تحقيقات استقصائية: تلعفر.. من مدينة للتعايش الى «ولاية المهاجرين القوقاز» ومصنع قادة التنظيم

تلعفر.. من مدينة للتعايش الى «ولاية المهاجرين القوقاز» ومصنع قادة التنظيم

صور وأصوات من تلعفر التركمانية التي احتلها «داعش» وأسكن فيها «أتراكها»:                    

عباس عبدالكريم/ نينوى:

في باحة منزله الجديد بحي الخضراء جنوب شرق تلعفر، يجلس القيادي في الدولة الاسلامية ابو عمر التركماني، ومن حوله زملاؤه “المجاهدون المهاجرون” الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع كبار قادة التنظيم المنتمين الى المدينة التركمانية، التي تعد واحدة من ابرز معاقل “داعش” ومركزا مهما لتجنيد المقاتلين وتدريبهم.

في ذلك الحي الشيعي، حتى قبل عام وثلاثة اشهر، والذي تحول الى حي “للمجاهدين السنة” القادمين من تركيا واذربيجان وتركمانستان واوزبكستان، يظهر المقاتلون وسط عوائلهم، وهم يخوضون في امورهم المعيشية ويتبادلون الزيارات ويخططون لحياتهم الجديدة، بينها عائلة ابو عمر الذي قصد المدينة بعد اسابيع من سيطرة تنظيم الدولة عليها، واتخذ من بيت تاجر شيعي منزلا له.

بدا الحي كما كل تلعفر، هادئا تماما أواخر شهر آب 2015، رغم الحديث الذي تناقلته مجالس وجهائها عن مقتل ابن مدينتهم سعود محسن حسن، الرجل الثاني في التنظيم، والمقدم السابق في الحرس الجمهوري العراقي، والذي عرف في اوساط الجماعات الاسلامية المتشددة بعد 2003 باسم “فاضل الحيالي” و “أبو معتز القريشي” و”الحاج معتز”، قبل ان يكنى في تنظيم الدولة بأبي مسلم التركماني، والذي يعتبره الكثير من التركمان قائد عمليات “تحرير” نينوى وتلعفر في حزيران 2014.

نائب ابي بكر البغدادي، الذي اعلن عن مقتله عدة مرات، وكان آخرها اعلان مجلس الأمن القومي الأمريكي ذلك في 22 آب 2015 من خلال غارة لطائرة من دون طيار قرب الموصل، والذي تأكد بعد ان نعاه المتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني في تسجيل صوتي، لم يكن المجهز الرئيس للتنظيم بالأسلحة وأحد ابرز قادته العسكريين فقط، كما عرف عنه، بل أيضا صاحب القرار في نقل المقاتلين الأجانب بين سوريا والعراق، وبينهم ابو عمر نفسه.

وينقل مقربون من ابي مسلم، الذي ظهر مرارا في تلعفر والموصل والفلوجة عقب سيطرة التنظيم عليها، ان الفضل يعود له ولعدد آخر من التركمان في التنظيم، في تجنيد نحو 800 مقاتل من المتحدثين باللغات التركية والذين وجد الكثير منهم طريقه الى تلعفر وسكنوا في احيائها المتعددة وبينها حي الخضراء.

أحياء المجاهدين الأجانب

“هناك حياة جديدة تبرز في هذا الحي وباقي الأحياء الشيعية التي هجرها سكانها .. عشرات البيوت في المدينة التي ظل الشيعة والسنة يتقاسمون أحياءها واسواقها طوال عقود، اصبحت اليوم منازل للمجاهدين المتحدثين بالتركية بلهجاتها المختلفة.. انها مدينتهم الجديدة”، يقول ابو سعد وهو يمسح بيدين مرتجفتين العرق الذي تشكل على جبهته السمراء.

’تلعفر’ المدينة الأشورية التي عرفت بـ’جنة الآلهة عشتار’ وأحد ابرز محطات استراحة القوافل التجارية طوال قرون، والتي أضحت في القرن العشرين مركز التركمان في العراق، شهدت خلال ساعات اكبر عملية تحول ديموغرافي في تاريخها الحديث، بعد ان هجرها نحو نصف سكانها الـ 250 الف واحتضنت مئات المقاتلين العرب والأجانب مع عوائلهم، لتبرز في المدينة مسارات حياة جديدة لم تتضح معالمها بعد.

