تحقيقات استقصائية: عشائر نينوى و”دولة الخلافة” .. شبكات مصالح وأذرع عنف رسمت خريطة بناء الدولة واستمرارها

عشائر نينوى و”دولة الخلافة” .. شبكات مصالح وأذرع عنف رسمت خريطة بناء الدولة واستمرارها

نينوى/ نوزت شمدين:

شيوخ عشائر من كافة مناطق نينوى يتقدّمون في طابور إلى صدر القاعة حيث موفد “الخليفة” أبي بكر البغدادي يجلس وسط جمع من قادة تنظيم الدولة الاسلامية، وسبّاباتهم مرفوعة، يبايعون على “السمع والطاعة” ويتعهدون برفع راية “دولة الإسلام”.

هكذا أراد التنظيم، الذي سيطر على نينوى في 10 حزيران (يونيو) 2014، أن تظهر صورة ثلاثين شيخ عشيرة من كبريات عشائر نينوى لأكثر من إحدى عشرة دقيقة هي عمر مقطع الفيديو الذي نشره التنظيم في الأول من نيسان (أبريل) 2015 بعنوان “عشائر نينوى تجدد البيعة وتستعد للمواجهة”.

على مداخل القاعة حيث جرت “المبايعة” كان مقاتلو “الدولة الجديدة” بملابسهم الافغانية ولحاهم الطويلة وأسلحتهم النارية “يبثون الرعب في نفوس الشيوخ المتوجسين، الذين تسلموا رسائل واضحة بأن القتل سيكون مصيرهم، اذا لم يبدوا التعاون ويعلنوا التوبة والرضوخ الذي سيرسم صورة الحكم الجديد”، يقول أحد الشيوخ المشاركين بالمبايعية.

ويتابع “كنا خائفين، لا نعرف كيف نتصرف، نتجنب الكلام مع بعضنا، أو النظر مباشرة الى وجوه قادة التنظيم، كان الصمت يلف القاعة بينما يلقي موفدو الخليفة تعليماتهم ويحددون صورة العلاقة والحكم.. مشاهد مراسم الاعدام العلنية التي نفذها التنظيم وسط الموصل بحق مخالفيه كانت تطاردنا وتجبرنا على اظهار الولاء المطلق”.

لكن “حفل المبايعة” ذاته كشف عن شبكة علاقات قوية ومصالح قديمة بين شيوخ عشائر وامراء التنظيم “بعض الشيوخ تحدثوا خلال كلماتهم بفخر عن التعاون الطويل الأمد مع الدولة الإسلامية (تنظيم القاعدة سابقا) وتعهدوا بالولاء والمضي في الدفاع عن التنظيم”.

يقول المحلل السياسي دلير حسين “تلك الدقائق كانت تعبيراً عن سياسة توريطية، ومحاولة من التنظيم لقطع جسور الثقة المأزومة أصلاً بين معظم ممثلي عشائر نينوى المتهمين بالخضوع للتنظيم والحكومة المركزية في بغداد، واسقاط هيبة العشيرة”.

لم تكن تلك السياسة، التي ربطت عشائر نينوى بتنظيم الدولة، وليدة عام من الحكم، بل هي تمتد بجذورها الى من سبق من تنظيمات متشددة كالقاعدة وأنصار الإسلام. وتكشف المعلومات وشهادات شيوخ وأفراد بايعوا التنظيم وآخرون مناوئين له، بالاضافة الى منتسبي أجهزة الأمن، ومسؤولين محليين، طبيعة الأدوار التي تضطلع بها وجوه عشائرية ضمن أجهزة التنظيم في مركز خلافته الموصل.

روايات هؤلاء تميط اللثام عن “ثنائية عقاب وثواب” صاغت شكل “العقد القائم” على مدى ثمانية أعوام، إلى أن تضخم التنظيم وأصبح “خلافة” ابتلعت ثلث مساحة العراق.

 

البيعة قبل احتلال الموصل

“أفقت لأجد نفسي مستلقياً الى جواره على الرصيف، ذراعي الأيمن غارق في سخونة دمه، بينما رجال الأمن يراقبون من بعيد لا يجرؤون على رفع أسلحتهم”. هكذا يصف شقيق للشيخ برزان البدراني حادثة مقتل الأخير في وضح نهار 27 آب (أغسطس) 2013 برصاص مسلحين “شبحيين” مجهولين، سجلت باسمهم مئات حالات القتل على مدى سنواتٍ في الموصل.

دماء الشيخ برزان رسمت سيناريو قتلٍ علني لواحد من الوجهاء المؤثرين في نينوى. فالشيخ الذي أصبح رئيساً لعشيرة السادة البدرانيين وهو في عقده الثالث (من مواليد 1978) عرف بمناوئته للاحتلال الأميركي للعراق ومعارضته لحكومة بغداد، وبرز واحداً من قياديي ساحة التظاهرات المعروفة بساحة “الأحرار” لنحو عشرة أشهر متواصلة، ندّد خلالها بسياسة بغداد في الاعتقالات العشوائية للأهالي والتمييز الطائفي. وهو سيناريو تكررت منه نسخ “دمويّة” عديدة بعد إضافة “الشام” الى إسم “الدولة الإسلامية في العراق” يوم 9 نيسان (أبريل) 2013 وبروز ما عرف إعلامياً بـ “داعش”.

وبلغ عدد شيوخ العشائر المقتولين في محافظة نينوى منذ ذلك التاريخ ستة عشر شيخ عشيرة ضمن قائمة تضم أربعاً وعشرين شيخاً (*)، جرت تصفيتهم منذ تشكيله “الدولة الإسلامية” في تشرين أول (أكتوبر) 2006.

الشقيق الناجي محمود البدراني، ذكر أن تنظيم “داعش” حصل خلال سنة 2012 وبنحو سرّي على مبايعة بعض الشيوخ، ولاحق بعدها كل من رفض المبايعة أو من بقي على صلة مع حكومة المركز، ومن بينهم الشيخ برزان.

يقول : “كان لدى داعش تحضيرات للسيطرة على الموصل بهجوم مباغت في حزيران (يونيو) سنة 2013، وقد رفض الشيخ بدران وشيوخ آخرون فاعلون التواصل مع مبعوثي التنظيم، فأرجئ الهجوم سنة كاملة حتى تمت تصفيتهم الواحد تلو الآخر”.

خلال تلك السنة شنّ “داعش” أكبر حملة اغتيالات شهدتها الموصل، شملت إضافة الى شيوخ عشائر قائمةً طويلة من الصحفيين والمحامين والأطباء والموظفين والتجار ومنتسبي الجيش والشرطة ومرشحين للانتخابات، فكان “عقاباً جماعياً” صاحبته مهرجانات تفجير سيارات مفخخة وعبوات ناسفة حولت المدينة إلى ساحة حرب وعطلت معظم مناحي الحياة فيها.

أحد ضحايا هذه الحملة كان سعد زغلول، وهو شاعر عراقي، ومتحدث باسم محافظ نينوى أثيل النجيفي، أمطره مسلّحان بوابل من الرصاص وهو بداخل سيارته متوجها صباح الثلاثاء الثامن من تشرين اول (أكتوبر) 2013 الى عمله في مبنى المحافظة. الهمس بشأن تورط التنظيم في قتله لم يعلو إلا بعد أسابيع قليلة فقط، عندما قتل واثق الغضنفري الذي خلف زغلول في منصبه، وكان أيضاً إعلاميّاً معروفاً يقدم برامج تلفزيونية تحظى بنسب مشاهدة واسعة.

سعد ثابت، كان صديقاً للرجلين وعمل في مكتبهما، يتذكر جيداً تلك الفترة ويقول: “مجالس العزاء لم تكن تتوقف، كنا نتنقل يومياً من مجلسٍ إلى آخر ونسأل أنفسنا على من سيأتي الدور في المرة القادمة، وكان من الواضح أن الإرهابيين يسدّدون فوهاتهم على الأسماء المعروفة في المدينة”.

