تحقيقات استقصائية: بانتظار احياء القطاع الصحي المتهالك في كردستان: الالاف يسلمون ارواحهم للمعاونين الطبيين والحكومة تؤكد استحالة ايقافهم

بانتظار احياء القطاع الصحي المتهالك في كردستان: الالاف يسلمون ارواحهم للمعاونين الطبيين والحكومة تؤكد استحالة ايقافهم

تحقيق: موفق محمد:

جريدة العالم البغداديةادوية

حين يوشك شارع الأطباء المحاذي لقلعة اربيل التاريخية ان يودع آخر مرتاديه في الساعات الأولى من كل مساء، يتزاحم المرضى القادمون من الاحياء المجاورة امام باب الدكانة الصغيرة للمعاون الطبي كاميران محمود، بانتظار دورهم في الدخول الى عالم الاستشفاء الشعبي الذي صار ملجأ لمئات الآلاف من ابناء اقليم كردستان،  رغم كل ما تسبب به من كوارث صحية طوال الاعوام الماضية.ادوية

يحاول (الدكتور) كاميران كما يطلق عليه مرضاه، على الدوام، ان يتيح لمراجعيه تلقي العلاج العاجل الذي لا يتعدى في الغالب حقنة مسكنة او خافضة للحرارة، حبوب للضغط والسكر، او تنظيف جرح نازف وخياطته، لكنه في الحالات الاكثر خطورة يكتفي بنصح مرضاه بمراجعة المستشفى كي لا يتورط في ما لا يحمد عقباه.

غياب البدائل، ارتفاع الاسعار التي يتقاضاها الاطباء واتفاع اسعار الادوية من الصيدليات المجازة، قلة المستشفيات واصرار القائمين على العيادات الطبية الحكومية على اغلاق ابوابها في وقت مبكر، كانت كلها البوابة التي دخلها اكثر من 4 الاف مضمد ومعاون صحي لتعويض الخلل في المنظومة الصحية الكردستانية منذ سنوات.

يقول سالار نامق، عامل البناء الذي خرج راضيا من دكانة كاميران وبيده ثلاث علب من الدواء، “اعاني منذ ايام من آلام في الصدر واحيانا في البطن، وارتفعت حرارتي بشدة قبل ساعتين، فقصدت الدكتور (المعاون الطبي كاميران) وأكد لي اصابتي بالتهام في القصبات، واعطاني كبسولات وحقنة لخفض الحرارة”.

نامق تعود منذ سنوات، مثل معظم سكان منطقته، على مراجعة ذات محل زرق الحقن رغم التحذيرات التي تطلقها جهات صحية متعددة في كردستان، من خطورة اللجوء الى تلك المحال لتلقي العلاج.

لكن التحذيرات لا تلقى من يسمعها هنا، حيث تنعدم المراكز الصحية التي تعمل في ساعات المساء وتغلق معظم العيادات الطبية الخاصة أبوابها مبكرا، خاصة في فصلي الخريف والشتاء التي تشهد تزايدا في الاصابات بالأمراض المعدية.

سبب آخر يجعل من تلك المحال التي تنتشر في معظم الأحياء السكنية، مركزا لاستقطاب المراجعين الذين يتزاحمون على بعضها والى ساعات متأخرة من الليل، رغم المحاذير، وهو التكلفة القليلة مقارنة مع عيادات الأطباء، كما تقول السيدة كولناز محمد “هنا لن تدفع 20 الف دينار لتدخل الى الطبيب الذي سيعطيك ذات الدواء”، كما ستوفر مبلغا اضافيا عن علبة الدواء التي ستشتريها، فالسعر هنا اقل من الصيدليات.

وهو الأمر الذي لا تجد عائشة احمد التي كانت جالسة على مقعد صغير قرب باب المحل، مفرا منه، وهي تنتظر دورها دون ان يثير انتباهها ما يحدث حولها من صخب ونقاشات بين المراجعين، بينما أثار الشحوب الذي بدا على وجهها ونظرتها المتجهة نحو الأرض دون حراك، قلق بعض من كان يقف قريبا منها.

هي ارملة بلا معيل، تجاوزت السبعين من عمرها، وتعاني من عدة امراض بحسب مرافقها وهو شاب عشريني من أقاربها. حين سألها كاتب التحقيق “لم لا تذهبين الى عيادة طبيب”، لم ترد، التمعت عيناها لبرهة بينما بدت ابتسامة صغيرة على شفتيها، لم تتأخر في اخفائها بطرف غطاء رأسها الطويل.