حدث ذلك بعد ايام من سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية على مدينة الموصل في 10 حزيران، حين تعرضت الأحياء الشيعية في تلعفر الى هجمات بالهاونات، واجبر سكانها على النزوح غربا الى سنجار فيما انخرط المئات من شبابها في قتال غير متكافئ مع التنظيم اثر تخلي معظم افراد قوات الجيش عن اسلحتهم والانسحاب من مواقعهم دون قتال، بينما استسلمت الأحياء السنية للتنظيم، وهو ما مكنه في 26 حزيران من السيطرة على كامل تلعفر، بحسب شهادات جمعها معد التحقيق طوال عام من أبناء المدينة والعديد من المسؤولين الأمنيين والاداريين فيها.

يقول أبو سعد، وهو معلم متقاعد، تجاوز السبعين من عمره “منذ اليوم الأول قرر التنظيم تحويل تلعفر الى مدينة سنية خالصة، وانهاء قرون من التعايش المذهبي، فاعتقل كل شيعي لم يغادر المدينة، ودمر كل المساجد والمزارات الشيعية (32 مسجدا ومزارا بحسب مسؤولين بالوقف الشيعي) باعتبارها مواقع يشرك بالله فيها، ثم عمد الى تدمير المكتبات والمراكز الثقافية الشيعية، والحقها بعمليات تدمير لمنازل الشخصيات السياسية والادارية والأمنية من الطائفتين، حتى القلعة التاريخية الشهيرة للمدينة لم تسلم من التدمير”.

أبو سعد الذي آثر البقاء في المدينة معتقدا بأن “غزة داعش” لن تستمر غير اسابيع لتعود الحياة الى ما كانت عليه، يقول وهو يميل بوجهه نحو بقايا سور القلعة “لا نصدق ما حدث ويحدث، خلال ايام، نصف ابناء المدينة تركوها وصاروا مهجرين في بقاع الأرض، وحل محلهم مقاتلون قدموا من تركيا وأذربيجان والدول التي تتحدث بالتركية أو اللغات القريبة منها.. هم باتوا قادة المدينة، إلى جانب القادمين من الموصل والعياضية (ناحية تتبع تلعفر إدارياً)”.

تلعفريون في هرم القيادة

ساعدت العلاقات الواسعة للقياديين في الدولة، ابو أنس التركماني وعبد الرحمن مصطفى قدو المعروف بأب علاء العفري، والذين كانا مُعتقَلين سابقين في سجن بوكا الذي اداره الأمريكيون قبل رحيلهم من العراق، في تحويل تلعفر الى حاضنة “للمجاهدين المهاجرين” ومعقل بارز للتنظيم.

فمدرس الفيزياء في عهد حكم صدام حسين، علاء العفري، الذي اعتلى منبر المسجد العمري في تلعفر، وعرف بخطابه التحريضي ضد الشيعة، والذي اختفى بسبب ملاحقات امنية في الفترة الأخيرة لحكم حزب البعث بالعراق، وظهر فجأة بعد نيسان 2003 كقيادي بارز في تنظيم القاعدة، شكل عاملا فعالا في تحويل تلعفر الى مركز للمجاهدين.

العفري، الذي اعلن مرارا عن مقتله بين 2009 إلى 2015 دون ان يؤكد التنظيم ذلك، كان له دور في الحرب الطائفية التي شهدتها المدينة بين عامي 2004 و2009 والتي أوقعت بحسب مصادر رسمية أكثر من ثلاثة الأف قتيل وستة الآف جريح من سكان المدينة.

وتطول قائمة ابناء المدينة ممن اعتلوا مناصب رفيعة في الدولة، بينهم موفق مصطفى كرموش الذي يكنى بأبي صلاح، ويعرفه “مجاهدو” تلعفر كاحد المسؤولين الماليين البارزين، الى جانب بشار إسماعيل الحمداني المكنى بـ”أبي محمد” ويعرف بادارته لملف السجناء، اضافة الى شوكت حازم فرحات ويكنى بـ”أبي عبد القادر” وهو اداري بارز في التنظيم، وعوف عبد الرحمن العفري وكنيته “أبو سجى”، ويعرف ككونه مسؤولا بارزا عن الشؤون الاجتماعية بالتنظيم.