 

الهجوم أرجئ عاماً كاملاً

هكذا جرى التحضير لاقتحام ثاني أكبر مدن العراق من حيث عدد السكان، عبر قتل أبرز الشخصيات فيها حضوراً وتأثيراً. وكان الموعد المرتقب للهجوم في حزيران (يونيو) 2013، أي قبل عام كاملٍ من السيطرة الفعلية عليها.

لكن استكمال قائمة الأهداف أرجأ الخطة قليلاً، وهو ما يؤكده أحد عناصر التنظيم المعروفين في الموصل، بعد التواصل معه عبر “تويتر”.

يشير “أبو قتادة”، وهو إسم حركي يستخدمه الرجل، إلى تداعيات فض القوات الأمنية لاعتصامات الحويجة بالقوّة في نيسان (أبريل) 2013، عندما قرر قادة الاعتصامات في الموصل وقتها وغالبيتهم شيوخ ووجهاء عشائر، إنهاء اعتصامهم وإعلان “النفير العام” ضد الدولة.

في غضون ذلك كان “داعش” يعد العدة لـ “فتح الموصل” في حزيران (يونيو) من العام نفسه، لكن الخشية من الاصطدام بفصائل دينية وعشائرية، كالنقشبندية والمجلس العسكري لعشائر نينوى، والتي كانت تتحدث عن ثورة عشائرية مندلعة، دفعت قادة التنظيم الى التريث في خططهم يقول: “لم نرد أن يحسب أيّ نصرٍ نحققه لزعماء تلك الفصائل والعشائر”.

يواصل أبو قتادة مستدركاً أن عشائر من نينوى منحت البيعة قبل سنتين على الأقل من السيطرة على الموصل، وأن البيعة التي التزموا بها اقتضت دعمهم لما سماه “بناء دولة الخلافة بالأرواح والأموال”، والرجوع عن ذلك يعني “الردة” وعقوبتها الموت ومصادرة الأموال، “أما بقية العشائر التي لم تبايعنا فتطلّبت توبتها وقتاً”.

 

بيعات تحت التهديد

الشيخ مصطفى العبيدي من مشايخ قبيلة عبيد في قضاء الحضر (60 كيلومتراً جنوبي الموصل) هو الآخر يؤكد أن “داعش لم يهاجم الموصل للسيطرة عليها إلا بعد أن استكمل الحصول على بيعة العشائر المحيطة بالمدينة وفرض العقاب على الرافضين، وقد أجبر معظمها وبالقوة على المبايعة”.

ويوضح الشيخ الفارّ إلى تركيا بعد سقوط المدينة، أن البيعة كانت أول الأمر تتم ومنذ سنة 2006 على نحو فردي وسرّي للغاية لأفراد عشيرة أو شيخ أو وجه عشائري واستمرت بوتيرة متصاعدة إلى العام 2013، موضحاً أن “الطابع القبلي للبيعات سببه أن جميع المناطق المحيطة بمدينة الموصل تقطنها قبائل”.

بيعات إجبارية وأخرى طوعية متلاحقة لم تستطع منعها قوات الأمن العراقية التي كانت تكتظ بها شوارع المدينة وما يحيطها من بلدات منذ العاشر من أيار (مايو) 2008 عند تشكيل قيادة عمليات نينوى المرتبطة برئيس الحكومة مباشرة، إلى أن وقع الانهيار الكبير في نهاية الأمر، فسارعت العشائر إلى الإعلان عن موقفها صراحةً.

 

شيوخ “مزيفون” وآخرون “أصلاء”

الشيخ رفعت الورشان، وهو من شيوخ عشيرة الحديديين، يعلّق باقتضاب شديد على مشاركة افراد من قبيلته في مقطع فيديو “تجديد البيعة”، قائلا إن “العشيرة في نينوى ضحية وقليل من شيوخها متورط طوعاً في حين أن الغالبية مجبرة على الرضوخ”. الورشان رفض تقديم المزيد من الإيضاحات، يقول “أبناء عمومتي “أسرى” لدى التنظيم سيدفعون ثمن كل كلمة أقولها”.

عنصر الإجبار هذا يؤكده صحفي سابق مقيم في الموصل ينتمي إلى إحدى القبائل البارزة. طلب حجب اسمه، تمكن من مغادرة الموصل إلى أربيل منتصف 2015 تاركاً عائلته هناك، أن “اجتماع الشيوخ الثلاثين جرى تحديداً في 23 آذار (مارس)، وكان في قاعة المهندسين شرقي مدينة الموصل، وقد استغرق إعداد الشريط المصوّر للعرض أسبوعا كاملاً من التحضيرات”.

بعض الأشخاص الذين ظهروا في الشريط كما يكشف الصحفي “ليسوا بشيوخ أصلاء” ولا تعترف بهم العشائر التي ينتمون إليها شيوخاً. ويضرب أمثلة على ذلك، “فالشيخ محمد عبد السلام ظهر جالساً في الصف الثالث على أنه شيخ عشيرة عبادة في حين أن شيخ عبادة الأصلي هو براق الكعود كما هو معروف. والأمر نفسه ينطبق على رجلٍ من الحديديين ادعى أنه شيخ العشيرة في حين غاب الشيخ الأصلي أحمد الورشان، وكذلك بنو الحمدان الذين غاب رؤسائهم آل الداوود، وقبيلة الجبور التي ظهر أحد أبنائها وهو معروف بقربه من نظام صدام حسين سابقاً بديلاً عن آل العبد ربه رؤساء القبيلة في نينوى، والأمر ينطبق أيضاً على شيوخ الراشد”.

ويتحدث، عن نوعين من الشيوخ “المزوّرين”، استخدمهم “داعش” إعلامياً، الأول ويطلق عليهم “شيوخ الدواسة” أو “الولائم” أي الذين يدعون الصفة لاستغلالها في حضور الولائم والمناسبات السياسية والحصول على المناصب. أما النوع الثاني فهم من بيوتات مشايخ فعلاً، مثل صفوك الحنش وهو من بيت رئاسة قبيلة طي، وعمر جمعة الدوار ابن شيخ البكارة، وشخصيات أخرى تمثل افخاذا (فرع من العشيرة)، ظهروا في فيديو البيعة وتحدثوا علناً، لكن رؤساء القبيلة غابوا عن الاجتماع.

بل إن بعض الحاضرين، بحسب الصحفي، كانوا أصلاً معتقلين لدى “داعش” بسبب علاقتهم السابقة مع القوات الأمنية وجلبوا من السجن ليختاروا التوبة أو القتل. ودليله على ذلك أن المتحدث الداعشي “أبو تبارك” الذي أدار اجتماع عقد البيعة أكد على قضية توبة المشايخ في خطبته، حتى أنه قال موجهاً الحديث إلى أحدهم في الصفوف الخلفية: “أبشر يا شيخ باب التوبة مفتوح!”.

مقطع الفيديو هذا لم يكن الوحيد، فقد تكرر الأمر نفسه مع بيعة أخرى جرت في بادوش (غربي الموصل) في أيار (مايو) الماضي وكان استمرارا للفيديو الأول، ضمت سبع قبائل محلية تسكن المنطقة.

أحد الشيوخ الذين حضروا الاجتماع، تلقى دعوة شفوية من ديوان العشائر لحضور “أمر هام” يقول : “ذهبت الى المكان والموعد المحددين فكان هناك شيوخ ووجهاء من عشائر أخرى. بعد نحو 20 دقيقة من كلام المتحدث إلينا عن ضرورة البراءة من النواب والبرلمانيين والضباط من أبناء عشائرنا وزعوا علينا أوراقاً دسّيناها في جيوبنا”. وتابع الشيخ الذي تحدث عبر حساب وهمي خاص به على موقع “الفايسبوك”: “الورقة سلمت إلينا من ديوان العشائر وكل ما فعلناه أننا قرأناها فقط”، مشيراً إلى أن أحد الذين قرؤوا البراءة لديه إبنان ضابطان في الجيش معتقلان لدى “داعش”.

