تحقيقات استقصائية: ثالوث العنف واليأس وصعود التيارات المتشددة يهدد العراق بخسارة مسيحييه خلال عشرة اعوام فقط

ثالوث العنف واليأس وصعود التيارات المتشددة يهدد العراق بخسارة مسيحييه خلال عشرة اعوام فقط

الحياة اللندنية 13 آب  اغسطس 2013

تحقيق: باسم فرنسيس حنا

الى استراليا حيث انتهى المطاف بمن تبقى من اخوته واقاربه، يهاجر المسيحي الاربعيني رافائيل ايشوع صيف هذا العام مصطحبا معه عائلته وكل ما تمكن من جمعه بعد تصفية ممتلكات العائلة في العاصمة بغداد واقليم كردستان. رافائيل يعتقد جازما ان صلته بالعراق، موطن اجداده، انتهت تماما منذ عثر نهاية العام الماضي على جثتي والديه، ممزقتين، وعلى صدريهما رسمت علامة الصليب بالسكاكين.

قبل هذا باربعة أشهر فقط، كان رافائيل عثر على جثة اخيه ادمون ملقاة في احدى مزابل حي الدورة جنوبي العاصمة.

بخلاف والدي رافائيل واخويه، نجح المسيحي الشاب سعد توما بالخلاص من خاطفيه شتاء عام 2008، وهو يستعد الان مع باقي افراد اسرته لرزم حقائبهم والهجرة نهائيا من العراق، ملتحقين بنحو 700 الف مسيحي هاجروا من العراق خلال السنوات العشر الماضية نتيجة لاستهدافات متكررة تعر لها المسيحيون وشملت عمليات خطف، تعذيب، القتل رميا بالرصاص او الذبح بالسكاكين، تفجيرات طالت عشرات الكنائس والاديرة. فضلا عن اليأس الذي خيم عليهم وعلى البلاد بعد عقد كامل من الصراعات السياسية واعمال العنف التي أودت خلال الاشهر الثلاثة الماضة فقط، بحياة 2600 عراقي وقرابة ستة الاف جريح، معظمهم من الشباب الذين قتلوا في تفجيرات طالت ملاعب كرة قدم للهواة ومقاه شبابية واسواقا شعبية في كل مدن العراق.

يتخوف رافائيل وتوما ومثلهما الاف المسيحيين، من اتساع دائرة العنف مرة اخرى الى الحد الذي لا يستثني بقعة من ارض العراق. خصوصا بعد أن تمكن تنظيم القاعدة، عدو المسيحيين التقليدي، من تنفيذ عملية نوعية اقتحم خلالها سجني (التاجي) و(ابو غريب) بقذائف هاون وسيارات مفخخة وتسعة انتحاريين، اسفرت عن اطلاق سراح نحو 600 من أشرس قادته الميدانيين الذين قاتلوا قبل سنوات مضت، جنبا الى جنب، مع الزعيم السابق للقاعدة ابو مصعب الزرقاوي.

يتذكر توما حتى الان، حكايته مع مسلحي تنظيم القاعدة الذين اختطفوه في نقطة تفتيش وهمية اقاموها شمالي بغداد، ثم عادوا واطلقوا سراحه بعد اتفاق بينهم وبين اخيه الكبير أدور، بوساطة زعيم عشيرة نافذ سلمهم 80 الف دولار واحتفظ لنفسه بـ 30 الف دولار، كهدية.

يومها، كما يتذكر توما “كان الوقت شتاء، راصفونا راكعين امام الجدار ونحن مقيدي الايدي ومعصوبي الاعين، انتظرنا رصاصات الموت قرابة ساعتين، لكن شخصا ما سحبني من بين باقي الرهائن بعنف والقى بي في حوض سيارة نقل صغيرة حملتني بعيدا عن المكان”، حينها “بقيت اسمع صوت الرصاص يدوي ومعه صراخ مكتوم لمن بقي هناك”.

المال الذي انقذ توما، لم يشفع لمواطنه فادي سليمان الذي اختطف في زمن مقارب ودفعت والدته 100 الف دولار لخاطفيه مقابل اطلاق سراحه حيا، ثم عادت ودفعت 20 الف دولار لمجرد تسلم جثته، ثم اكتفت فيما بعد بدفن الجثة التي سلمها لها مخادعون على انها جثة فادي في مقبرة العائلة ببغداد.

تهاجر أم فادي بعد ايام قلائل الى السويد، برفقة ابنتها سوزان وشقيقها ريفان، وابنتي اختها جانيت التي لاحقها الموت بلا هوادة منذ نجت باعجوبة من مجزرة كنيسة سيد النجاة خريف عام 2010، فقتلها مسلحون مجهولون بعد شهرين من المجزرة داخل منزلها وسط بغداد، ومزقوا جسدها بالسكاكين.

موسم الهجرة الى الغرب

رحلة رافائيل وتوما وأم فادي والاف المسيحيين الذين هاجروا، او هم في طريقهم الى الهجرة الدائمية باتجاه الغرب، تنذر بأن البلاد التي استوطنها المسيحيون منذ القرن الاول للميلاد توشك ان تفقدهم للأبد، بعد ان عجزت عن حمايتهم من الموت والتهجير على ايدي مسلحي القاعدة ومجاميع مسلحة اخرى خلال الاعوام التي اعقبت الغزو الامريكي للعراق عام 2003.

موجة القتل التي طالت مسيحيي العراق بعد عام 2003 وتسببت بمقتل ما لا يقل عن الف منهم حتى نهاية العام 2012، كانت الاعنف منذ مجازر عام 1933 التي نفذتها قوات عراقية وقتل فيها نحو 600 مسيحي اشوري، بمعونة عشائر عربية وكردية سلبت قراهم فيما بعد. ومذبحة قرية صوريا التي نفذتها قوات نظام البعث عام 1969 وراح ضحيتها اكثر من 90 كلدانيا، عشرات منهم احرقوا احياء في كهف لجأوا اليه هربا من الاعدامات الميدانية.