أتراك واذربيجانيون وشيشان

يتناقل مسؤولون تركمان، ارقام متقاربة بشأن المقاتلين الأجانب الذي اسكنوا في تلعفر، ففيما تشير النائبة التركمانية نهلة الهبابي الى إسكان 300 عائلة تركية وشيشانية وأفغانية واوربية، يقول عضو الهيئة التنفيذية في الجبهة التركمانية نور الدين قبلان ان التنظيم أهدى 200 مسكن لعائلات عناصره القادمة من سوريا، ومن بينها منزل ’قبلان’، كما حولوا عشرات المنازل الى مقرات أمنية ومخازن للسلاح والمؤن.

القادمون من الموصل والعياضية في المجمل حصلوا على مناصب ادارية، اما الأجانب القادمون من وراء الحدود وبينهم ابو عمر، فحصلوا على مناصب أمنية تنفيذية الى جانب مناصب مالية “والفئتين منحتا بيوتا في الاحياء الشيعية شرقي وجنوبي تلعفر التي خلت من سكانها, كما حصلوا على الكثير من الغنائم في بداية الحرب حين استولى التنظيم على مناطق سنجار وسهل نينوى”.

أبو عمر، واحد من قيادات التنظيم التي تعمل في الشرطة الاسلامية المعروفة بالحسبة، والمعنية بمحاسبة المخالفين لقوانين الدولة. الأمير الذي كان يتوسط المجلس بمنزله في اول اياد العيد، وهو يرتدي ملابس افغانية رمادية اللون، تحدث لمضيفيه بالتركية عن التكافل في الأعياد وعن أجر رعاية اليتيم، وعن الاصدارات الفيديوية الجديدة للدولة والتي تبرز “انجازاتها” الأمنية والخدمية.

الغائبون بلا أثر

في كربلاء الى الجنوب من تلعفر مسافة 600 كلم، حيث حطت عائلة علي محمود في المدينة المقدسة لدى الشيعة، في مطلع تموز 2014 بعد هروبها من داعش، اغرورقت عينا علي، واختنقت الكلمات في حنجرته، وهو يتلقى تهاني العيد من جاره الكربلائي الذي سأله عن أخبار شقيقه المفقود.

بعد لحظات من الارباك والنظرات الحائرة التي غطت المشهد الاحتفالي البسيط بالعيد، قال علي وهو يحاول تغطية عينيه “لا شيء جديد… لا نعرف ان كان حيا او ميتا، انه العيد الثالث الذي ننتظر فيه اي خبر عنه”.

شقيق علي، واحداً من مئات المفقودين في تلعفر، عقب سيطرة تنظيم الدولة عليها وتحويلها الى “سجن كبير لآلاف الايزيديين والشيعة وحتى السنة المتهمين بموالات الحكومة العراقية”، يقول الناشط الايزيدي جميل شنكالي “انها تحولت الى معتقل كبير، جدرانها تكتم مئات القصص عن عذابات السبايا الايزيديات، قصص مروعة عن البيع والشراء والاعتداء والتعذيب والقتل”.

تذكر تقارير لمراكز دراسات ومنظمات مدنية، نشرت في خريف 2014  أن ما بين 300 الى 400 تركماني قُتل أو اختفى أثناء وبُعيد سيطرة تنظيم الدولة على تلعفر، وان بينهم اكثر من 60 امرأة و70 طفلا. رقم مقارب اوردته النائبة عن الجبهة التركمانية نهلة حسين هبابي، مشيرة الى إن عدد التركمان المختطفين يبلغ 416 شخصا “غالبيتهم من النساء والأطفال”.

لكن تلك الأرقام تبدو متحفظة، ففي تموز 2015 قال المتحدث باسم الجبهة التركمانية علي مهدي ان الجبهة تملك قوائم بأسماء 800 فتاة وامرأة تركمانية محتجزة لدى داعش ويتم “المتاجرة بهن”، هذا عدا المعتقلين من الرجال.

ابادات جماعية

خيط الأمل الرفيع ببقاء المعتقلين المدنيين أحياء، يكاد يتقاطع تماما مع الأخبار التي ظلت طوال أشهر ترد من تلعفر وتؤكد تنفيذ التنظيم للعديد من عمليات القتل المنفردة والجماعية بحق المدنيين الشيعة.