قال مرافقها: “الأطباء والعيادات الخاصة ليست لنا، راتب الرعاية الذي تتقاضاه عمتي يبلغ 100 الف دينار شهريا، هو لا يكفي لشيء، لا للمراجعة ولا لشراء الدواء”.

مع تلك الكلمات ساد الصمت في المكان لبرهة، قبل ان يعلق صاحب المحل المجاور الذي يعمل في تصليح الأجهزة الكهربائية “هناك الآلاف غيرها ممن لا يملكون ثمن الغذاء والدواء، حكومة الاقليم الغنية قررت ان لا فائدة من وجودهم وان الموت افضل لهم، لكنها اختارت ان يموتوا ببطء، هنا الدكتور (المعاون الطبي كاميران) يتابع وضعها ويعطيها العلاج بسعر مخفض”.

تبادل المتواجدون قرب المحل النظرات التي قطعها مجددا مصلح الاجهزة الكهربائية وهو يدفع بجهاز تلفزيون قديم جانبا، ويؤشر بيديه في اشارة الى امكانية الجلوس عليه “قد يكون ما يحصل هنا امرا خاطئا، لكن تأكد، حين نجد طبيبا يخفض سعر التشخيص في عيادته لمن يعرفهم من الأرامل والمعوقين، او حين تجد الحكومة بديلا مناسبا، فلن ترى الحاجة عائشة هنا”.

يناهز عدد ذوي الاحتياجات الخاصة وشبكة الرعاية الاجتماعية في الاقليم الـ 200 الف شخص يتقاضون رواتب متدنية لا تتجاوز الـ 150 الف دينار ويفتقدون لمؤسسات رعاية خاصة. يضاف الى تلك الأرقام مئات الآلاف من المؤنفلين وذوي شهداء الحروب الداخلية والخارجية في العراق ومحدودي الدخل ممن لا يملكون ثمن العلاج في العيادات الخاصة، ولا يملكون الا الوقوف في طوابير المستشفيات الحكومية المحدودة، او مراجعة المحال التي يديرها ذوي المهن الصحية.

مخاطر وتحذيرات

لكن مراجعة ذوي الدخول المتدنية والمتوسطة الذين تغص بهم احياء اربيل الشعبية، الى تلك المحال، مدفوعين بواقعهم المالي او نتيجة عدم وجود المستشفيات الحكومية في مناطقهم “تحمل معها مشاكل صحية كبيرة لآلاف منهم، حين يكون التشخيص خاطئا والدواء رديئا”، يقول الطبيب سه ركوت حسن، منبها الى ان تلك العيادات التي تنافس بقوة عيادات الأطباء، واحدة من ابرز مشاكل القطاع الصحي في الاقليم التي لم يجد المعنيون لها حلا، رغم مخاطرها.

واحدة من تلك المخاطر، ما تعرضت له أم محمد (32 عاما) فقد عاشت “أسوأ ثلاثة أيام في حياتها بلا طعام ولا نوم طبيعي” بعد زرقها بحقنة في احدى تلك المحال اثر معاناتها من ألم في الاسنان، فالمعاون الطبي شخص حالتها بالتهاب حاد في احد الاسنان ولم يتحقق من صلاحية الحقنة ولا ملاءمتها لها، فانتهى بها الامر الى تضخم الالتهاب وتورم الوجه ما تطلب اجراء عملية موضوعية.

كما ان العديد من حالات الوفاة والحالات الطارئة التي سجلت في الاقليم خلال العامين الماضيين، وقعت بعد زرق حقن طبية في تلك المحال.

ويذهب الطبيب هيوا كامل، الى ابعد من ذلك، متهما أصحاب تلك المحال “بارتكاب العديد من الأخطاء الطبية الخطرة”، منبها الى لجوء الكثيرين منهم الى “اعطاء حقن مسكنة لها آثار جانبية لكنها تشعر المريض بالراحة لساعات او ايام”.

مساحة عمل مرعبة

تقدر مصادر بوزارة الصحة اعداد المحال التي يقدم فيها معاونون طبيون او مضمدون العلاج للمرضى، بنحو أربعة آلاف، فيما تنحصر عدد الصيدليات الرسمية بنحو 320 صيدلية فقط يعمل فيها نحو الف صيدلاني وفق احصاءات عام 2012.