بالتوازي مع الاستهدافات المتكررة، انخفض عدد المسيحيين في العراق من حوالي مليون و400 الف مسيحي قبل عام 2003 الى اقل من 700 الف كما تشير الارقام التي اعلنتها تقارير دولية معتمدة، مجمعات كنسية، ابرشيات مسيحية، منظمات مدنية. فيما يعتقد رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني ابلحد افرام، جازما، أن عدد المسيحيين المتبقين في العراق حاليا لم يعد يتجاوز الـ400 الف مسيحي.

الديانة المسيحية مهددة بالهبوط للمرتبة الثالثة في العراق

يعتقد القس أميل ايشو القس بطرس، بأن اتباع الديانة المسيحية سيتراجعون خلال وقت قصير من المرتبة الثانية الى المرتبة الثالثة في تسلسل حجم الديانات في العراق، ان لم يكونوا قد تراجعوا اصلا.

القس بطرس على يقين من أن النصف المسيحي الذين غادر العراق خلال السنوات الماضية سيسحب معه، لا محالة، النصف المتبقي الذي يعيش تحت وطأة اليأس والخوف من المسقبل.

يشاطره الرأي، مواطنه القس يوحنا البازي، راعي كنيسة كاثوليكية في بغداد تعرضت للتفجير بسيارة مفخخة عام 2008. القس البازي موقن تماما أن العراق سيصبح خاليا من مواطنيه المسيحيين خلال السنوات العشر القادمة في حال بقيت الاوضاع على حالها من عنف وخلافات وطائفية وعرقية، طبعت العقد الماضي بأسره. فيما يتنبأ مطران ابرشية اربيل والمدبر البطريركي لأبرشية زاخو ونوهدرا، بشار متي وردة، بأن المسيحيين سيتحولون، في احسن الاحوال، الى مكون ضئيل غير قادر على التأثير في مجريات الاحداث في البلاد، ولا حتى حماية نفسه.

يتفق مع القسين ايشو والبازي والمطران وردة، أكثر من 84% من المسيحيين الذين استطلع كاتب التحقيق اراءهم في استبيان نشر على موقع عنكاوا المسيحي. فهؤلاء يعتقدون أن خلو العراق من المسيحيين سيكون حتميا، أو قابلا للتحقيق، خلال عشر سنوات فقط.

ولا يكاد رأي هؤلاء، يختلف كثيرا عما يعتقده عشرات المسيحيين الذين التقاهم كاتب التحقيق في بغداد ومدن اقليم كردستان شبه المستقل، ومعهم ايضا، ناشطون مدنيون، باحثون اجتماعيون، قيادات دينية وسياسية مسيحية. فهؤلاء يعتقدون على نطاق واسع أن ثالوثا مشؤوما يحيط بحياة المسيحيين ويدفعهم للهجرة خارج العراق، أول اضلاعه، استمرار الصراعات الطائفية والعرقية في البلاد، فيما يتمثل الضلع الثاني بالنزعة الدينية المتطرفة التي تزايدت حدتها في العراق والعالمين العربي والاسلامي خلال السنوات الاخيرة.

ويضيف الناشط المسيحي مهند جرجيس، ومعه قساوسة وسياسيون مسيحيون ابرزهم الوزيرة المسيحية السابقة باسكال وردة، عامل “اليأس” باعتباره ثالث اضلاع مثلث الشؤم. فهو يدفع المسيحيين على الدوام للهجرة من كردستان التي عرفت حتى وقت قريب بأنها آخر معقل يمكن ان يلجأ اليه المسيحيون ضمانا للبقاء داخل حدود الوطن.

ففي كردستان، كما يقول جرجيس، بات من الصعب ان تتغافل عن صعوبة العيش في مجتمع محافظ يحاسبك على كل حركة، ويقف حاجز اللغة دون اندماجك فيه، وتتصاعد فيه حدة الخاطب الديني الموجه ضدك الى حد اعتبار الاحتفال باعياد الميلاد كفرا يتوجب القصاص من فاعليه.

يذكر جرجيس بأن تجنيد الشباب الكردستاني المتشدد للحرب في سوريا مع جبهة النصرة، والذي بات مشكلة مقلقة تلوح في افق كردستان، يشي بأن التشدد الديني الذي تسيطر عليه حكومة كردستان الان، قد ينفجر بوجه المسيحيين في اية لحظة.

القتل على الهوية

لم تكن سياسة القتل على الهوية التي مورست ضد العراقيين، ومارسها العراقيون بعضهم على بعض احيانا، حكرا على المسيحيين لوحدهم، فالتفجيرات التي طالت العراقيين لم تتوقف منذ أعلن تنظيم القاعدة ما وصفه بالحرب الجهادية في العراق، وراح ضحية هذه الحرب مئات الالاف من العراقيين اغلبهم قضى خلال اعوام العنف الطائفي التي امتدت ما بين عامي 2006 و2008.

 الخصوصية التي منحت لشرعنة قتل المسيحيين، كما يقول القس توما صليوة، تمثلت بسعي القاعدة لتحقيق هدفين رئيسين، الاول هو استثمار قضية استهداف المسيحيين في اثارة اهتمام دولي بالمجازر التي ترتكبها القاعدة في العراق، كي تعطي انطباعا بأنها تكسب الحرب في العراق. وقتل مسيحي واحد او استهداف كنيسة، يحدث اثرا دوليا اكبر بكثير من انفجار يقتل فيه مئة عراقي شيعي او سني في شارع او مسجد.