يقول أبو اسراء، وهو مواطن سني من تلعفر مازال يقيم في المدينة “جرت عمليات قتل واسعة بعيد اقتحام المدينة، حدث كل شيء خلال دقائق في محاكم شرعية أدارها امراء التنظيم”.

ويؤكد ابو اسراء الذي ابقى على اتصالات سرية مع عدد صغير من أصدقائه الشيعة المقربين، رغم ان ذلك يعد جريمة تودي بصاحبها الى القتل، ان حملات الإعدام في المدينة لم تتوقف أبدا وبعضها تُنفذ علانيةً .. وهي تطال “السنة الخائنين”، والشيعة الذين يشك بولائهم رغم اعلان توبتهم، وكل من يحاول تهريب الايزيديات.

“نسمع ان فلانا قتل، دون أن يتجرأ أحد بالسؤال عن السبب, التهم عادة تتعلق بكونهم عناصر أمن سابقين أو موظفين ومسؤولين بارزين مختبئين أو مواطنين متعاونين مع الحكومة، إلى جانب المتهمين بالخيانة والتجسس وإعطاء إحداثيات عن مواقع التنظيم, تجد بين المقتولين الشيعي والسني والايزيدي والكردي وأحياناً حتى غير العراقي”.

القتل بوسائل مبتكرة

وعن أساليب تنفيذ الإعدامات يقول ابو اسراء: “أشهرها رمي المتهمين وهم احياء من على بئر ’علو عنتر’ شمال تلعفر، ويُقتل البعض بإطلاق النار عليه في ساحة خالية في ’الحي العسكري’ وأحياناً في باحة كراج النقليات القديم، والبعض يقتل بقطع الرأس”.

الاعدامات، ينفذها في الغالب ملثمون لا يمكن لعامة الناس معرفة هوياتهم وجنسياتهم، لكن في بعض عمليات المعاقبة بالجلد يكشف المنفذون عن وجوههم بينهم تركمان من سكان المدينة، يضيف ابو اسراء “اعرف بعضهم شخصيا، بينهم من يؤمنون بان ما يقومون به هو تطبيق لحكم الله، وآخرون هم مجرد مجرمين وأصحاب مصالح”.

صناعة الرعب، التي يجيدها التنظيم، يعتبرها الباحث الاجتماعي كاظم سليمان، سلاحه الأكبر الى جانب قدرته على التحشييد الطائفي “الخوف هو الذي يحكم ولايات الدولة، لا شيء غيره، هم يبثونه كل يوم وبمختلف السبل، بينها شرطة الحسبة التي تذكرك أينما مضيت بالحساب العسير الذي قد ينتظرك”.

يجوب ابو عمر مع رفاقه، الذين يتجنبون في العموم ذكر الدول التي أتوا منها وماضيهم “الجهادي”، كل يوم الأسواق والأحياء السكنية بسيارات شرطة الحسبة او على دراجة نارية، لمراقبة “تطبيق حدود الشرع، ومنع المنكرات الظاهرة” بدءا من الاختلاط والتبرج و”ملابس ورموز الملل غير الإسلامية”، ومرورا بمنع السكائر والخمور والتسجيلات المخالفة للتعليمات الدولة الإسلامية، وانتهاء بأعمال السحر والشعوذة والقمار و”ارتكاب الفواحش”.

ويسلم رجال الحسبة، المخالفين، الى القضاة الشرعيين في الدولة الذين يصدرون “حكم الشرع بحقهم” وهي احكام تتباين بين الجلد والسجن وقطع اليد والقتل.

دولة الخوف

ينقل محمد خليل، جانبا آخر من الحياة في المدينة “دواوين الدولة تفتح أبوابها بشكل طبيعي، الجهات الخدمية تعمل بانتظام، وأي غياب عن العمل او تلكأ فيه يواجه بقسوة… الخدمات افضل مما كانت عليه قبل عامين، العديد من الشوارع تم تبليطها، هناك حدائق انجزت، والأزقة أصبحت انظف.. المواطنون اعفوا من اجور الماء والكهرباء”.