في اتصال مع النائب عبد الرحمن اللويزي الذي أعلن شيخ عشيرته البراءة منه في هذا الاجتماع قال: “أبناء عشيرتي ذهبوا مرغمين تحت التهديد بالقتل والسجن، مثل أغلب الحاضرين الذين ظهروا في مقطع الفيديو، وقد أبلغني بعضهم بذلك”.

مصادر قبلية كشفت أن الذي رتب الاجتماع الأول ومن ثم الثاني المصغّر شخص يدعى أبو عائشة السلامي، وهو في نهاية عقده الثالث كان يعمل مهرّب سجائر، وقد التحق بالتنظيم سنة 2009 إثر مقتل شقيقيه على يد القوات الأميركية، ليصبح بعد سيطرة التنظيم على الموصل المسؤول عن ملف العشائر. وتتابع المصادر أن السلامي كان يجري اتصالات متواصلة مع شخصيات عشائرية، بالاستعانة بالوثائق التي كانت موجودة في مديرية العشائر في ديوان محافظة نينوى، وهو من يشرف شخصياً على ترتيب تفاصيل الفيديوهات المنشورة.

 

وجهان للعلاقة بين العشائر و”داعش”

نينوى مهد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” وغيره من التنظيمات المسلّحة، ثاني أكبر محافظة في العراق سكانياً (نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة بموجب إحصائيات سنة 2009)، لكنها في الوقت نفسه ثاني أكبر حاضنة قبلية بعد محافظة الأنبار المجاورة، تعيش فيها العديد من العشائر وفروع من عشائر كبيرة ممتدة في انحاء العراق، موزعة على مختلف الأقضية والنواحي والقرى، غالبيتها العظمى عربية سنيّة (يمكن إحصاء أكثر من سبعين قبيلة كبيرة) ولاسيما في المناطق الغربية والجنوبية، تتداخل معها قبائل تركمانية من جهة الغرب، وكردية شمالاً وشرقاً.

مع السيطرة المباغتة لـ “داعش” على نينوى ظهر وجهان لعلاقته مع العشائر كما يكشف الشيخ جلال الزيباري رئيس إتحاد عشائر نينوى، أحدهما يشده العصب الطائفي، والآخر -وهو الأقل ظهوراً والأكثر تأثيراً على حد وصفه- كان بملامح اقتصادية صرفة.

فقد استثمر التنظيم الجانب الطائفي للتحشيد له، بوجود جيش من الخطباء شكله في حوالي 2000 جامع ومسجد في مدينة الموصل ومحيطها، معظمهم من المحاربين الذين تعرّضوا لإصابات، أو الدعاة غير العراقيين، فضلاً عن أئمة لم يكن لديهم خيار سوى الرضوخ. وعلى هذا الأساس سارع إلى ضخ دعايةٍ موجّهة ضد مطامع “الحكومة الصفوية” وقوات البيشمركة في إقليم كردستان.

أحد مستقبلي هذه الدعاية كان صالح حسين (54 عاماً)، الذي يقيم حالياً مع زوجته وأولاده الثلاثة في حيّ عين كاوا في أربيل. كان صالح قد فر من من القيّارة (جنوب الموصل) بعد أن حاصرته ضغوط إمام الجامع حتى يلتحق ابنه البكر أسعد بمعسكر للتدريب يقع في شمال المدينة حيث قصور صدام. يقول مستذكراً عشرين يوماً اختفت فيها العائلة عن الأنظار: “إنهم يغسلون أدمغة الشباب، يقولون لهم أنتم سنّة ونحن سنّة. ولولا قريب لي يعمل معهم، سهّل خروجنا، لكان أسعد الآن قد فجر نفسه في مكان ما”.

دوافع الشاب أسعد للانضمام للتنظيم لم يكن يحركها المشترك المذهبيّ فقط، ولا حتى العداء للحكومة المركزية، فهذان يخفيان وراءهما شبكة من المصالح الاقتصادية المتبادلة في مختلف المجالات.

وهو ما يكشفه الشيخ مليح الزوبعي، عضو في مجلس محافظة نينوى، مبينا أن موارد كبيرة وثابتة قوّت من شوكة “داعش” كانت تأتيه من علاقته الوثيقة مع بعض العشائر، في وقت خلق اقتحام الموصل والبلدات المحيطة بها فرص عمل لآلاف العاطلين.

فالمنتمين للتنظيم، ممن يؤدون أعمال غير قتالية يتقاضون رواتب تبدأ بـ 200 دولار أمريكي صعودا، وهو مبلغ يكفي لسد احتياجات عائلة مكونة من خمسة أشخاص، اما المقاتلون فيحصلون على ما بين 300 الى 500 دولار مع حصص في الغنائم. وهو ما دفع العديد من العشائر الى تصدير المقاتلين للتنظيم.

 

حواضن عشائرية مستقرة

يؤكد عضو مجلس النواب العراقي الممثل عن الشبك، سالم محمد شبك، ان هناك تورط من بعض العشائر في التركيبة الادارية والقتالية لـ “داعش”، مستدلاً على ذلك بعدم وجود أي مقاومة لاحتلال أجزاء واسعة من نينوى، خصوصاً في شقها الجنوبي حيث الكثافة القبلية، على رغم من مرور أكثر 15 شهراً على سقوط المدينة.

وهو ما يعتقده أيضاً الشيخ جلال الزيباري، الذي يقول بأن الفصائل المسلحة اتخذت من المناطق العشائرية غربي وجنوبي نينوى حواضن لها منذ 2003، وقام تنظيم “الدولة الإسلامية” بذات الأمر بعد تأسيسه في 2006 ولغاية الآن.

وتشير مصادر من تلك المناطق، إلى أن جميع الفصائل المسلحة بما فيها “داعش” ركزت في التجنيد على أشخاص معينين من كل عشيرة، حولتهم إلى دعاة وقادة عسكريين وأدوات ضغط على العشيرة برمتها. وأكثر العناصر سطوة داخل التنظيم يصبح كذلك داخل عشيرته، ليختفي شيئاً فشيئاً دور المشايخ “الأصلاء”.

 

ادماج في هيكلية الدولة

مستغلاً محركات “الطائفة” و”المال” و”العقوبات” نجح “داعش” ومنذ إعلان الموصل مركزاً لخلافته منتصف العام 2014 في إدماج مجموعات من ابناء العشائر بالتشكيلات الإدارية التي أنشأها والتي تعرف “بالدواوين”.

بحسب مصادر من شيوخ قبائل أو أفخاذ، فإن “داعش” وزع المهمات في “الدواوين” بين افراد ينتمون الى قبائل محددة بغرض منح انطباع عام بوجود تحالفات عشائرية ثابتة لديه.

فعلى الصعيد القضائي، حُسمت مناصب “ديوان القضاء” في معظم مناطق نينوى لأفراد من عشيرة البو متيوت. بينما يكثر تواجد قبيلة الجبور في “ديوان المظالم” الأعلى سلطة، ويعد مزيجاً من هيئة تشريعية وقضائية ويعادل محاكم التمييز، وهو يفصل ايضاً في النزاعات التي تدور بين القبائل نفسها. وبحسب المصادر، فإن “معظم القضاة في ديوان المظالم ينتمون إلى ناحية حمام العليل جنوب الموصل”.

