تحقيقات استقصائية: امتيازات سنوية بـنصف مليار دولار تورط البرلمان العراقي في أوسع ظاهرة فساد شرق اوسطية (1-2)

امتيازات سنوية بـنصف مليار دولار تورط البرلمان العراقي في أوسع ظاهرة فساد شرق اوسطية (1-2)

تحقيق: ميادة داود

على الجدران الكونكريتية التي سوّرت مباني الحكومة ومجلس النواب وسط العاصمة بغداد، كتب ناشطون مجهولون بالخط الأحمر «نواب العراق هم أكبر مجموعة لصوص في العالم».

تلخص هذه العبارة التي صارت عنواناً للتظاهرات المناوئة لامتيازات البرلمان غير المسبوقة خلال العامين الماضيين، أزمة الثقة التي تعصف بين أعلى سلطة تشريعية ورقابية في العراق، وبين باقي طبقات المجتمع العراقي.

لا يتعلق الأمر هنا، وفق ما يرى الناشط المدني وعالم السومريات البروفيسور سالم العامري، «بالرواتب والمخصصات الفاحشة التي شرّعها البرلمان لنفسه، بنفسه»، بل يتعلق بأن حرص البرلمان على التمسك بمكاسبه، «ورّطه بالدخول في أوسع منظومة فساد شرق أوسطية جعلت من العراق في مقدمة بلدان العالم من حيث حجم الفساد والرشوة»، وفقاً لمنظمة الشفافية العالمية في تقريرها (تموز/ يوليو) الماضي.

يكشف هذا التحقيق من خلال الوثائق والأرقام التي يحلّلها رجال مال مختصون، واعترافات برلمانيين ودفاعاتهم، أن كلفة وجود سلطة تشريعية ورقابية في العراق والبالغة نحو ملياري دولار لكل دورة برلمانية من اربع سنوات (وفق ما وثّقه الخبير المالي خليل الونداوي)، كانت السبب الرئيس في عجز البرلمان عن الحد من الفساد في البلاد، أو مساءلة حكومة تدير قرابة 400 مليار دولار هي مجموع موازنات الدولة العراقية كل اربع سنوات تقريباً.

الامتيازات الكبيرة التي يحظى بها أعضاء البرلمان والمقدرة بـ 1.6 مليون دولار للنائب الواحد لدورة من اربع سنوات بضمنها الرواتب والمخصصات وأجور الحمايات الشخصية، شلّت قدرتهم على محاسبة المتورطين بملفات فساد كبرى أنهكت موارد البلاد، وتسببت بانخفاض مستوى الخدمات، وغياب الأمن، وفقدان الثقة بالاقتصاد، وعدم القدرة على توفير الطاقة الكهربائية لما يقارب الـ 12 ساعة في اليوم.

البروفيسور العامري يعتقد أن برلمان الوركاء وهو البرلمان الأول في تاريخ البشرية (3000 قبل الميلاد كما يرى العلامة كريمر)، كان أكثر قدرة على محاسبة الحكام من بـــــرلمان العراق الحالي والذي لم يتمكن خلال ثلاث سنوات (بدأ عمله في 14 حزيران/ يونيو 2010)، من تجريم فاسد واحد، أو إيقاف هدر مالي في أي مفصل من مفاصل الدولة العراقية.

الكاتب والإعلامي أحمد المهنا يؤيد ما ذهب إليه العامري، فهو يرى أن البرلمان الحالي ليس اكثر من «أكذوبة»، وأنه فقد قدرته على محاسبة الفاسدين، ليس فقط لأنه يطمح للحفاظ على مكتسباته الضخمة، بل أيضاً لأن قرارته كانت مرهونة منذ البداية برغبة زعماء الأحزاب الذين سلموا القرار السيادي للعراق إلى دول الجوار.