الهدف الثاني هو هدف شرعي بنظر تنظيم القاعدة، بحسب القس صليوة، فقتل المسيحيين لا جدال في كونه واجبا شرعيا حسبما يراه فقهاء تنظيم القاعدة الذين اعلنوا أن “كل مسيحي هو هدف شرعي”. وهذا يعني أن مجرد كونك تحمل صفة “مسيحي” في هوية الاحوال المدنية، أو ترتاد كنيسة او منتدى اجتماعي مسيحي، فانت هدف للقاعدة والجماعات المسلحة “في كل وقت، وفي كل مكان”.

التوزيع “العادل” للقتل

كان الاستهداف في بداية الامر، كما يقول القس الموصلي واثق بطرس، يتضمن اختطاف المسيحيين وقتلهم او قطع رؤوسهم، لكنها مع صيف العام 2004 الذي شهد أعلى معدل لقتل المسيحيين (نحو 210 قتلى)، تحولت الى استهدافات كبرى شملت تفجير كنائس واديرة بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة، واقتحام منازل وقتل عوائل باكملها لترويع المسيحيين واجبارهم على الرحيل.

في مدينة الموصل ثاني اكبر المدن التي يقطنها مسيحيو العراق، تفنن مسلحو تنظيم القاعدة في عمليات قتل مروعة كانت تستهدف المسيحيين بكل فئاتهم، اطباء، اساتذة، متقاعدين، تجار وقساوسة، بل حتى بائعي خضار وسائقي سيارات اجرة.

قتل حكمت سعدون وهو بائع خضار في رأس الجادة رميا بالرصاص، تبعه زميله سعد الله جرجيس الذي قتلته القاعدة في المجموعة الثقافية، ثم قتل طالب المدرسة راوند زاكر هيدو والقيت جثته في واد يفصل بين ديرين مسيحيين بعد ان قطعوا كفيه ومثلوا بجثته. لاحقا، ذبح مسلحو القاعدة بحرابهم، العجوزان حكمت نعومي وزوجته سميرة صبري انطوان. ثم قطعوا رؤوس ريمون فاروق وفراس موفق وبسام صبري وليث حكمت واخرون.

لم يسلم الرهبان والقساوسة المسيحيين من “عدالة” الجماعات المتشددة في توزيع القتل على المسيحيين بالتساوي، فقد اقتحم مسلحون منزل القس مازن ايشوع متوكة وقتلوا اباه واخويه حين لم يجدوه، ثم عادوا وقتلوا الكاهن رغيد عزيز ومعه ثلاثة شماسين حين خرجوا من القداس في احدى الكنائس.

فيما بعد، توالت سلسلة القتل الكهنوتية، وكان من ابشعها واكثرها بثا للرعب حادثة مقتل راعي كنيسة مار افرام للسريان الارثوذكس القس بولص سركون بهنام. ففي خريف 2006، قطع مسلحو تنظيم القاعدة رأس القس بهنام ثم وضعوا جسده المقطع الى اربعة اقسام متناظرة في وعاء كبير أمام باب الكنيسة. ثم تكرر الامر في اذار 2008 باختطاف رئيس اساقفة ابرشية الموصل المطران بولس فرج رحو، وهو اكبر مرجع ديني للكنيسة الكاثوليكية في نينوى، ومعه ثلاثة من مساعديه، ولاحقا، عثر على جثثههم وعليها اثار التعذيب.

قبل واثناء وبعد عمليات قتل رجال الدين المسيحيين، كانت كنائس المسيحيين واديرتهم هدفا رئيسيا لتنظيم القاعدة، استهدف من خلاله ارغام المسيحيين على مغادرة المدن التي يسكنونها باعتبارهم “ديانة غير مرحب بها” بين صفوف المسلمين كما يقول الناشط جرجيس.

فخلال الاعوام 2003 – 2011، وثقت الدوائر الكنسية والمنظمات المسيحية أكثر من 60 كنيسة وديرا مسيحيا تعرضت للتفجير والاقتحام في العراق، عدد كبير منها تم استهدافه في حملات تفجير كبرى تبناها تنظيم القاعدة واستخدم فيها سيارات مفخخة وعبوات ناسفة قتل فيها عشرات المسيحيين.

مطلع آب اغسطس عام 2004، تعرضت سبع كنائس في بغداد العاصمة ومدينة الموصل للتفجير بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة اودت بحياة 18 مسيحيا وجرحت العشرات منهم حين كانوا يؤدون قداس الاحد، وعرف ذلك اليوم حتى الان بـ “الاحد الدامي”.

بعد شهرين ونصف تقريبا، انطلقت الحملة الثانية التي تبناها تنظيم القاعدة كما تبنى الحملة الاولى والحملات اللاحقة، وشملت تفجير سبع كنائس واديرة مسيحية في بغداد والموصل، أعقبها باقل من شهر واحد، تفجير اربع كناس في بغداد والموصل، ثم سبع كنائس في بغداد والموصل مطلع يناير 2008، أعقبها بثلاثة ايام فقط تفجير سيارات مفخخة على ثلاث كنائس في مدينة كركوك، ثم ثلاث كنائس في بغداد صيف 2009، وكنيستين اواخر تشرين الاول اكتوبر من نفس العام في الموصل، وكنيستين في الموصل ايضا منتصف كانون الاول ديسمبر من 2009، ثم استهداف ثلاث كنائس اخرى في كركوك يوم 2 آب اغسطس 2010.

التهجير المباشر

خرجت عائلة الشماس يوسف بنيامين مع اكثر من 1380 أسرة مسيحية من مدينة الموصل باتجاه كردستان، شتاء عام 2008. حينها كما يتذكر بنيامين، كانت “صولة تنظيم القاعدة” الجديدة قد بدأت بهدف تهجير اكبر عدد ممكن من المسيحيين.