أما في ديوان “الحسبة”، وهي الجهة المكلفة بمراقبة تنفيذ تعليمات الخلافة وفرض عقوبات ميدانية على المخالفين (أقرب لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فتميل كفة أبناء من عشيرة البو حمد، بينما يبقى الكعب الأعلى في العديد المجالات التنفيذية الأخرى للعشائر التركمانية، وفق عبد الحميد الفايز، أحد شيوخ البوحمد المطلوبين من التنظيم.

كما عهد التنظيم بمسؤولية جباية الأتاوات من الأطباء والصيادلة والتجار وأصحاب المهن إلى عناصر من عشيرة السبعاويين.

مصادر عشائرية نافذة في التنظيم، تلفت إلى أن “داعش” أناط مسؤولية الجهات القضائية بأفراد من قبائل عربية عراقية حصراً، والعكس بالنسبة لـ “بيت مال المسلمين” الذي يعادل البنك المركزي إذ يتولاه أجانب من جنسيات مختلفة.

 

“ديربي” عشائري

لا تُمكن، تركيبة “داعش” الاستخبارية والتكتم الكبير الذي يحيط بشخصياته، من تنظيم إحصاء دقيق للقيادات العليا ذات الأصول العشائرية، إلا في نطاق أسماء محدودة جداً. إذ لا يتم الكشف عن أسماء تلك القيادات في معظم الأحيان إلا بعد مقتلهم أو اعتقالهم.

من خلال مسح لبيانات التنظيم، فأن قبيلتي الجبور والبوحمدان تتنافسان على المناصب القيادية في البناء الهيكلي لتنظيم “الدولة الإسلامية” في نينوى، وبشكل خاص مناصب الادارة والحرب. وهو ذات التنافس الذي كان قائما بين العشيرتين على المناصب الأمنية والادارية الحكومية منذ 2005، فمنصب قائد شرطة نينوى ظل يدور بين الجبور والحمدان، ولم يخرج من يديهما أبداً، كما تبادلت العشيرتان تولي منصب رئاسة مجلس نينوى.

هذا “الديربي العشائري” يعود الى اصول تاريخية ابعد من تنظيم “داعش” حيث كان لافراد القبيلتين وجود على صعيد الوظائف الامنية والادارية في المدينة وفي الدولة العراقية.

 

بانتظار الطرف القويّ

لكن وجود تركيبة عشائرية لـ “داعش” يعني من جهة اخرى ان التنظيم نفسه حاول التفاعل مع التركيبة العشائرية القائمة في المدينة اساساً، للحفاظ على استقرار حكمه، وهو الامر نفسه الذي لجأت اليه حكومات مابعد العام 2003 وقبلها والفرق دائماً كان في استقطاب اطراف من التشكيلة العشائرية نفسها وليس تغيير التوازن العشائري لصالح عشيرة على حساب اخرى، وهو الامر الذي اعتمده “داعش” ايضاً باستقطاب شيوخ من داخل التوازن العشائري نفسه.

يلخص شيخ من قبيلة الجبور من منطقة حمام العليل الوضع القائم في نينوى بالقول: “العشائر هنا في كل موقع في التنظيم بدءاً من الحسبة والقضاء وصولاً إلى تجارة العقارات المصادرة والنفط المنتج والمهرّب عبر شبكات واسعة من الطرق، أما رئيس العشيرة فإرهابيّ بنظر الحكومة، أو لاجيء هارب من نينوى، أو قتيل على أيدي عناصر داعش”.

يؤكد الشيخ، أن وجهاء من جميع العشائر يشكلون اليوم “قوام دولة الخلافة الإسلامية المعلنة ويستحوذون على السلطة الفعلية مقابل ضعف كبير لمكانة شيخ العشيرة الأصلي التي أصبحت رمزية لا أكثر”.

هذه الرمزية بالذات هي التي دفعت التنظيم الى إظهار الشيوخ الثلاثين في مقطع فيديو “تجديد البيعة”، وهو أوصل بذلك، بحسب الشيخ “رسالة واضحة بالصوت والصورة إلى بغداد والعالم مفادها أن تجربة الصحوات في العام 2006 لن تتكرر ثانيةً وأن أي تحرك حربي سيكون ضد عشائر نينوى جميعاً وليس ضده فقط”.

بيد أن رهانات “الخليفة” أبي بكر البغدادي على رسالته هذه ليست بالضرورة رابحة في ضوء معلومات عن بوادر تذمّر في صفوف العشائر.

يكشف اطلع الشيخ جلال الزيباري رئيس اتحاد عشائر نينوى عن رسائل نصية يتبادلها مع شيخي عشيرتين كبيرتين ممن ظهروا في التسجيل الأول، يعربان فيها عن نيتهما الانشقاق متى سنحت لهما فرصة الخروج من الموصل، طالبين المساعدة في هذا الصدد.

كما أن الشيخ محمود السورجي، الناطق باسم قوات “الحشد الوطني” في نينوى، وهي قوات عشائرية متمركزة في معسكر ضمن حدود إقليم كردستان على مشارف الموصل، قال هو الآخر أن أكثر من خمسة أشخاص ظهروا في مقطع الفيديو هذا، اتصلوا به، وقالوا بأنهم مجبرون على ذلك، وبأنهم مستعدون لتشجيع أتباعهم على الإنضمام إلى المعسكر، لكن بشرط عدم الإعلان عن أسمائهم.

عضو مجلس النواب العراقي عن محافظة نينوى انتصار الجبوري تقر بأن العشائر سلّمت مفاتيح المدينة إلى المجموعات الإرهابية، لكنها تعتقد أن تحولاً كبيراً طرأ بعد الوحشية التي أظهرها التنظيم.

الجبوري ترى أن أبناء العشائر “عادوا الآن إلى رشدهم” وهم مستعدون، اذا دعمتهم الحكومة “لإحداث ثورة تطرد داعش إلى الأبد”. وتضيف “لدى كل عشيرة اليوم ثارات لا تنتهي مع داعش”، خصوصاً بعد إقدام الأخير خلال شهر آب (أغسطس) 2015 وحده على إعدام أكثر من ثلاثة آلاف شخص غالبيتهم الساحقة شخصيات تمثّل مختلف عشائر نينوى من مرشحين سابقين للانتخابات المحلية والعراقية وصحفيين ومحامين وأطباء ومنتسبين للجيش العراقي.

مثلها، يشترط الشيخ محمود السورجي، أن تمد الحكومة العراقية والتحالف الدولية مقاتلي الحشد بالسلاح والعتاد، وإلا فإن الوضع سيبقى على حاله.

ويلفت السورجي الى أن 4920 مقاتلاً تخرجوا من المعسكر(معظمهم من قبيلتي الجبور وشمر)، كاشفا عن تلقيه 25 ألف طلب انضمام جديد من أبناء العشائر “لكن الطلبات غير مجابة بسبب عدم توفر مستلزمات التسليح والتدريب”. ويتابع “العشائر مستعدة للقتال، لكن التحالف الدولي والحكومة العراقية خذلانا”.

ويرى مسؤول أمني رفيع في نينوى على أن أي مقاربة للتخلص من “داعش” تستثني العشائر سيكون مصيرها الفشل، خصوصاً في جنوب وغرب المحافظة. لكنه في ذات الوقت ينبه الى ان مشروع التحرير يجب أن لا يعتمد على القبائل فقط بسبب الطبيعة الاستخبارية للتنظيم التي ستمنعها من التحرك أولاً.

ويشدد المسؤول الأمني على ضرورة أن تكون الضربة الأولى بيد “طرف قوي آخر” وأن تلعب العشائر دوراً “مسانداً و مكمّلاً”.

لكن ذلك الطرف القوي مازال غائبا، والعشائر ما تزال خائفة من سطوة التنظيم من جهة، وانتقام المليشيات والجيش الحكومي المتهم بالطائفية من جهة ثانية، كما يقول المراقب للأحداث جليل ابراهيم، ويضيف “كما ان العشرات من الشخصيات العشائرية هم اليوم رهينة انغماسهم في هرم قيادة التنظيم وشبكة علاقاته التجارية”.