يصف خليل واقع التيار الكهربائي والوقود بالجيد “المولدات الأهلية تعمل عند انقطاع الكهرباء، والماء وضعه أفضل مما كان عليه قبل حكم الدولة”. لكن أسعار البنزين والغاز تعادل ضعفي اسعارها في العراق.

عبد القادر، وهو معلم متقاعد، ينفي ما يتردد عن توقف الدراسة “في العام الدراسي المنصرم التزم الطلاب بالدوام، وتم تدريس ذات المناهج القديمة بعد الغاء بعض موادها .. لكن المناهج الجديدة طبعت وستدرس في العام الجديد.. الطالبات يدوامن بانتظام وقد الزمن كما سائر الفتيات بلبس الخِمار”.

الأمر نفسه تؤكده وفاء، وهي طالبة بالمرحلة الإعدادية “داومنا كالأعوام السابقة، إلا أن التنظيم أناب مسؤولاً عنه في كل مدرسة يشرف على أداء الكادر التدريسي والتزام الطالبات بالحجاب والخمار”.

وتلفت وفاء الى ان أزياء الناس تغيرت تماماً “الكثير من الرجال خاصة الموظفين باتوا يلبسون الزي الأفغاني.. كبار السن مازالوا يرتدون الدشاديش.. وبعض الشباب كما صغار السن يرتدون الملابس المدنية بشرط ان لا تكون ضيقة، والنساء يرتدين العباءات التي تخفي كامل الجسد مع الخمار.. الجميع تعودوا على ملابسهم”.

الرضا المعلن عن الخدمات والتعليم، لا يمتد الى القطاع الصحي فالكثير من الأدوية والمستلزمات الطبية لا تتوفر للمواطن “إلا بعد وساطات مع مسؤولي الدولة الذين يستحوذون على معظم الادوية لمعالجة مقاتليهم” وهناك نقص كبير في عدد الأطباء وبشكل خاص ذوي الاختصاصات.

تقول وفاء “أعرف ذلك لأن والدي مريض بالقلب، نحن نخشى دائما ان تتدهور حالته ويحتاج الى فحوصات او تداخل جراحي، حينها ستكون حياته مهددة حتى لو فكرنا بنقله الى الموصل”.

جهاد النكاح

ينكر جميل سعيد، الذي كان يسكن في حي القادسية الذي كان يجمع السنة والشيعة معا، قبل ان يتحول مؤخرا الى حي سني، كل ما يتردد من روايات بشأن جهاد النكاح “سمعنا عنه الكثير في وسائل الاعلام، لكن لم يدق علينا أحد الباب، ولم يُطلب من اي عائلة تعداد عدد بناتها، ولم نلمس يوما شيئاً من كل ذلك”.

“انها كذبة .. إن كان جهاد النكاح موجوداً في مكان ما، ففي تلعفر لا وجود له” يقول سعيد، موضحا ان الكثير من المقاتلين الأجانب وفدوا مع زوجاتهم وأولادهم “البعض من غير المتزوجين تزوج من مسلمات او اتخذ من ايزيدية زوجة له”.

سعيد يؤكد ان مقاتلي التنظيم من الوافدين العرب والاجانب ملتزمون دينيا “يعيشون حياة طبيعية، لديهم اسر يعيلونها ويهتمون بها، المقاتلون منهم يتلقون مبالغ شهرية تتجاوز الـ 300 دولار واعانات غذائية ولديهم اجازات دورية، اختلاطهم مع بقية العوائل محدود، لكن منهم من بدأ يشكل علاقات قوية مع سكان تلعفر الاصليين”.

ويرى العديد ممن تواصل معهم معد التحقيق، ان معظم المقاتلين الأجانب بصفوف التنظيم يبدون التزاما بـ”الحدود الشرعية” المعروفة في المذهب السني كما بالأعراف الاجتماعية.

يقول احمد، وهو خمسيني شكل علاقات جيدة مع بعض الامراء بعد انتماء افراد من عائلته الى الدولة “لم تبدر منهم تصرفات تظهر خلاف ذلك، معظمهم يؤمنون بالجهاد وبأن خيرا كثيرا ينتظرهم في الجنة، بعضهم يبدون قساة لكنهم ملتزمون انسانيا مع عوائلهم”.