قتل في هذه الحملة 12 مسيحيا وفجرت ثلاث كنائس وبضعة بيوتات مسيحية. ثم انتهت الحمل ببيان علني بثته مكبرات الصوت في بعض الجوامع، يمنح المسيحيين 48 ساعة فقط لمغادرة المدينة.

قبل ان تنتهي المهلة، كانت العوائل المسيحية الـ 1380، بضمنها عائلة الشماس بنيامين، قد خرجت من المدينة، وبعضها “اكتفت بالرحيل بملابس النوم فقط” كما يتذكر بنيامين.

أثارت حادثة تهجير المسيحيين من الموصل، تداعيات سياسية كبرى كان ابطالها مثلث السلطة في العراق، الشيعة والسنة والاكراد، وتبادلت الاطراف الثلاثة الاتهامات فيما بينها، فرئيس مجلس النواب الحالي اسامة النجيفي (سني)، وكان حينها برلمانيا عن الموصل، اتهم قوات الاسايش الكردية بتنظيم عملية التهجير لدوافع سياسية، معلنا ان رئيس الوزراء نوري المالكي (شيعي) أطلعه على وثائق تؤكد تورط الاكراد في التهجير. لكن مكتب المالكي نفى هذه القصة جملة وتفصيلا، فيما احتج الاكراد على اتهامهم باستهداف المسيحيين واتهموا النجيفي بالشوفينية تجاههم.

كانت الازمة بين الاطراف الثلاثة تتعلق باتهامات للاكراد بانهم يحاولون اخراج المسيحيين من الموصل باتجاه كردستان ومناطق سهل نينوى ذات الغالبية المسيحية، سعيا وراء كسب المزيد من التأييد الدولي لاقليم كردستان باعتباره يمثل ملاذا آمنا للمسيحيين، وتمهيدا لضم سهل نينوى الذي تعيش فيه مكونات مختلفة بينهم المسيحيون والايزديون والشبك، الى باقي مناطق الاقليم.

في الحالتين، لم يكن امام المسيحيين باعتبارهم الطرف الاضعف في المعادلة، سوى انتظار التحقيقات في الانتهاكات التي طالتهم، والتي لم يعرفوا عنها شيئا حتى كتابة هذا التحقيق.

أكثر ما كان يدفع المسيحيين الى الانسحاب من الصراعات المحلية، كما يقول الناشط جرجيس، هو انهم ليسوا طرفا في النزاع على السلطة داخل العراق. فاذا كان الشيعي او السني أو الكردي مستعدا لمواجهة الموت حفاظا على السلطة التي حازها، أو رغبة في استعادتها من الطائفة الاخرى، فليس للمسيحي مطلقا أن يفكر في تسلم السلطة لأنه  يمثل جزءا من اقلية لا تتعدى 3% في احسن الاحوال.

في بغداد العاصمة، ابتدع تنظيم القاعدة اسلوبا مثيرا جدا لارغام المسيحيين على مغادرة بغداد، ففي الثلاثين من اكتوبر 2010، اقتحم انتحاريون ينتمون لتنظيم القاعدة باحة كنيسة سيدة النجاة وسط العاصمة بغداد، واحتجزوا أكثر من 100 مسيحي كانوا يؤدون قداس الاحد، مطالبين باطلاق سراح ما قالوا انهن “مسلمات مصريات اختطفن وأجبرن على دخول المسيحية من قبل الكنيسة القبطية في مصر”.

تتذكر الناجية رولان حنا التي قتل اخوها الصغير وخطيبها امام عينيها، انها لم تكن قد سمعت اي شيء على الاطلاق عن “نساء مصريات اجبرن على دخول الاسلام”، ولا تعرف علاقتها هي ومن معها بالموضوع اصلا، لكن قدرها اجبرها على مشاهدة المسلحين وهم يقتلون الرهائن واحدا واحدا، ثم يشرعون بتفجير الاحزمة الناسفة التي طوقوا بها اجسادهم واجساد عدد من الرهائن، بضمنهم اطفال، لتنتهي المجزرة ب ـ58 قتيلا وعشرات الجرحى.

عقب المجزرة التي نالت صدى اعلاميا عربيا وعالميا، غادرت اكثر من 1500 عائلة مسيحية العاصمة بغداد باتجاه سهل نينوى ومدن اقليم كردستان، من غير العوائل التي هاجرت مباشرة الى خارج العراق والتي قدرت بنحو 30 عائلة مهاجرة في اليوم الواحد.

كانت المجزرة رسالة واضحة من قبل تنظيم القاعدة لاجبار المسيحيين على ترك العاصمة، وحين بدا لتنظيم القاعدة أن عددا من المسيحيين قرأوها بشكل خاطئ، كما يقول القس البغدادي اسطيفان ايشوع، عادوا لخوض صولة اخرى بقذائف الهاون والعبوات الناسفة بعد عشرة ايام فقط من مجزرة سيدة النجاة، استهدفت 10 منازل مسيحية في مناطق متفرقة من بغداد، قتل فيها ستة مسيحيين واصيب 33 اخرين، فيما اسفرت الهجمات على المنازل المسيحية في الموصل عن مقتل 6 مسيحيين واصابة العشرات منهم.

يعتقد صبري عوديشو، وهو مسيحي يمتلك مكتب سفريات يوفر رحلات جوية لعشرات العوائل المسيحية شهريا، أن معدلات الهجرة ارتبطت ارتباطا وثيقا باحداث العنف الكبرى التي ترتكبها تنظيمات القاعدة والمجاميع المتشددة. ويتذكر عوديشو ان اوسع حركتي هجرة عرفهما كانتا بعد حملة تهجير المسيحيين من الموصل عام 2008 ومجزرة كنيسة سيدة النجاة خريف 2010. ففي ذلك الوقت، تلقى عوديشو عشرات الاتصالات المحمومة من مسيحيين في بغداد وكردستان والموصل، يسألون فيها عن اسرع طريقة للهرب من العراق.