وينبه ابراهيم “مالم يتم تفكيك شبكة المصالح تلك، فستكون معارك استعادة نينوى طويلة وباهضة التكلفة بشريا وماديا، وستغرق المحافظة بعدها في ثارات طويلة”.

الوجه الآخر من قوة التنظيم، يكمن في شبكة العلاقات الاقتصادية والمصالح التجارية التي بناها طوال سنوات مع تجار وشيوخ عشائر ومسؤولين اداريين وسياسيين في نينوى، والتي ساهمت ببناء سلطته وقوته الأمنية قبل حزيران 2014، في ظل عجز الحكومة العراقية عن محاسبة المتعاونين مع التنظيم والذين كان يعمل بعضهم علنا.

 

مصالح اقتصادية ترسم حدود الدولة

بين هؤلاء المتعاونين جميل المتيوتي، الذي يتابع في محل صغير ببلدة البعاج غربي نينوى القريبة من الحدود السورية، أعماله التجارية التي شهدت ازدهارا عقب سيطرة “الدولة الاسلامية” على الموصل والبلدات المحيطة بها، حين وجد نفسه بفضل علاقاته مع امراء الدولة واحدا ممن يتم الاعتماد عليهم في توفير الوقود والعجلات المدنية المستخدمة في المهام القتالية.

المهرب الصغير للمواشي والسكائر، أصبح بعد احتلال التنظيم للموصل، يتاجر بكل شيء، من الأغذية الى الأدوية والمعدات الميكانيكية والمشتقات النفطية، من خلال عمليات تبادل تمتد على حدود ثلاث دول هي العراق وسوريا وتركيا.

سبق جميل، شقيقه علي، في التجارة مع تنظيم الدولة الاسلامية ومع العديد من الجماعات المسلحة، حيث كان يمدها بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة في فترة امتدت لعامين قبل سيطرة التنظيم على كامل محافظة نينوى.

علي، كان يشتري الأسلحة من الضباط في الوحدات العسكرية العراقية المنتشرة حول الموصل وعلى الحدود العراقية السورية، ويبيعها للعديد من الجماعات المسلحة في العراق وسورية بما فيها بعض اطراف المعارضة السورية، قبل ان يتحول مع سيطرة “داعش” على نينوى الى تجارة السيارات وغنائم الحرب في منطقتي سنجار وتلعفر.

طوال سنوات في المنطقة الصحراوية الممتدة على الحدود العراقية السورية، انخرط ابناء العشائر، في تجارة واسعة ومعقدة عبر الحدود الدولية، بما فيها عمليات تهريب، شكلت عصب الحياة للمنطقة. يقول قاسم حسو، وهو ايزيدي من سنجار عمل في تجارة السيارات وقطع غيارها والاطارات “أبناء بعض العشائر كانوا يتاجرون بكل شيء، وقود واسلحة وسكائر واغذية.. منذ سنوات يعيشون على تلك التجار ينقلون البضائع المسموحة عبر معبر ربيعة، وينقلون الممنوعات عبر الحدود بالاتفاق مع ضباط من عشائرهم مسؤولون عن أمن الحدود”.

يضيف حسو “بعد سيطرة التنظيم على سنجار، اصبح أبناء بعض عشائر المنطقة اكثر قوة مع احتضانهم للتنظيم.. نهبوا كل ما سُمح لهم في المدينة، استولوا على محتويات المحال التجارية، وعلى مئات السيارات التي تركت على مداخل جبل سنجار واعتبروها غنائم… كان يتم في المدينة التي افرغت من سكانها الايزيديين عرض محتويات زقاق كامل للبيع فيما يشبه المزاد”.

“لم يقتصر دور وجهاء بعض عشائر المنطقة الموالين للتنظيم على توفير المقاتلين وتولي المهام الادارية، بل صاروا وبدعم من التنظيم جزءا من الماكنة الاقتصادية الاساسية لادامة التنظيم” يلفت حسو، ويستدرك “بالمقابل بعض التجار الكرد، كما العديد من شيوخ العشائر العربية، الذين رفضوا سياسات التنظيم ولجؤا الى كردستان، او كانوا بتعاون مع الحكومات العراقية السابقة، خسروا كل شيء.. اصبحوا اليوم خارج الحلقة الاقتصادية”.

 

استغلال البطالة

يتفق شيوخ وأبناء عشائر ، أن المصالح التي ربطت بعض ابناء القبيلة بـ “داعش” هي ذاتها التي ربطتها بنظام صدّام حسين الذي سلّمهم بعد انتفاضة 1991 معظم المراكز الأمنية، كما منحهم حرية اكبر في العمل التجاري مع تراجع دور الدولة الى توفير الأساسيات.

عندما سقط نظام البعث في نيسان 2003، أصدر الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر قراراً بحل وزارة الدفاع، فوجد عشرات الآلاف من أبناء العشائر أنفسهم ضمن جيش بطالة، تلقفته الفصائل الدينية الصاعدة وخاضت به حرب شوارع طاحنة، قبل ان ينتهي الحكم ليد “داعش”. هؤلاء لا يشكلون القوة القتالية للتنظيم فقط، بل قوته الاقتصادية بعد ان أوكلت اليهم ادارات قطاعات تجارية وانتاجية مهمة.

في الفترة الممتدة بين 2005 -2014 انخرط جيش العاطلين بسهولة في صفوف الجماعات المسلحة، لينفذ عمليات اغتيال وتفجيرات مؤثرة وأخرى لاثارة الفوضى مقابل مبالغ مالية.

“الحاجة المادية هي التي دفعتني للانضمام إلى الدولة الإسلامية” هذا ما قاله معتقل لدى القوات العراقية عندما عُرض على محقق في الفرقة الثانية للجيش العراقي في الأيام الأخيرة من عام 2013 بعد اتهامه بقتل الصحفية نورس النعيمي. كان هذا الجزء الأكثر صراحة في اعترافاته التي طعمت ببعض المبالغات.

قال وهو يقاوم آلاماً في أنحاء متفرقة من جسده جراء التعذيب: “قتلتها مقابل 50 ألف دينار، وأنا لا أعرفها ولا أعرف ما هو عملها… هم يبلغونني عن طريق أحد الأشخاص بالاسم والعنوان وأنا أنفذ، وأحياناً لا أحصل على أجرتي في وقتها”.

يشير الشيخ مليح الزوبعي، عضو في مجلس محافظة نينوى، إلى أن تنظيم “القاعدة” الذي تمظهر في العراق لاحقاً باسم “دولة العراق الاسلامية” قبل ان يتحول الى “الدولة الاسلامية في العراق والشام” ويغير العنوان بعد احتلال الموصل الى “الدولة الاسلامية” استثمر البطالة المتفشية في صفوف الشباب، فصارت له جيوب وحواضن في داخل المدن والقرى، وتحولت المناطق العشائرية التي تصحرت ودفنت قراها في الرمال إلى معسكرات تدريب ومخازن للأسلحة. “ساعده في ذلك حالة العداء المستشرية إزاء المركز بسبب التضييق على الأهالي والاعتقالات العشوائية وسياسات التمييز الطائفي”.

ويؤكد الشيخ الزوبعي أن موارد كبيرة وثابتة ساهمت في تقوية شوكة “داعش” كانت تأتي من علاقته التجارية الوثيقة مع بعض العشائر. في المقابل كان اقتحامه لنينوى خبراً ساراً للباحثين عن فرص عمل، خصوصاً بعد موجة التصحر في العقد الأخير، التي قضت على الزراعة ومناطق الرعي جنوبي وغربي نينوى حيث التواجد الكثيف لأبناء العشائر.