أرقام فلكية

تشير الأرقام التي وثّقتها كاتبة التحقيق بالتعاون مع الخبير الونداوي، إلى أن الرواتب السنوية الفعلية التي يحظى بها مجموع أعضاء البرلمان الحالي (325 نائباً)، تناهز الـ 180 مليون دولار، شاملة رواتب النواب مع الرئاسات (54.4 مليون دولار) وربع قيمة مبلغ تحسين المعيشة (6.2) مليون دولار، اضافة إلى (125 مليون دولار) لرواتب وإطعام حمايات البرلمانيين كما في موازنة العام 2013.

المبلغ الذي تنقله موازنة عام 2013 (125 مليون دولار) لرواتب وطعام حمايات البرلمانيين، يعادل ثلاثة أضعاف المبالغ التي دفعت كتعويضات لعوائل 14 ألف ضحية من ضحايا الإرهاب عام 2012، ربعهم فقدوا حياتهم نتيجة التفجيرات والاغتيالات التي تضرب العراق منذ سنوات، كما يقول الإعلامي والناشط مصطفى سعدون.

هذا الفارق الكبير في احتساب قيمة الفرد العراقي، كما يقول الناشط سعدون، تسبب في «أزمة ثقة مزمنة بين البرلماني العراقي وناخبيه، وأنتج فجوة طبقية لا يمكن ردمها بوجود برلمان يستقتل للحفاظ على امتيازاته».

عبّر عن هذه الأزمة بجلاء، رد فعل قيادية في كتلة برلمانية نافذة شرحت لكاتبة التحقيق تفاصيل مستحقاتها الشهرية، لكنها عادت بعد دقائق لتهدّد كاتبة التحقيق بأنها ستلجأ للقضاء لإيداع كاتبة التحقيق السجن إذا تجرأت على نشر اسمها في التحقيق.

حلقة مفرغة

خاطبت كاتبة التحقيق رئاسة البرلمان للسماح لها بالاطلاع على سجل الإيفادات والمنح المالية وكلفة علاج البرلمانيين. طلب منها في البداية تقديم طلب للحصول على تخويل بدخول مبنى البرلمان، ثم لاحقاً أبلغوها باعتذارهم لنسيان وضع اسمها عند بوابة الدخول.

في المرة الأخيرة، تركت كاتبة التحقيق ثلاث ساعات خارج مبنى البرلمان، قبل أن يطلب منها الانصراف لتعذر استقبالها حتى من قبل الدائرة الإعلامية. وكيل وزارة المالية فاضل نبي، أبلغ الكاتبة أن الوزارة ليست طرفاً بتحديد الرواتب والمخصصات لأن كل جهة لها نظامها الخاص وهي التي تعرف موازناتها وصرفياتها، ومهمة الوزارة هي «التمويل فقط». الوكيل طلب من الكاتبة في ما بعد أن تسأل البرلمان نفسه عن صرفياته، لأن الإجابة «ليست من اختصاصه».

325 وزيراً تحت قبّة البرلمان

تتضمّن الامتيازات التي يتمتع بها البرلماني العراقي، وفق القيادية الشابة ونواب آخرين بينهم عضوة سابقة في اللجنة المالية، رواتب ومخصصات شهرية بمقدار 12.9 مليون دينار عراقي (11 ألف دولار)، اضافة إلى رواتب الحمايات الشخصية (20 ألف دولار شهرياً لكل نائب).

احتسبت رواتب البرلمانيين في العراق قياساً على رواتب الوزراء. ينص قانون رقم 7 لسنة 2005 «يستحق عضو المجلس الوطني الموقت مكافأة لا يزيد مقدارها عما يتقاضاه الوزير من راتب ومخصصات».

قبل عام 2003، كانت سلطة التشريع في العراق حكراً على رئيس النظام السابق صدام حسين، وفق الفقرة (أ) من المادة 42 في الدستور العراقي الموقت لعام 1972. ولم يكن المجلس الوطني (250 عضواً يختارهم حزب البعث الحاكم بنفسه) يمتلك أية سلطة تذكر مقابل رئيس النظام. رغم ذلك منحهم النظام السابق راتب مدير عام مع سيارة حديثة في كل دورة من أربع سنوات.

