh1E

https://www.youtube.com/watch?v=YMiTbWSp2tM

https://www.youtube.com/watch?v=x8sBxLHhxKY

https://www.youtube.com/watch?v=Xp-1yXTsFCc

http://hakaek.net/?p=20295

*أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وتحت اشراف كمي الملحم.

نوفمبر 2015

المزيد عن تحقيقات استقصائية

Investigations

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17468}" data-page="1" data-max-pages="1">