دفعت تلك الرواتب، العديد من ابناء عشائر البومتيوت والحديديين والبوبدران والبوحمد والزبيدات والحمدون والجبور (ناحيتي الشورة وحمام العليل جنوبي الموصل) والعشائر التركمانية، الى تصدير مقاتلين لـ “داعش”.

 

ديوان الجباية

بعد إعلان الموصل مركزاً للخلافة في منتصف 2014 لم يجد “داعش” مغبّة في إدماج الحلفاء السابقين في التشكيلات الإدارية التي أنشأها حديثاً، أو ما يعرف “بالدواوين”. وبحسب مصادر من شيوخ قبائل أو أفخاذ بعضها مقرب جداً من هذه التشكيلات، فإن “داعش” وزع المهمات في “الدواوين” بين قبائل محددة.

هاشم أحمد (48 عاماً) وهو رائد في الشرطة المحلية كان قد أشرف على العديد من التحقيقات مع عناصر مسلّحة، يعزو تكليف افراد من عشيرة السبعاويين بجباية الاتاوات لتنظيم “القاعدة” منذ 2004 ومن ثم “داعش”، إلى التواجد الكثيف لأفرادها في مناطق جنوب الموصل وفي الأحياء السكنية في الشق الجنوبي من المدينة ذاتها وعلاقة العديد من أبنائها الوثيقة مع نظام صدام حسين سابقاً”.

لكنه يستدرك أن “هذا لا يعني تورط كافة أبناء العشيرة، فحالياً في معسكر تحرير نينوى فوج كبير من أبناء العشيرة يقاتل “داعش” في جنوب المدينة يعرف بفوج السبعاويين، وهو بقيادة فرج السبعاوي”.

وقدرت مصادر أمنية في نينوى قبل 2014 واردات “داعش” الشهرية من الإتاوات بـ 5 مليون دولار أميركي، كان يدفعها بنحو منتظم التجار وأصحاب الصاغة والشركات الأهلية والأطباء والصيادلة ومكاتب النقل والمعامل والمصانع والورش وسواها، فيما تحتسب الدوائر الحكومية ممثلة بقسم العقود في محافظة نينوى نسباً ضمن المبالغ المسددة للمقاولين تذهب الى “الدولة الاسلامية”.

وأعلن ذلك صراحة اللواء مهدي الغراوي قائد الفرقة الثالثة شرطة اتحادية (أصبح قبل سقوط الموصل بأيام قائداً لعمليات نينوى) وقال إن “الكثير من شرائح المجتمع تدفع أتاوات للتنظيم، وحتى بعض مدراء الدوائر الحكومية متورطون في ذلك ايضاً”.

مصادر عشائرية نافذة في الموصل، قالت بدورها ان التنظيم أناط مسؤولية الجهات القضائية بأفراد من قبائل عربية عراقية حصراً، والعكس بالنسبة لـ “بيت مال المسلمين” الذي يعادل البنك المركزي إذ يتولاه أجانب من جنسيات مختلفة.

وتوضح تلك المصادر أن “العشائر العراقية خرجت تماما من العمل في بيت المال بعد استهدافه بغارة للتحالف نهاية العام المنصرم، وكان وقتها يشغل عقاراً في منطقة نركال السكنية في الجانب الأيسر لمدينة الموصل”.

 

خريطة اقتصادية داعشية

من خلال تتبع العشائر التي منحت التنظيم البيعة، أو التي قتل شيوخها واستهدف أبناؤها باستمرار لضمان ولاء بقية الشيوخ في تلك العشائر، يتضح أن مناطق وجود غالبيتها العظمى تشكل خارطة “داعش” الاقتصادية، ومصادر تمويله الرئيسية.

فثقل خلافته التي أعلنها ترتكز فيها، وحدودها ترسم مصافٍ وحقول نفط وطرق نقل ومراكز تجارية.

تبدأ رحلة التتبع هذه من ناحية ربيعة على الحدود مع سوريا (120 كيلومتراً غربي الموصل)، حيث تسكن عشيرة شمر. وعلى الرغم من عدم وجود علاقة ودّ علنية بين داعش وهذه العشيرة، إلا أن التنظيم سيطر قبل احتلاله الموصل وبنحو استخباري على حركة البضائع الواردة من خلال هذا المنفذ الحدودي، وشكل ذلك مورداً ثابتاً له من خلال فرض رسوم تتراوح بين 300 و600 دولار أمريكي على كل شاحنة تدخل من هناك، بحسب نوع الحمولة.

أحمد حازم، كان ملازماً أول في الجيش العراقي في عهد صدام حسين، وعمل لاحقاً مع عدة فصائل مسلحة قبل أن يعتقله الجيش الأميركي ويطلق سراحه منتصف سنة 2010، ثم التحق بالشرطة المحلية، واعتقله التنظيم في مطلع شهر تموز (يوليو) 2014 وأطلق سراحه أيضاً بعد إعلانه التوبة.

في اتصال هاتفي مع حازم قبل مقتله (أُعدِمه تنظيم داعش في 27 تموز الماضي مع 191 منتسباً للأجهزة الأمنية وموظفاً في مكتب مفوضية الانتخابات في نينوى) ذكر أن التنظيم زرع في السنوات السابقة على طول الطريق الدولي الهابط من المنفذ مخترقاً ربيعة فالعياضية ثم حميدات وصولاً الى “بوابة الشام” حيث المدخل الغربي للموصل، زرع عيوناً ترصد حركة الشاحنات التجارية وتنصب كمائن للعجلات العسكرية.

وأردف أن “العناصر المقاتلة هي نفسها اليوم من يسيطر على المكان وهم أبناء المنطقة من عشائر الجحيش والبومتيوت والدولة واللويزيين والبوحمدان واللهيب والجبور والمعامرة والبوسلامة والجرجرية وبعض العشائر التركمانية”.

بمتابعة مسار الخارطة “الداعشية”، وفي قضاء تلعفر الذي كان يضم مصفى الكسك النفطي (تم تفكيكه ونقل أجزائه إلى سورية) حصل التنظيم على عماده من المقاتلين من عشائر تركمانية، وأوكلت لهم مهمة قيادة “غزوة سنجار” في آب (أغسطس) 2014، بحسب تأكيدات الرائد في الشرطة المحلية هاشم أحمد.

وعند جنوب غرب نينوى تقع بعاج، وهي جزء من البادية ذات الحدود المفتوحة مع سوريا ومحافظة الرمادي تشكل عشيرة البو حمدان حوالي 80 بالمئة من أبناء المنطقة، تليها عشائر شمر والزبيدات والعكيدات والصكور وعيال الشيخ والجبور، وهي ممر تاريخي لتهريب النفط والأسلحة والمقاتلين، وحاضنة اساسية لمعسكراته.

عبر محادثة على موقع تويتر، يقول فاروق الزبيدي (33 عاما) الذي كان من أشهر المهربين في بعاج قبل أن يصبح مقاتلاً في “داعش” ويتقاضى مرتباً قدره 400 ألف دينار (حوالي 330 دولار أمريكي) أن ما يفعله الآن ليس بغريب عن نشاطه الأول، “فحياتي مثل كثيرين من أبناء قريتنا كانت عبارة عن مطاردات مع شرطة الحدود. الفرق إنني كنت أقاتل للحصول على المال، والآن الحمد لله الذي سخر لنا الدولة الاسلامية لأنال أجراً وثواباً على ما أفعل”.

 

النفط بصبغة عشائرية

بالاستمرار في تتبع الخريطة والوصول الى مدينة الموصل ومناطقها الجنوبية، يبرز دور ونفوذ عشيرة البو بدران، التي يتوزع أبناؤها في قرى عدة جنوب الموصل أبرزها “الجرن”، وفي مناطق الساحل الأيمن من مدينة الموصل كمشيرفة وتل الرمان والزنجلي والإصلاح. وتمتاز هذه المناطق بوجود خط سكة حديد، والطريق الذي يعرف بالاستراتيجي، مع الطريق البري الدولي.