بعد العام 2003، كما يقول الكاتب والإعلامي مشرق عباس، كان تحوّل البرلمان من مجلس شكلي إلى برلمان فاعل عليه البدء بتشريع مئات القوانين التي تتواءم مع انتقال العراق من الشمولية الديموقراطية، يبرّر منح البرلمانيين امتيازات خاصة، خصوصاً مع ارتفاع فاتورة العمل السياسي والبرلماني وخسارة العديد من ساسة الرعيل الأول حياتهم وحياة عوائلهم ثمناً لتصديهم للعمل التشريعي.

لكن الآن، كما يرى عباس، يختلف الأمر تماماً، فالعمل السياسي صار امتيازاً وظيفياً واجتماعياً ومالياً، وهناك اكثر من ستة آلاف مرشح تقريباً يتنافسون في ما بينهم على مقاعد البرلمان في كل انتخابات. ولهذا كان من المفروض ان يتم إعادة احتساب هذه الامتيازات منذ سنوات وليس الآن فقط.

سعر العملة في مصلحة النائب دائماً

أضاف القرار 13 لسنة 2005، مبالغ أخرى يتقاضاها النائب لتحسين معيشته يبلغ مقدارها (50 ألف دولار أميركي أو ما يعادله بالدينار العراقي) وهذا القانون ساري المفعول حتى الآن.

المفارقة هنا كما يرى الخبير الونداوي أن النواب رفضوا تسلم المبلغ بالدولار (50 ألف دولار) وأصرّوا على استلامه بالدينار العراقي، لكن بشرط أن يكون على سعر الصرف الذي كان سارياً عام 2005 (90 مليون دينار) وليس سعر الصرف الحالي (58 مليون دينار)، محققين ربحاً على حساب الدولة العراقية مقداره 32 مليون دينار (27 ألف دولار).

يحصل أعضاء البرلمان أيضاً، مع زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم، على جوازات سفر ديبلوماسية طوال الدورة البرلمانية ولغاية 8 سنوات من انتهائها، مع حق الاحتفاظ بعشرة من عناصر الحمايات الشخصية، مع رواتبهم.

أزمة التقاعد

وفقاً للقانون رقم 9 لسنة 2005، يحق لنواب البرلمان الحالي (325 نائباً) أن يلتحقوا بعد انتهاء دورتهم ربيع العام 2014 بجيش جرار يتكون من أكثر من 500 برلماني متقاعد والآلاف من أعضاء مجالس المحافظات وأصحاب الدرجات الخاصة المتقاعدين، والذين يحصلون على ما نسبته 80 في المئة من رواتبهم ومخصصاتهم التي كانوا يتقاضونها سابقاً. فيما يتمتع الرؤساء المتقاعدون، برواتب تقاعدية تناهز الـ 40 ألف دولار شهرياً لكل منهم، اضافة إلى 40 ألف دولار كمخصصات لـ 60 عنصراً من الحمايات الشخصية يبقون معهم بعد تقاعدهم.

يفضل أغلب الرؤساء المتقاعدين، الحصول على رواتبهم كرؤساء متقاعدين بدلاً عن رواتبهم كبرلمانيين حاليين، مثل رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي ورئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري ورئيسي البرلمان السابقين أياد السامرائي وحاجم الحسني، فيما يكتفي الرئيس الأسبق عجيل الياور بإدارة شركاته في إحدى دول الخليج متمتعاً براتبه التقاعدي نظير عمله رئيساً للعراق لأقل من عام. وعلى العكس من الأخير، جمع رئيس البرلمان الأسبق محمود الم

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17398}" data-page="1" data-max-pages="1">