هذا الواقع الرقمي، يكشف حجم المساحة التي تتحرك فيها وتغطيها تلك المحال، والذي لا يمكن ان تحدها تحذيرات المتحدث باسم وزارة الصحة خالص قادر لأصحاب تلك المحال باغلاقها في حال قيامها بتشخيص حالات مراجعيهم وصرف الادوية غير المرخصة لهم “هذا ممنوع قانونا ويسبب مشاكل كثيرة”.

لكن قادر يقر في ذات الوقت، بأن السيطرة على ذلك أمر صعب، بينما يبدو اغلاق تلك المحال كليا امرا مستحيلا فهو يحتاج الى “فتح صيدليات رسمية في المناطق الشعبية، وفتح مستوصفات تعمل على مدار الساعة” وهي مسائل خارج الامكانات الحالية لوزارة الصحة.

العمل مستمر والاغلاق مستحيل

يتفق مع قادر في الرأي، مسؤول اعلام نقابة ذوي المهن الصحية ياسين محمد، فهو يؤكد صعوبة اغلاق تلك المحال “لعدم توفر البديل وقلة المراكز الصحية التي تحتاج الى تحسين ادائها وزيادة عدد ساعات عملها”.

ويرى محمد ان المواطنين يدفعون باتجاه استمرار وجود تلك المحال رغم ما تحمله من مشاكل “بسبب اصرارهم على مراجعتها، وعدم مراعاة حاجتهم للدواء وتناولهم الأدوية دون ضوابط”، داعيا وزارة التربية الى “وضع منهاج تدريسي في المدارس عن الثقافة الصحية المنعدمة في العراق”.

ولا تقتصر الاتهامات الموجهة لمحال الاستشفاء على تجاوزها لصلاحياتها في تشخيص وصرف الادوية،  فهي متهمة ايضا بالترويج للأدوية الرديئة. يقول الصيدلاني (ب ا) ان “اصحاب تلك المحال غير مؤهلين لتشخيص الامراض وصرف الأدوية فهم ليسوا اطباء ولا صيادلة، ولا يملكون الخبرة لمعرفة الدواء الجيد، كما انهم يبحثون عن الأدوية الرخيصة بغض النظر عن نوعيتها”.

الا ان المعاون الطبي سركوت محمد، الذي يملك عيادة شعبية في اربيل، يرفض تلك الاتهامات ويؤكد “نحن الحلقة الأخيرة والأضعف في صرف الأدوية، نشتري الأدوية الأساسية المسموح لنا ببيعها من المذاخر ونضيف لها هامش ربح بسيط، أما كفاءة الدواء فهي مسألة تتعلق بالمستوردين وهي مشكلة مزمنة، فلا احد يعرف ما هو الدواء الجيد مع تعدد مصادر الاستيراد والتهريب”.

وينبه محمد، الى ان “المجتمع انقسم الى اغنياء لديهم مستشفياتهم الخاصة ومدارسهم وجامعاتهم الخاصة، وفقراء عليهم مواجهة ظروفهم والبحث عن العلاج في العيادات الشعبية التي لا بديل لهم عنها بعد ان نسيتهم الحكومة ولم تهتم بمعالجة مشاكلهم في الصحة والتعليم والتأهيل طوال عقدين من الزمن”.

الصحة ضحية التطور

كلام محمد يعكس جانبا آخر من مدينة اربيل عاصمة اقليم كردستان، والمعروفة بتطورها العمراني السريع وبنسب النمو الاقتصادي المرتفعة التي بلغت 8% في عام 2012، والذي يتجسد بالانتشار الكبير للمراكز التجارية والأسواق والمولات الحديثة والمجسرات والفنادق والباركات ومدن الملاهي، وهو ما غير وجه المدينة خلال سنوات قليلة، وانعكس ايضا على تغير جزء من نمط الحياة فيها.