ومن أقصى جنوب الموصل يبدأ نفوذ قبيلة الجبور الكبير الممتد على طول 200 كم من نواحي حمام العليل والقيارة والشورى جنوباً، مروراً بقضاء الشرقاط التابع لمحافظة صلاح الدين، وصولاً الى قضاء بيجي حيث أضخم مصافي العراق.

عند الحديث عن النفط والثروة الباطنية يظهر أفراد من قبيلة الجبور بقوة في هذا المشهد بسبب وقوع مكامنه وطرق نقله عبر مناطقهم، وتحديداً في ناحية القيارة حيث واحدٌ من أقدم الحقول التي اكتشفتها شركة تأهيل حقول النفط البريطانية سنة 1927 وتقدر احتياطاته بـ 800 مليون برميل من الخام الثقيل، وفي ناحية حمام العليل حيث تقع مستودعات النفط ويصل إليها أنبوب المشتقات النفطية القادم من مصفى بيجي، وهنالك أيضا معمل الغاز، وأخيراً في ناحية الشورى حيث حقل كبريت المشراق. وبين هذه النواحي الثلاث يمر الطريق الدولي بين الموصل وبغداد.

عن حضور الجبور في هذه المناطق الثلاث يقول عضو في مجلس محافظة نينوى طلب عدم ذكر اسمه أن “بعض افراد عشيرة الجبور استفادوا من “داعش” بسبب تجارة النفط، لكن العشيرة في الوقت نفسه الأكثر عرضة للاستهداف منه بسبب النفط أيضاً (…) هكذا، قتل التنظيم العشرات من شيوخها ومخاتير قراها في جنوب الموصل، الذين أبلغوا عن مسارات تهريب النفط وبيعه من قبل “داعش”.

وبالفعل، وأثناء كتابة هذا التحقيق، أعلن التنظيم عن إعدامه أربعة مخاتير من هذه القبيلة في منطقة حمام العليل بتهمة التعامل مع حكومة بغداد، ليرتفع العدد الى 11 مختاراً قتيلاً من النواحي الثلاث (القيارة والشورة وحمام العليل) خلال هذا العام فقط.

غسان عبد الجبوري، وهو في عقده الثالث يقول بأن أفراداً من عشيرته في حمام العليل (35كم جنوب الموصل) يتولون حماية ونقل النفط ومنتجاته هناك. ويعزو امتهانهم، وحتى هو في وقت من الأوقات، لهذا العمل، إلى البطالة الكبيرة المتفشية منذ سنة 2003، “فلا خيارات أمامنا سوى الانخراط في سوق النفط السوداء، أو ضمن صفوف داعش”.

ويمتد نشاط أبناء هذه القبيلة إلى المنطقة الغربية من مدينة الموصل التي تعج بمعامل تكرير نفط بدائية متنقلة، ينتج الواحد منها حوالي ثلاثين برميلاً كل يوم، بطاقم عمل يزيد عن عشرة أشخاص بإشراف مهندس وبمعدل أجر يومي يبلغ حوالي 25 دولاراً أميركياً، بحسب مصادر من المنطقة، منها زاهد مصطفى، وهو نائب ضابط في الجيش العراقي السابق، يملك مكتباً لبيع النفط في الموصل.

ويقول مصطفى بأن داعش انشأ “ديوان الركاز” (يماثل وزارة النفط والثروات الباطنية) يشرف على انتاج النفط ويقوم بنقل جزء منه الى سورية، وتزويد أكثر من ألفي مولدة كهرباء ديزل أهلية بالنفط الخام في نينوى بسبب شحة الكازويل، وهو ما يؤمن لمواطني الموصل جزء من الكهرباء يومياً. ويؤكد الرجل هو الآخر أن “الجهد البشري الذي يدير هذه الإمبراطورية النفطية، أو حتى الممثل بديوان الركاز، قوامه أفراد من الجبور”.

تلك الماكنة الاقتصادية المرتبطة بالعشائر، هي التي تمكن التنظيم من توفير المشتقات النفطية وبانواع متفاوتة، فسعر البنزين حسب جودته، يتراوح بين 1000 و 1700 دينار للتر الواحد، ويبلغ سعر وقود محركات الديزل حوالي 1000 دينار للتر الواحد، ويتراح سعر عبوة الغاز السائل بين 30-35 ألف دينار.

وقدَّر دانييل غليزر، وهو وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لتمويل الارهاب في مكتب الارهاب والاستخبارات المالية، لوكالة اسوشييتد برس قبل ايام، أن عائدات النفط لتنظيم الدولة الإسلامية تصل الى حوالي 500 مليون دولار سنوياً، استناداً إلى أدلة مقدمة تشير الى أن التنظيم يجني 40 مليون دولار في الشهر الواحد منذ أوائل عام 2015. كما يعتقد أن التنظيم يجني أيضاً مئات الملايين من الدولارات سنوياً من “الضرائب” على الأنشطة التجارية في المناطق التي يسيطر عليها.

كما ان التنظيم يفرض سيطرته في الوقت الحاضر على 11 حقلا نفطيا في العراق وسورية، وينقل النفط المستخرج من هناك بواسطة شاحنات إلى الأسواق السوداء في الأردن وتركيا والعراق.

بهذا الترتيب المناطقي القبلي المذكور أعلاه تتوزع ثروة “داعش”، وبهذا الترتيب أيضاً دخلت قواته الموصل واستمرت في تقدمها الكاسح خلال أيام قليلة فقط لتبلغ قضاء بيجي التابع لصلاح الدين (حوالي 200 كم جنوب الموصل).

وقد أتى على ذكر هذا تقرير نتائج تحقيق اللجنة البرلمانية المكلفة بتقصي حقائق سقوط الموصل ويؤكده كذلك شيوخ عشائر من هذه المناطق، وقادة أمنيون كان لديهم تواجد هناك.

وفي المحصلة، فأن الوجه الاقتصادي للموصل بعد حزيران 2014 والحركة التجارية بمدياتها المختلفة، لم تكن فقط مصدر تمويل لـ”داعش” بل انها ساهمت بابقاء المدن التي ترزخ تحت سيطرة التنظيم وسكانها احياء طوال الشهور السابقة.

ويقول احد المهندسين الذين عملوا في مجال تكرير النفط من الموصل واسمه “احمد” ان ازدهار مصافي النفط المحلية، بالاضافة الى حركة تجارة المشتقات النفطية والسلع عبر سورية وتركيا كان لها دور اساسي في منع كوارث انسانية كان يمكن ان يتعرض لها الاهالي، لكنها في وجه آخر مثلت موارد جيدة للتنظيم ساهمت في ابقاء زخم معاركة ومضاعفة قدراته المالية.

 

العشائر وانقاذ الموصل

من خلال سياسات مرسومة بدقة، حافظ تنظيم “داعش” على البنية العشائرية للموصل ومحيطها الجغرافي، والتي أوجدتها توازنات استمرت لعقود، لكنه استثمر نقاط ضعف التركيبة العشائرية والانقسام المناطقي المستمر في داخلها، وايضاً فرزها بدعم الانظمة السياسية السابقة، زعامات متنازعة على تمثيل العشيرة.

يقول الناشط المدني المهتم بشؤون نينوى، عباس حسين “تلك البيئة العشائرية كانت مثالية للتنظيم، فقد مكنته عبر الترغيب او الترهيب من استقطاب زعمات داخل العشائر في الهيئات التي انشأها لادارة الموصل، كامتداد لتمثيل العشائر في البنى الادارية والامنية والاقتصادية في المدينة على المستوى الرمزي”.