معسكرات الأشبال

احمد، الذي يملك اراض زراعية بمحيط تلعفر، كشف بحكم علاقاته، عن وجود ثلاثة معسكرات على الأقل بمناطق مختلفة “مخصصة لتأهيل وتدريب الفتيان الشيعة والايزيدية ممن أجبرهم التنظيم على ترك دينهم او مذهبهم والالتحاق به، على خوض المعارك والعمليات الانتحارية إلى جانب تلقينهم فكر الجهاد”.

“وهناك معسكرات أخرى خاصة بشباب تلعفر وبالمهاجرين (الأتراك والقوقازيين) ممن قدِموا من خارج العراق وانظموا الى التنظيم”.

مصير الايزيديات

يؤكد معلومات احمد، شقيقه كريم، لكن الاثنين لا يملكان معلومات عن مصير الايزيديات “لا نعرف شيئا، نسمع ان العديد منهن اسلمن ويعشن حياة طبيعية”.

ويضيف كريم “سمعنا في الأشهر الأولى الكثير عنهم، فقد وزعوا في بيوت ومقرات داخل المدينة، لكن في الأشهر الأخيرة ومع محاولات فرار بعضهن ومعاقبة بعض اهالي المدينة على ذلك، انقطعت اخبارهن، جرى نقل البعض الى سوريا، ولا يمكن اليوم لعامة الناس رؤيتهن، ولا احد يجرأ بالسؤال عنهن، لكن بعض امراء الدولة في مجالسهم الخاصة يتحدثون عن احتجازهن في مواقع أمنية، كما ان هناك تركمانيات محتجزات”.

“لا اعرف لماذا لا يتم الافراج عن المعتقلات، العديد منهن يشكلن عبئا امنياً ومادياً.. سمعت من أمير مرة انهم يريدون الاحتفاظ بهن للتفاوض على اسرى الدولة، او حتى لبيعهن عند الحاجة.. يقال ان الايزيديين في كردستان مستعدون لاستعادة زوجاتهم وبناتهم بعشرة آلاف دولار او اكثر، هذه مبالغ تغري التنظيم”.

الغنائم ورواتب بغداد

لا تختلف الحياة الاقتصادية في تلعفر كثيرا، عن ما هي عليه في المناطق الخاصعة لحكومة بغداد، كما يؤكد العديد ممن تحدث اليهم معد التحقيق.

عبدالله همات، الذي يملك محلا للمواد الغذائية بسوق القلعة يقول “الحديث عن ندرة المواد الغذائية والارتفاع الكبير في الأسعار أو انعدام بعض المواد امر يثير السخرية، أسعار الخضروات عموما هي اقل، والمواد الغذائية من زيت ودقيق ورز سعرها أعلى بقليل”.

ويكمل وهو يبتسم “كل شيء متوفر، الدولة الاسلامية توزع بين الحين والآخر مساعدات غذائية على عوائل المقاتلين”.

وبشأن العملات المتداولة وطرق التجارة يقول “يمكنك ان تحصل على اي شيء، فالطرق مفتوحة الى سوريا ومنها الى تركيا عبر الرقة وجرابلس، وما تزال العملة العراقية هي السائدة، وفي سوريا يتم استخدام الليرة السورية واحيانا التركية”.

الا ان حاتم طه، وهو راعي غنم وتاجر لحوم، يؤكد تراجع القوة الشرائية للمواطنين عموما “في الأشهر الاولى لعمليات الدولة كانت الاوضاع ممتازة لوفرة الغنائم وتعدد مصادر التمويل، لكن في الفترة الاخيرة تراجعت القوة الشرائية ومعها الحركة الاقتصادية، قلة فقط يمكنهم شراء اللحوم رغم ان سعر الكيلوغرام لأفضل نوعية لا يتجاوز العشرة آلاف دينار”.

ويشرح طه، اسباب التغيير الحاصل “حتى قبل فترة الموظفون كانوا يستلمون رواتبهم من الحكومة العراقية، لكن معظم تلك الرواتب توقفت.. مئات العوائل كانت تعتمد عليها في تأمين حاجاتها من الأغذية، اما باقي المستلزمات فهي رخيصة… 500 دولار تؤمن لك معيشة جيدة هنا”.

الترهيب والترغيب

على وقع الثنائية اعلاه، تستمر الحياة في المدن التي يحكمها أمراء الدولة.