التطرف

يجزم دانيال زيا الذي كان يجهز اوراق عائلته للسفر في مكتب عوديشو، ان التيارات الاسلامية المتشددة في العراق والتي تقتل بعضها بعضا منذ سنوات “لن تتوقف عن ذلك ابدا”. لهذا فهو يعتقد أن “كل مسيحي عراقي متأكد تماما من أنه سيكون ضحية احد الاطراف المتصارعة في وقت من الاوقات”.

ابرز ما عاناه المسيحيون، قبل واثناء موجة العنف التي طالتهم بعد عام 2003، كما يعتقد الناشط المسيحي بنيامين اسحاق، ان المجتمع المسلم بدأ بعزلهم بالتدريج. ففي البداية، كما يقول اسحاق، تعرض المسيحيون في مدينة البصرة الجنوبية ذات الغالبية الشيعية الى مضايقة كبيرة من قبل الميليشيات المتنفذة هناك. حينها كان لزاما على المرأة المسيحية ارتداء العباءة الاسلامية كي يسمح لها بالسير في الشوارع. وفي أول عامين اعقبا الغزو الامريكي للعراق، اوشكت المناطق التي يتركز فيها المسيحيون في العباسية والعشار وحي الاندلس وجنينه ومنطقة الباشا والحكيمية وطويسه والجزائر، أن تخلوا من مواطنيها المسيحيين الذين غادروا مناطقهم باتجاه العاصمة بغداد وسهل نينوى ومدن كردستان.

لكن الامر تكرر معهم في العاصمة بغداد نفسها، فقد فرضت عليهم التنظيمات التابعة للقاعدة ارتداء الحجاب، وفي مراحل لاحقة، كان على المسيحيين القاطنين في المناطق الواقعة تحت نفوذ القاعدة أن يختاروا بين الدخول في الاسلام، أو دفع الجزية.

بهذه الطريقة، كما يقول الناشط بنيامين، غادر الالاف من المسيحيين منطقة الدورة ذات الغالبية السنية باتجاه مناطق مختلطة مثل بغداد الجديدة والغدير والبتاوين وكمب سارة وشارع فلسطين، تمهيدا للهجرة شمالا باتجاه كردستان.

في الموصل كانت الحكاية ذاتها تتكرر، فخلال الاعوام 2004 صعودا، كان على معظم المسيحيين التقيد بالزي الاسلامي، ودفع جزية شهرية لدولة العراق الاسلامية. وكثيرا ما كان يجد المسيحيون على جدران منازلهم شعارات تصفهم بـ”الصليبين الانجاس”. قبل ان تبدأ موجات من العنف شملت قساوسة ورهبان ومسيحيين عاديين وكنائس واديرة مسيحية، انتهت بطردهم من المدينة شتاء عام 2008.

صدام الحضارات

يعتقد الخوري قرياقوس حنا متوكة راعي كنيسة مريم العذراء في برطلة، أن التطرف الديني هو واحد من ابرز اسباب هجرة المسيحيين الى خارج العراق، ويتفق معه في هذ الطرح، المدير السابق لمنظمة حمورابي لحقوق الانسان، وليم وردة، فهو يعتقد ايضا أن تنامي التطرف الديني بالنسبة للأديان كقضية عالمية معاصرة، تسبب بتنامي موجات العنف ضد المسيحيين في العراق. فاالتطرف كما يرى وردة، “يقود مع مرور الوقت، الى التصادم بين الديانات نفسها”.

يحمل وردة، الدول الغربية الكبرى جزءا كبيرا مما يتعرض له المسيحيون في العراق، فبمجرد ان ظهر الفلم المسيء للنبي محمد وما سبقه من رسومات مسيئة، تعرض العشرات من المسيحيين الى اعتداءات جسدية ولفظية، وارتفعت حدة خطاب الكراهية ضدهم.

يقول القس عمانوئيل متي، ان الغرب يزعم على الدوام انه حريص على الحفاظ على حياة المسيحيين في الشرق عموما، وفي العراق على وجه الخصوص، لكنه لم يكلف نفسه ان يبذل حرصا اكبر للجم المسيحيين المتطرفين هناك “على الاقل حفاظا على مسيحيي الشرق الذين يعيشون في هذه البلاد مثل اسرى”.

يعتقد القس متي أن “أية ممارسات سيئة بحق المسلمين سيدفع ثمنها المسيحيون هنا”، ويؤكد ان من حق الغرب ان يحتفظ بحرية التعبير لديه وان يمجدها، لكن “ليس من حقه ان يسمح للمتطرفين ان يسيئوا للاسلام او باقي الديانات ويتركوا مسيحيي الشرق عرضة للاستهداف بسببهم”.

يتساءل القس البازي عن الربح الذي جناه اصحاب الرسوم المسيئة للنبي محمد مقابل الخسارة الفادحة التي دفعها المسيحيون في العراق والشرق، “عمليا، لا يستطيع المتشددون ان يصلوا الى البلدان الغربية لاستهدافها الا نادرا، لكنهم يستطيعون الوصول الينا والى كنائسنا للانتقام في اي وقت يشاؤون”.

خاطب بطريرك الكنيسية الكلدانية في العراق والعالم مار لويس روفائيل الأول ساكو، مسلمي العراق خلال احتفالهم بالهجرة النبوية العام الماضي، بقوله “ليكن قلبكم رحبا في حال ارتكاب الغرب حماقات، ولا تدمجونا معهم”. رئيس الاساقفة ساكو أبلغ كاتب التحقيق، أن مستقبل المسيحيين في العراق بات منذ سنوات “غامضا ومخيفا جدا”، فالاوضاع المشتعلة في العراق وسوريا ولبنان ومصر، تربك اوضاع المسيحيين مع تنامي المغالاة لدى نسبة عالية من مواطني البدان الاسلامية، وهذا الامر بالذات، كما يقول ساكو “هو الذي يقلق المسيحيين ويدفعهم للتفكير بالهجرة الى الغرب”.