ويلفت حسين الى ان التنظيم نجح في تعزيز نفوذه داخل البنية العشائرية “عبر اقامة شبكات مصالح اقتصادية فرضتها حاجة السكان للبقاء على قيد الحياة، ورغبات بعض شيوخ العشائر في المال والسلطة، وكانت من نتائجها حصول التنظيم على موارد اضافية زادت من قوته”.

فهم “داعش” للقوة التي تمثلها العشائر، ومساعيه للسيطرة عليها وتسخيرها لتعزيز نفوذه، ومنع اي حالات تمرد، تدفعه للرد على كل تحرك حكومي محتمل لكسبها، فقبل أسابيع ومع اختيار ابن عشيرة البوحمد نوفل العاكوب محافظاً لنينوى، جاء رد “داعش” على ذلك سريعاً، فنشر مقطع فيديو يظهر شيخ العشيرة طلال العاكوب وهو يعلن البراءة من المحافظ الجديد و”يجدد” البيعة للدولة الاسلامية.

لمواجهة شبكات المصالح التي بناها تنظيم الدولة الاسلامية، تدعو عضو مجلس النواب العراقي عن محافظة نينوى انتصار الجبوري الى العودة الى تجربة الصحوات “الناجحة” في العام 2006 لكسب ولاء العشائر التي “يتصاعد في صفوفها رفض سياسات داعش”. وطالبت بتوفير الدعم العسكري للراغبين بقتال التنظيم، لاسيما النازحين منهم، وتقول بأنها “متأكدة من أن ذلك سيحفز باقي أبناء العشائر على إحداث ثورة تطرد داعش إلى الأبد”.

لكن المحللة السياسية وجدان نافع، ترى أن معالجة مشكلة التورط العشائري مع “داعش” بالحسابات العسكرية وحدها يمثل “دورانا في حلقة مفرغة”، لن يجد معها الباحثون عن حلم الاستقرار أي ضوء في نهاية النفق. فجميع الأسباب التي أدت إلى تعاون العشائر مع التنظيم المتطرف مازالت برأيها قائمة، “كالاضطهاد الذي يشعر به أبناء السنّة، وغبن الحقوق، وفقدان الحضور على مستوى البلاد، بل وأضيفت إليها أسباب أخرى مع تدمير البنية التحتية في نينوى”.

وتنبه نافع الى ان اي نجاح متوقع للقوات العراقية ومعها التحالف الدولي، في شطب وجود “الدولة الاسلامية” من نينوى، فلن يكون نصرا نهائيا، فسيظهر غيره لا محالة، اذا استمرت الظروف الموضوعية سياسياً واقتصادياً وثقافياً التي ساهمت بولادة “داعش” وتهديده بتغيير خرائط دول المنطقة.

في انتظار التحرك العسكري لاستعادة نينوى، يحصي علي قاسم، وهو مهندس مدني، عدد اقاربه الذين قتلهم التنظيم بعد التشكيك بولائهم “من سمعنا بمقتله يتجاوز التسعة أشخاص، وهناك آخرون مجهولو المصير”.

في ظل شبكة مصالح عشائرية واقتصادية نافذة، وعيون عناصر التنظيم التي تترصد كل المخالفين له، يفضل قاسم الانزواء في غرفة مظلمة بمنزله في حي الزهور وسط الموصل منقطعا عن العالم وعينه على افراد عائلته التي فقدت مصدر دخلها الوحيد المتمثل براتبه “لا نعرف هل سننجو، وكيف سنتدبر امورنا، كل ما نملكه بضع كيلوغرامات من الدقيق والرز.. ملوينا شخص مثلنا ينتظرون الخلاص البعيد”.

زيد، وهو الابن البكر لقاسم، وطالب سابق بكلية الطب بالموصل، يقول وهو يمسح لحيته التي فرض التنظيم اطلاقها “لا احد يريد وقوع معارك تخلف مئات القتلى وتدمر ما بقي من البنى التحتية بالمدينة، لكننا لا نريد تسويات تعيد رجال عشائر وشخصيات ادارية وسياسية تحكمت طوال سنوات بمفاصل السلطة والاقتصاد في المحافظة.. هم جزء اساسي من الخراب الذي نعيشه اليوم، ونتطلع الى محاسبتهم لا تمكينهم من تغيير أثوابهم من جديد”.

 

*****************

* قائمة باسماء شيوخ العشائر الرئيسيين القتلى منذ تشكيل “الدولة الإسلامية” في 2006 ولغاية شهر آب/أغسطس   2015 وهم: الشيخ إدريس شحاذة ناصر رئيس فخذ في عشيرة ألبو حمد، الشيخ صالح الياس ياسين شيخ عشيرة العكيدات، الشيخ فلاح الفرحات شيخ عشيرة الفرحات، الشيخ علي آل جبان شيخ عشيرة آل جبان، الشيخ شحاذة الجزاع شيخ عشيرة البو متيوت، الشيخ رشيد الزيدان أحد شيوخ عشيرة اللهيب، الشيخ عبد الباري اللهيب أحد شيوخ عشيرة اللهيب، الشيخ عبد الكريم اللهيبي أحد شيوخ عشيرة اللهيب ورئيس تجمع عشائر نينوى، الشيخ ابراهيم المرير أحد شيوخ عشيرة اللهيب، الشيخ فوزي محسن عبو الحيالي شيخ عشيرة الحياليين، الشيخ محمود السبعاوي شيخ عشيرة السبعاويين، الشيخ عبد العزيز الطابور أحد شيوخ عشائر الجبور، الشيخ أحمد الرماح شيخ عشيرة الرماح، الشيخ محمد عبيد الحمداني شيخ عشيرة البو حمدان، الشيخ برزان حازم البدراني شيخ عشيرة البو بدران، الشيخ سعيد عباس الجبوري أحد شيوخ عشائر الجبور، الشيخ محمد طاهر العبد ربه شيخ عام قبيلة الجبور، الشيخ خالد الزبيدي أحد شيوخ عشائر الزبيد، الشيخ سبهان القصاب شيخ عشيرة عنزة،  الشيخ سالم يوسف الكيكي شيخ عشيرة الكيكية،  الشيخ أحمد نائف المرير شيخ عشيرة المرير، الشيخ عامر علي الداؤد شيخ عام قبيلة البو حمدان، الشيخ محمد خالد الشرابي شيخ عشيرة الشرابيين، الشيخ ريان العبد ربه الجبوري أحد شيوخ عشائر الجبور، الشيخ رعد العلياني احد شيوخ عشيرة الجحيش.

* قائمة بأسماء العشائر الثلاثين التي حضر أفراد يدّعون تميثلها لبيعة الخليفة في 1/4/2015 وهي: عشيرة ألبو بدران، عشيرة ألبو حمدان، عشيرة طي، عشيرة النعيم، عشيرة العبادة، عشيرة العكيدات، عشيرة الجبور، عشيرة اللهيب، عشيرة الدليم، عشيرة بني ربيعة، عشيرة الحمدون، عشيرة البكارة، عشيرة الجحيش، عشيرة السبعاويينن، عشيرة الشريفات، عشيرة بني عت، عشيرة البو سلامة، عشيرة الجرجرية، عشيرة الراشد، عشيرة اللويزيين، عشيرة الحياليين، عشيرة البو متيوت، عشيرة الصميدع، عشيرة البو حيان، عشيرة الخفاجة، عشيرة الجوالة، عشيرة الجنابيين، عشيرة المعامرة، عشيرة البو عجيل، عشيرة الزبيد.

 

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وتحت اشراف كمي الملحم.

**********

* نشر هذا التحقيق بشكل مختصر وعلى جزئين في صحيفة الحياة بتاريخ 30 اكتوبر 2015

 

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17461}" data-page="1" data-max-pages="1">