يظهر الجانب الآخر للصورة، أن التطور المتحقق لم يكن لقطاعات عديدة منه نصيب جيد، كالقطاع الصحي الذي بقي متخلفا وبنيته التحتية ضعيفة، كما يرى كاروان وهاب، وهو خريج كلية العلوم ويعمل مدرسا “التطور في وجه اربيل كان على حساب صحة اهاليها مع تزايد الملوثات بأنواعها وعلى رأسها عوادم السيارات والذي ترافق مع انحسار الغطاء النباتي، وتضاعف الاعتماد على الأغذية المستوردة والمشروبات ذات الجودة المتدنية، ما زاد من المخاطر الصحية، في وقت ظل التقدم محدودا في بنية القطاع”.

ويقول الدكتور كريم جلال، التدريسي بكلية العلوم في جامعة صلاح الدين، ان ارتفاع معدلات التلوث وانتشار الاغذية والادوية الرديئة والفاسدة، من الأسباب التي ادت الى انخفاض معدل عمر المواطن الكردي في العقد الأخير نحو عشر سنوات.

ثمانية آلاف اصابة جديدة بالسرطان

هذه الحقيقة تظهر سبب اضطرار الآلاف من سكان الاقليم للسفر الى خارج البلادبقصد العلاج، الى جانب حرص الكثيرين على عدم شراء الأدوية من الاقليم لعدم ثقتهم بما يستورده التجار، او يتم تهريبه عبر المعابر الحدودية. خاصة مع “تزايد معدلات” الاصابة بالامراض المزمنة، كما الامراض السرطانية التي سجلت بحسب احصاءات وزارة الصحة الكردستانية، زيادة كارثية بلغت ثمانية آلاف حالة خلال الأشهر الثمانية الاولى من العام الحالي، مقارنة بنحو 2300 حالة في عام 2012، في حين كان الاقليم قد سجل في خمس سنوات ثمانية آلاف حالة فقط.

تلك الاصابات لا يمكن ان تستوعبها المستشفيات بامكاناتها واعدادها المحدودة، ما يهدد حياة الآلاف من المواطنين سنويا، كما يقول سوران جليل الذي يعيش في دهوك، وهو استاذ جامعي، فقد شقيقته التي اصيبت بالسرطان خلال خمسة اشهر من تاريخ اكتشاف المرض وبدء العلاج.

“حدث ذلك نتيجة قلة المستلزمات والأدوية وضعف الرعاية هنا، رغم ان الأطباء في تركيا حيث اجرت شقيقتي عملية استصال ورم في القولون، اكدوا لي امكانية انقاذها، او فقدانها خلال عامين اذا لم يتوقف المرض”.

سوران، يؤكد ان الواقع الحالي يصيب المرضى باليأس “فالمراكز التخصيصية معدومة، والأطباء محدودو الخبرة، والتجهيزات قليلة، والأدوية مفقودة وعليك ان تغامر بشرائها من الأسواق دون ان تضمن جودتها، هذا اذا كنت غنيا وقادرا على دفع آلاف الدولارات شهريا، والا فعليك ان تستسلم للموت، في اقليم غني جدا لكن الفرد لا يملك فيه واحدا من ابرز الحقوق الانسانية وهو حق الضمان الصحي”.

اجراءات لتحسين الوضع

رغم ذلك، هناك “تحسن مستمر” بحسب ما تعلنه وزارة الصحة، وهناك خطط لتحقيق “طفرة” في الواقع الصحي تجعله موازيا للنظام الصحي في الدول المتقدمة، فقد اتخذت سلسلة قرارات لمعالجة انتشار الأدوية المزيفة كالتعاقد مع شركة بريطانية متخصصة في عمليات الفحص واستحداث مديرية للرقابة والمتابعة الصحية، بهدف مراقبة ومحاسبة المستشفيات الحكومية والأهلية.

وبحسب مسؤولي وزارة الصحة الكردستانية، نجحت الوزارة في السيطرة بشكل جيد على الادوية الرديئة “رغم صعوبة ذلك كون الأدوية مصدر ربح كبير، وبعضها يدخل بشكل غير قانوني عبر الحدود ومن باقي المحافظات، الى جانب وجود اناس غير متخصصين يقومون بالاستيراد”.

ولعل تلك الاجراءات، هي التي جعلت المعاون الطبي خليل عبدالله، يقف مترددا في عيادته الواقعة بحي شعبي في اربيل، وهو يتفحص حقنة كلافوران، مدققا في التاريخ واسم الشركة المصنعة و”روشيتة” المريض قبل ان يتخذ قراره بزرقها له، كما اختفت العديد من الادوية التي كانت تملأ رفوف محله قبل عام من الآن.