يشرح المطران ساكو فكرته بالقول إن اوضاع المسيحيين تغيرت كثيرا مع تغير الخطاب الديني في الشرق عموما، فالديانات “كانت الى وقت قريب على مسافة واحدة تقريبا”، لكن العلاقة الان تحولت الى علاقة مرتبكة مشحونة بعدم الثقة بسبب تصاعد خطاب الكراهية وصعود التيارات المتشددة.

التهجير تجارة مربحة “لكنها “قذرة”

يعتقد رئيس هيئة حقوق الانسان في اقليم كردستان ضياء بطرس،  ان استهداف المسيحيين اتخذ اشكالا متعددة خلال السنوات الماضية، فبعضه “كان مستندا على توجهات دينية متطرفة فعلا، لكن البعض الاخر كان مبينا على اطماع مالية بحتة”، فالعقارات التي كان يقطنها عدد كبير من المسيحيين في المناطق الراقية والمعروفة مثل الكرادة وزيونة والمنصور وغيرها، كانت سببا رئيسيا في تعرضهم للتهجير القسري المقرون بالتهديد بالقتل، بغية اجبارهم على الرحيل وشراء منازلهم بأسعار بخسة.

كانت هذه الظاهرة كما يرى الناشط جرجيس، تمثل واحدة من “اكثر اشكال تجارة الحروب قذارة”، وحقق ارباحا طائلة لزعماء الميليشيات المحلية وسماسرة عقارات استغلوا وضع المسيحيين الهش لصالحهم. اغلب هذه العصابات كانت تكلف مسلحين بدس رسائل تهديد تمنح المسيحي 48 ساعة للمغادرة او مواجهة  القتل. وأحيانا كانت عبارات التهديد تكتب على جدران المنازل المسيحية من قبيل “مطلوب دم، يمنع البيع والشراء”، وهذه لوحدها كانت تكفي لارغام المسيحيين على البيع والمغادرة باسرع وقت ممكن.

باعت فيان خليل منزلها في منطقة بغداد الجديدة بمبلغ لا يتجاوز الـ125 الف دولار، بعد ان وجدت على جداره الخارجي عبارة “مطلوب دم”. كان السعر الحقيق للمنزل يناهز ربع مليون دولار. لكن وقتها، كما تقول فيان، لم يكن المال يساوي شيئا مقابل حياة افراد العائلة.

الهجرة الى الخارج

تبنى بعض القساوسة والكنائس العراقية، كما يقول الشماس يوسف، تأمين عمليات هجرة للمسيحيين العالقين في دول الجوار، واحيانا، لمن كانوا عالقين في العراق نفسه. خصوصا بعد ان توسعت دول اوربية متعددة في تسهيل هجرة المسيحيين بعد مجزرة كنيسة سيدة النجاة،، ابرزها فرنسا والمانيا وايطاليا.

ريفان توما الذي نزح مع زوجته وطفليه إلى اقليم كردستان، حصل على معونة قس مسيحي في اربيل تربطه علاقات واسعة مع دوائر الهجرة في بعض البلدان الاجنبية، ليحظى بفرصة الحصول على لجوء بعد خمسة اشهر قضاها في تركيا قبل ان يتوجه الى اليونان.

يذكر الشماس يوسف أن الطريقة التي تعتمدها بعض الكنائس لتسهيل هجرة المسيحيين، تجري على نطاق ضيق، فهي تتطلب توفير استمارات من كنائس في بلدان اوربية توثق فيها كل تفاصيل العائلة المهاجرة، وتقدم فيها تعهدات من كفلاء وتقديم ضمانات مالية يتم دفعها حال وصول العائلة المعنية الى بلد الهجرة.

الى جانب الهجرة الجزئية المدعومة من بعض الكنائس، راجت الى حد كبير، تجارة تهريب المسيحيين الى اليونان وايطاليا والسويد وبعض الدول الاوربية. ويقول فريد بنيامين الذي امتهن مهنة تهريب المهاجرين من تركيا إلى اليونان، إن المسيحيين يحظون بفرصة الحصول على لجوء اكثر من غيرهم، خصوصا بعد ان سهلت اغلب هذه الدول اجراءت اللجوء الخاصة بهم. لهذا، كما يقول بنيامين “فنحن كمهربين نزاوج بين العمل الانساني بانقاذ عوائل مسيحية من الموت في العراق، وبين الربح الوفير الذي نحصل عليه بناء على ان اغلب المسيحيين يمكنهم الحصول على مساعدات من موسرين مسيحيين، او لانهم في الغالب يبيعون بيوتهم وكل ما يمتلكون للهجرة الى خارج العراق”.

كردستان تفقد موقعها كمعقل أخير لمسيحيي العراق

راهن كثيرون، بمن فيهم قادة مسيحيون ونشطاء وقساوسة، وحتى قادة اكراد وعرب، على أن كردستان العراق يمكن ان تكون حاضنة مؤقتة للمسيحيين توفر لهم الامان ريثما تستقر الاوضاع السياسية والامنية ويعودون مجددا الى مناطقهم الاصلية. التقارير المعتبرة مسيحيا تقدر عدد العوائل المسيحية التي نزحت الى مدن كردستان وسهل نينوى، بأكثر من 65 الف عائلة.