يقول أبو حسن، الذي التزم بيته تاركا عمله في بيع وايجار العقارات، ان التنظيم عزز من مقومات وجوده، عبر اقامة شبكة علاقات مع وجهاء العشائر على اساس المصالح والمشاركة في القرار والمغانم، وعبر تكثيف وسائل الترهيب بتنفيذه عمليات اعدام شبه اسبوعية لمن يتهمون بالخيانة او من خلال تنظيم استعراضات مسلحة يرتدي فيها المقاتلون الزي الأفغاني المرقط والأقنعة السوداء ويحملون أسلحة الكلاشنكوف و(البي كي سي) وقاذفات (7 RBG).

يضيف “التنظيم لديه اليوم سجون سرية لا يعلم عامة الناس بها، لكنه يتخذ أيضا من بعض المدارس والبنايات الفارغة سجوناً معروفة لدى الكثيرين كبناية كلية التمريض ومتوسطة زينب للبنات”.

المجاهدون التركمان

رجاء، وهي عشرينية، من عائلة سنية انضم العديد من افرادها الى التنظيم حتى قبل سيطرته على تلعفر، تكشف جانبا من حياة المقاتلين “الكثير من الشباب التركمان انخرطوا في صفوف الدولة عن قناعة وبينهم شقيقي… هم مقتنعون أن حكم الدولة أفضل من سطوة حكومة بغداد الطائفية، واليوم تجد الكثير من أبناء السنة لهم دور في ادارة المدينة، وهم يشعرون بتميزهم”.

رجاء التي قضى شقيقها في مواجهة مع البيشمركة بمنطقة زمار، ولم يتم استرداد جثته، أكدت ان الشباب ممن انتموا للدولة يستلمون شهرياً 120 دولاراً مع اعانات غذائية، فيما يستلم المقاتلون بالجبهات البعيدة عن مناطقهم مبالغ اعلى.

سهلت علاقة عائلة رجاء، بالتنظيم من استحواذها على منزل “فخم” لأحد الضباط ’الشيعة’ وهي لا ترى اي مشكلة في ذلك “كان مؤثثا بشكل جيد فسكنا فيه، وقمنا بتوزيع بعض محتوياته على معارفنا الفقراء.. كل من لا يملك دارا يمكنه ان يأخذ ترخيصا من الدولة ويسكن في بيت متروك”.

لكن أياد، وهو شاب متزوج ولديه طفلان، عارض عائلته في الانتقال الى بيت مماثل استولى عليه شقيقه، ووافق في النهاية خوفا من ان يتهم بالتعاطف مع الشيعة “لا أعرف … نعم نحن عائلة فقيرة والبيت كان فارغا، لكني اشك ان ما قمنا به امر صائب .. أخاف من المستقبل”.

صلاة اجبارية

يحرص التنظيم على جذب سكان المدينة لأداء الصلاة في المساجد باوقاتها، ويحذر المتغيبين عنها في الأسواق، كونها تمثل ابرز منابر الدعاية ونقل الأوامر. وقام التنظيم بترميم العديد من المساجد السنية وتوسيعها بينما دمر كل المساجد الشيعية، وتعمد عدم ازالة ركامها.

يقول عبدالله علي ان مساجد المدينة تكتظ بالمصلين، لا سيما أيام الجمع حيث يعتلي المنابر “خطباء يتحدثون عن الجوانب العقائدية والجهادية والسياسية، وينقلون التعليمات الجديدة”.

ويقدر الشيخ هاشم خلف، الذي كان ناطقا باسم ’مجلس إسناد عشائر تلعفر’ عدد المواقع الدينية الشيعية التي فجرها التنظيم بـ 32 مسجداً ومزاراً، ابرزها مرقد الامام سعد، مزار خضر الياس، مرقد السيد احمد، جامع اهل البيت، جامع الصادق، جامع الحكيم، جامع الرسول الاعظم، جامع علي بن ابي طالب، حسينية الامام الحسن العسكري، حسينية الامام المنتظر، وحسينية الثقلين.

الشيخ خلف، أبدى أسفه لتأييد الكثير من سنة تلعفر للتنظيم “الحقيقة انه تمكن من حشدَ آلاف المؤيدين الذين وضعوا أيديهم بأيدي المتشددين وتورطوا في جرائمه”.