يقول عبد الله، ان الوضع تغير نسبيا فالمراقبة والمحاسبة اشد من ذي قبل، وتم حصر بيع الادوية لنا بـ (18 نوعا) تتضمن الادوية الأساسية، كما ان خوفا تشكل لدى الكثير من المعاونين الطبيين وحتى الأطباء، بعد فقدان العديد من المرضى لحياتهم في العامين الأخيرين.

ليس عبدالله هو الوحيد الذي تخلى عن اسلوب العمل السابق في استسهال صرف الأدوية وزرق الابر، فالمعاون الطبي شوان، أكد بدوره حصول تحسن “هناك رقابة اكبر على العمل، وتحسن في مستوى الخدمات، فضلا عن تزايد الوعي الصحي لدى الاهالي بمخاطر الدواء”.

ذلك التغيير، ملموس لدى الأطباء والصيادلة ايضا، كما يؤكد الصيدلاني سوران أحمد “الأدوية الواردة افضل والمراقبة أفضل للمستشفيات الخاصة، ومنعت المذاخر من بيع الأدوية لغير أصحاب الصيدليات، والوزير الذي صار واحدا من اكثر الوجوه ظهورا على القنوات التلفزيونية يقوم بزيارات ميدانية للمستشفيات والمراكز الصحية وهذا كان امرا نادرا في الماضي”.

لكن ما تحقق من تطور، في “اقليم غني” تبلغ موازنته نحو 12 مليار دولار سنويا، يظل محدودا، فالقطاع يحتاج الى تطور مفصلي في حجم ومستوى الخدمات، بحسب احمد.

الصحة تستهلك ميزانية العائلة

يتفق مع ذلك الطرح، الطبيب محمد برواري، مضيفا ان المؤسسات الصحية ما تزال ضعيفة الأداء ومحدودة العدد قياسا للحاجة الفعلية “معظم الأطباء يضطرون لاستقبال عشرات المراجعين يوميا، بعضهم يستقبل 70 مراجعا، يتم ادخالهم احيانا على دفعات الى غرفة الطبيب وعليه أن يشخص الحالة خلال دقيقتين او خمس دقائق، كما ان عدد الكوادر الوسطى قليل، وغالبا ما تفتقد المستشفيات الحكومية للأدوية، وهذه الأمور تجبر معظم المرضى الى مراجعة العيادات والمستشفيات الخاصة”.

لكن العيادات والمستشفيات الخاصة تكلف المريض في حالات المراجعة الاعتيادية مبالغ كبيرة “فالمعاينة قد تصل الى 20 دولارا ومع اضافة تكاليف الفحوصات المخبرية وثمن الأدوية، ترتفع الكلفة لتتراوح بين 40 الى 50 دولارا في الحالات الاعتيادية، أما في الامراض المستعصية فالتكلفة تكون أكبر بكثير، وهي تبتلع اكثر من ربع الدخل الشهري للمواطن ذو الدخل المتوسط، وفي حالات العمليات فانها تكلفه مبالغ تقارب متوسط راتب موظف الدولة لعام كامل”.

وزارة الصحة لا تنفي تلك المشاكل، وتؤكد انها تواجه تحديات ضخمة بعد نحو عقدين من التلكؤ في القطاع افرزتها ظروف الاقليم الاقتصادية والأمنية في تستعينات القرن الماضي وفترة العقوبات الدولية. وتعمل الوزارة على بناء نحو 30 مستشفى جديد بسعات مختلفة لدعم نحو 110 مستشفى حكومي آخر واكثر من 60 مستشفى ومركز اهلي، كما قررت خفض أجور العمليات الجراحية بالمستشفيات الحكومية واضافة اربع ساعات الى ساعات العمل المعتادة لاجراء العمليات، مع منح الأطباء مبالغ مالية مقابل ذلك.

لكن الوزارة تطالب بزيادة موازنتها السنوية لاجراء تعديلات جذرية في القطاع. ويشير وزير الصحة ريكوت حمه رشيد، الى تخصيص اقل من (5%) للوزارة من موازنة الاقليم مقارنة بنحو (9%) في معظم دول العالم المتطورة، وهذه النسبة “لا تمكن من وضع معالجات لكل مشاكل القطاع وتعرقل الفصل بين الكوادر التي تعمل في القطاع الخاص والقطاع العام لتكلفته العالية رغم سعي الوزارة لتحقيق ذلك بالتعاون مع البنك الدولي”، لأن التداخل الحالي يعد من اكبر معرقلات تطوير الواقع الصحي.