الجميع كسب الرهان، بمن فيهم الناشط المدني سعدي قرياقوس، فقد كانت كردستان فعلا حاضنة مؤقتة كما يعتقد، ولكن “باعتبارها المحطة الاخيرة قبل الهجرة النهائية الى خارج العراق”.

لا يواجه المسيحي القاطن في كردستان عادة، مخاطر الاختطاف او القتل او حتى التعرض بشكل عابر للسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، اقصى ما يمكن ان يهدد حياته هو حوادث السير كما يقول قرياقوس، مع هذا، لا تتوقف رحلات الهجرة من كردستان الى الخارج، “قد تتسارع او تبطء قليلا، لكنها ابدا لا تتوقف”.

يعني هذا عمليا، كما يقول القس بطرس حجي، أن العنف لم يكن على الاطلاق، سببا لهجرة المسيحيين من كردستان الى خارج العراق.

يشير القس حجي، في محاولة لتفسير هجرة المسيحين المتواصلة من كردستان، الى احساس المسيحيين الذين جاءوا من مجتمعات منفتحة ومختلطة نسبيا مثل بغداد ونينوى بأنهم مرغمون على العيش في مجتمع عشائري محافظ يغلب عليه التشدد لصالح القومية التي ينتمي اليها.

هذا الامر كما يقول حجي ولد لدى المسيحيين “احساسا بالغربة”، وصعوبة في التجانس مع مجتمع لا يفهمون حتى لغته. ويمتد الامر كما يقول الى مشكلات اخرى لا يدركها الا المسيحي القاطن في كردستان، أولها نظام الوظائف الذي يعتمد بشكل رئيسي على منح الدرجات الوظيفية للاكراد قبل غيرهم من الاقليات، وصعوبة المنافسة اقتصاديا في بيئة تحركها العلاقات الشخصية والحزبية. والمشاكل الثقافية المتعلقة بلغة الدراسة ونمط الحياة المختلف جذريا عن نمط الحياة الكردية.

يمتد الامر كما يقول الباحث المسيحي فابيان نعوم، الى مشكلات اخرى برزت خلال السنوات الاخيرة، ابرزها حوادث العنف التي طالت المسيحيين في زاخو ودهوك عام 2011. نعوم يرى ان احداث زاخو كانت نتيجة طبيعية لارتفاع حدة التطرف الديني في المجتمع الكردي، والذي يعرف اصلا بانه مجتمع متدين أنتج اول تنظيم متشدد في العراق هو منظمة انصار الاسلام التي سبقت القاعدة في العمل العنفي داخل العراق.

يتذكر نعوم أن الاسر المسيحية كانت ترى في اقليم كردستان مكانا أمثل للعيش، حتى جاءت احداث زاخو لتضعهم امام حالة محيرة، فقد تسببت الاحداث التي ابتدأت بصراع محلي بين تجار ومسؤولين متنافسين في الاحزاب الكردية على مكاسب تجارية، وانتهت الى عمليات استهداف للمسيحيين ومصالحهم الاقتصادية بحرق عشرات المحال التجارية والفنادق التي يديرونها، في شيوع حالة من الهلع دفعتهم الى التفكير اكثر بالهجرة الى الغرب.

كانت البداية، كما يقول النائب في برلمان كردستان سالم  كاكو مع حادثة توزيع منشورات في اسواق مدينة اربيل تتضمن عقوبات ضد المشاركين في احتفالات اعياد الميلاد وراس السنة، ثم لاحقا، وزعت بيانات في الموصل تتهم الحركة الديمقراطية الآشورية المسيحية بالتعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني، لانشاء إقليم خاص باليهود في شمال شرق مدينة الموصل المحاذية لاقليم كردستان.

تضيف وزيرة مسيحية سابقة في الحكومة المركزية، وهي باسكال وردة، الى التشدد الديني قائمة طويلة من الاسباب التي تدفع المسيحيين الى عدم الاندماج بالمجتمع الكردي والبحث عن فرصة للهجرة الى الخارج، ابرزها على الاطلاق عدم الاهتمام بايجاد بيئة حاضنة تخفف عن المسيحيين كل ما عانوه من العنف والاستهداف.

الكثير من المسيحيين، كما تقول وردة، لم يكونوا يفكرون مطلقا بترك العراق، وكانوا مقتنعين بالبقاء في كردستان، لكن منح الامتيازات بناء على انتماء المسيحي لهذه الجهة السياسية او تلك، وعدم الاهتمام بايجاد موارد رزق للمسيحيين ذوي الدخل المحدود، وهم الاعم الاغلب، جعلهم يعيشون اوضاعا معيشية ادنى بكثير من اوضاعهم في مدنهم الاصلية حيث كانوا يمتلكون اعمالا خاصة ووظائف حكومية.

تمكن عدد من المسيحيين الذين كانوا يعملون في الدوائر الحكومية في بغداد وباقي مدن العراق، من نقل وظائفهم الى كردستان، لكن المشاكل المتعلقة بهذا الموضوع بين حكومتي بغداد واربيل كانت تثير قلقهم دائما بسبب التعليمات التي تصدر بين فترة واخرى.

يعتقد ضياء بطرس، أن اغلب المسيحيين الذين لجأوا الى كردستان كانوا من الطبقات العادية والمسحوقة من العمال والموظفين. بالنسبة لاصحاب رؤوس الاموال، وهم النسبة الاقل، تحسنت اوضاع بعضهم هنا، لكن الاغلبية تدهورت اوضاعهم الاقتصادية لانهم تركوا كل ما يملكون في بغداد او باقي المحافظات.

هؤلاء، كما يعتقد بطرس، “هم الذين يجب ان نقلق بشانهم، لأن رغبتهم في الهجرة الى الخارج ستزداد مع كل صعوبات تواجههم”.