التورط في القتل

جواد محمد، وهو شيعي من تلعفر يقيم في النجف، يرى ان غالبية سنة مدينته مغلوبون على امرهم “نعرفهم جيدا، معظمهم يرفضون قتل اي انسان على اساس مذهبه او دينه، لكن هناك متشددون للاسف أصبح الأمر بيدهم، وهناك أصحاب مصالح، وهؤلاء يقتلون كل من يخالفهم الرأي”.

محمد يرى ان عودة الشيعة الى تلعفر تزداد صعوبة كلما طال زمن استعادتها “المتورطون مع داعش تزداد اعدادهم مع مرور الوقت وتزداد جرائمهم”.

ويبدي قناعته بان هؤلاء يمثلون الخطر الأكبر “ربما القادمون من خارج الحدود يعودون حين يشعرون ان بقاءهم اصبح مستحيلا او مكلفا، لكن المتورطين مع التنظيم ممن ارتكبوا جرائم لن يستسلموا، سيقاتلون بشراسة”.

محمد لم يخف استياءه من طريقة ادارة الحرب ضد التنظيم “منذ عام، هناك 125 الف مشرد بين مدن الجنوب وكردستان، ينتظرون ساعة الخلاص، لكن كل ما يحدث هو قصف موقع او اثنين كل بضعة ايام أو اسابيع، وكثيرا ما تكون الاهداف خاطئة. استهدفوا مرتين مستشفى تلعفر وعدة مرات دوائر خدمية. هذا يثير غضب الناس”.

نهاية الوجود الشيعي

النازح الى كربلاء علي عباس، يبدي ذات الرؤية السوداوية بشأن العودة “بمجرد رحيل داعش لن تعود الحياة.. الحرب الطائفية ستشتعل مجددا، فهناك جراح عميقة في كل بيت”.

ومثل الكثير من النازحين الى جنوب العراق، حيث تختلف الثقافة واللغة، يجد عباس صعوبة في بناء حياة جديدة حيث يقيم، مع استمرار الحرب والفقر “حياتنا أمست جحيما هنا .. أبحث عن أي فرصة للهجرة خارج البلاد”.

يشارك عباس “احباطه واغترابه” النازح السني الى اربيل احمد التلعفري، مؤكدا ان محاولة استعادة الماضي تشبه محاولات التنظيم بناء حياة جديدة في مدينته “لن يتحقق ذلك.. سنحتاج الى سنوات لترميم النسيج الاجتماعي فالكثيرون يفكرون بالانتقام”.

يقول التلعفري “حين تقف في اي حي شيعي وترى البيوت الخاوية مشرعة الأبواب وركام البنايات المهدمة والحسينيات التي سويت بالأرض، ستعرف ان الحياة لن تعود الى سابق عهدها، وستعرف ايضا ان ’المجاهدين المهاجرين’ لا يمكن ان يحلوا محل سكان المدينة الراحلين”.

لكن فاطمة حسين، وهي زوجة مقاتل شيعي، قتل بعملية انتحارية في مطلع حزيران الماضي خلال التحاقه بقوات الحشد الشعبي، تؤكد ان “حلم” العودة لمدينتها لا يفارقها “كنا نملك كل شيء، بيوت وعقارات واراض زراعية… واليوم نحن نازحون نعيش على مساعدات الخيرين”.

تصمت وهي تمسح دموعها، فيما تتطلع الى صورة احد المفقودين من عائلتها الى جانب صورة زوجها المعلقة على جدار حفرته الشقوق، قبل ان تكمل بصوت مرتجف “ولدي في السابعة عشرة من عمره تطوع في الحشد، لا يمكننا منعه قد يقتل مثل والده قبل ان نعود لمدينتنا المنهوبة”.

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وتحت اشراف سامان نوح.

**********

نشر هذا التحقيق بشكل مختصر في صحيفة الحياة بتاريخ  ٢٥ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥

http://www.alhayat.com/Articles/11700704/%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%AA%D9%84%D8%B9%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D9%87%D8%A7–%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4–%D9%88%D8%A3%D8%B3%D9%83%D9%86-%D9%81%D9%8A%D9%87%D8%A7–%D8%A3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%87%D8%A7-

المزيد عن تحقيقات استقصائية

Investigations

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17459}" data-page="1" data-max-pages="1">