في انتظار تنفيذ الخطط

والى ان تحقق وزارة الصحة خططها وتنجح في الخروج من تركة حقبة العقوبات الاقتصادية وتداعيات ضعف المراقبة والمحاسبة، ستظل العيادات الشعبية، حاضرة بقوة في مدن الاقليم، كما يرى المعاون الطبي (ح ع) متحدثا من محله في احد ضواحي اربيل الجديدة “لا بديل عن الخدمات التي نقدمها”.

ويتابع وهو يطالع كومبيوترا موضوعا على طاولته بينما كان دخان سكائره يملأ المكان “الجميع يتهمنا بتجاوز صلاحياتنا، ولا احد يتحدث عن الأطباء الذين يستقبل بعضهم 80 حالة يوميا بين عيادته والمستشفى الخاص، لا احد يحاسبهم ويسألهم كيف يمكنهم استقبال كل هذا العدد، وكيف له ان يعمل 18 ساعة يوميا ولا يخطأ في التشخيص ويرتكب المصائب التي نسمع بها”.

“الناس تراجع هذه الأماكن لأنها مضطرة”، يضيف بلهجة تهكمية “لا يمكنك ان تقنع أحدا بحاجة الى دواء لخفض الحرارة او الاسهال او الزكام، أن يقود سيارته لمسافة نصف ساعة ليصل الى مستشفى الطوارئ”.

تحديات جديدة

تضاف الى مشاكل القطاع الصحي المزمنة، مشاكل أخرى جديدة فرض بعضها الانتشار السريع للمراكز والمستشفيات الخاصة، والتي تستقطب كوادر طبية يتم الترويج على انها الأفضل عالميا في مجال تخصصها، رغم كون ذلك يمثل “تزييفا للحقيقة” ويجعل المرضى عرضة “للاستغلال والغش” والتحايل بآلاف الدولارات فضلا عن التعرض لمخاطر نتيجة الأخطاء الطبية التي تقع فيها، بحسب الطبيب جواد هاشم. وهو ما زاد من عدد الشكاوى المقدمة ضد تلك المراكز وفق عضو لجنة متابعة الأدوية والمستشفيات الخاصة في وزارة الصحة بارزان ابو بكر.

كما ان تفعيل عمليات الرقابة والفحص والسيطرة النوعية على الأدوية المستوردة، خلق ايضا، مشاكل جديدة، فأسعار الأدوية ارتفعت بنسب تراوحت بين 20 الى 30% عما كانت عليها قبل عام بعد التعاقد مع شركة بريطانية للقيام بعمليات الفحص بأسعار مرتفعة، يرفض التجار في الغالب استقطاعها من ارباحهم، وهو عامل زاد من محاولات ادخال وتهريب الأدوية الرديئة.

الى جانب ذلك، ومع منع الوزارة شراء اي دواء بدون فحص، توقف العمل ببعض المراكز الطبية الحكومية بسبب افتقاد الادوية، التي يتطلب الحصول عليها اجراءات روتينية تستغرق عدة اسابيع، فيما يشكو المرضى من عدم حصولهم على بعض الأدوية الحيوية كادوية السرطان التي تكلفهم آلاف الدولارات رغم مراجعاتهم المتكررة للمستشفيات التي كانت تشتري سابقا تلك الأدوية من السوق في حالات نفادها.

وسط المشاكل التي لم تحل منذ سنوات، والمشاكل الجديدة التي ظهرت مع اجراءات وزارة الصحة الاخيرة. وعلى مسافة قريبة من المراكز التجارية التي تحتشد بها الخارطة الاستثمارية لمدينة “الأمراء الجدد”، يواصل الالاف من المضمدين مهمة تشخيص الامراض وصرف الأدوية، لعشرات الآلاف من أبناء اقليم كردستان الذين قد يدفعون حياتهم ثمنا للاهمال الحكومي وتردي الواقع الصحي، في اقليم تتجاوز ميزانيته 12 مليار دولار سنويا.

انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية (نيريج) وباشراف سامان نوح.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17410}" data-page="1" data-max-pages="1">