يواجه المسيحي اللاجيء الى كردستان مشاكل كبير في مجالات العمل، خصوصا بالنسبة للكادحين البسطاء، بحسب الصحفي نامق ريفان، فالعمالة الاسيوية تنافسهم في مجالات العمل بالمحلات والمطاعم والمتاجر، وفرصة العمل الحكومية تذهب غالبا للكردي على حساب المسيحي. وهو ما يعني ان المسيحي الذي نزح لكردستان ومعه مدخراته او ما بقي من ثمن منزله الذي باعه قبل مجيئه هنا، سيضطر الى صرفها على معيشته ولن يبقى معه ما يمكنه من توفير حتى مبلغ ايجار منزل بسيط.

الخوف “من الماضي”

لا تقتصر الرغبة بالسفر على المسيحيين الفقراء وذوي الدخل المحدود، بل يتعدى الامر ليصل حتى الى الاغنياء الذين يمتلكون رؤوس اموال ضخمة ومشاريع في كردستان. فالمقاول الاربعيني فارس حنا الذي يعيش في كردستان “عيشة الملوك”، قلق جدا من الاوضاع السياسية في كردستان وامكانية تدهورها لاحقا، فالامور عموما “لا تبشر بخير” كما يقول فارس. خصوصا بعد تصاعد حدة الخلافات بين الحزبين الحاكمين وقوى المعارضة التي دفعت مناصريها الى الشوارع ربيع العام 2011، وهي تتواصل اليوم في صراعات مختلفة أثرت على بناء المؤسسات والالتزام باجراء الانتخابات في مواعيدها.

يقول فارس أن الاوضاع عموما تنبئ بأن الامور قد تعود يوما ما الى مرحلة الحرب الاهلية التي اندلعت بين الحزبين الرئيسين في كردستان ما بين عام 1994 وعام 1998، وقد تقود اي مشكلة سياسية داخلية الى عودة الامور الى نقطة الصفر.

يضيف التاجر فرنسيس زيا الى مخاوف مواطنه حنا، بعض حالات الابتزاز التي يتعرض لها عدد من التجار المسيحين الكبار من قبل بعض السياسيين النافذين، فقد فرضت الظروف على زيا في اوقات متفاوتة، أن يتشارك مع بعض هؤلاء، على ان تكون الشراكة قائمة على تقديم المال من قبل زيا، فيما تنحصر مهمة الشريك  المسؤول بتوفير الحماية لزيا وللمشروع من مسؤولين مبتزين آخرين.

المنافسة بين حكومتي بغداد و اربيل

في سهل نينوى الذي يضم بلدات متناثرة ينتشر فيها المسيحيون بكثافة، يعاني المسيحيون القاطنين هناك من انهم لا يعرفون حتى الان “مصيرهم”، ففي حين تخضع هذه المناطق لنفوذ قوات الاسايش الكردية، فأنها ترتبط اداريا بمحافظة نينوى التابعة للحكومة المركزية.

النزاع بيين الجانبين يفضي في النهاية الى ان هذه المناطق تعيش اوضاعا متردية لان أيا من الطرفين لا يريد ان يصرف عليها من ميزانيته ما يكفي لجعلها مناطق قابلة للعيش بكرامة وسلام، وهو ما يحول دون بناء مدن نامية في المنطقة تستقطب المسيحيين من باقي مناطق العراق.

على العكس من ذلك، وثقت منظمات رصد مسيحية، منها منظمة حمورابي لحقوق الانسان، انتهاكات متكررة تتعلق بتعامل بعض اجهزة الامن الكردية مع مواطنين مسيحيين بقسوة. فقد احتجز مدير تربية قضاء الحمدانية في دورة مياه احد مقرات الاحزاب النافذة بعد رفضه تزويد الحزب ببيانات حكومية، وقام اكثر من  عشرين عنصرا من قوات البيشمركة الكردية باعتقال مدير دائرة الجنسية في الحمدانية لرفضه تمرير معاملة خاصة باحد المقربين منها، فضلا عن حالات ملاحقة واعتداءات جسدية لمسيحيين من قبل القوات النافذة في سهل نينوى.

في المقابل، تعرض ابناء هذه المناطق لعمليات استهداف متكررة داخل مدينة الموصل حيث يدرسون او يعملون، وكانت أخطر هذه الاستهدافات تعرض حافلات تقل طلابا مسيحيين متوجهين الى كلياتهم ومعاهدهم في الموصل، الى استهداف مروع بسيارة مفخخة وعدد كبير من العبوات الناسفة في ايار مايو 2010، اودت بحياة طالب وطالبة واصابة 181 آخرين.

ايضا، امتد الامر ليشمل انتهاكات تتعلق بعائدية اراض زراعية خاصة بالمسيحيين، بحسب ناشطين مسيحيين من مدينة دهوك، مثل التجاوزات التي وقعت على قرية كوري كافان والتي ابلغ سكانها بأن 88%  من مساحتها صارت ملكا للحكومة، اضافة الى منع المسيحيين العائدين الى قراهم التي هاجروا منها في عقود ماضية، من بناء مساكن فيها او زراعتها احيانا.

وغالبا ما تقف الحكومات المحلية مع الاكراد الذين استولوا على هذه الاراضي، بحسب هؤلاء الناشطين.

يلقي ابلحد افرام باللائمة على الكتل السياسية العراقية في مسألة تهميش المواطن المسيحي واشعاره بانه مواطن من الدرجة الثانية، ففي الغالب، لا يحصل المسيحي على درجة وظيفية عالية كمدير عام او غيرها من الوظائف المهمة، لأن هذه الوظائف اصبحت حكرا على الاطراف العراقية المهيمنة على الحكومة.

باستثناء وزير واحد في كل حكومة عراقية شكلت منذ عام 2003، ووكالة وزارة او اثنتين، لا يحصل المسيحيون في الغالب على وظائف مهمة في البلاد. وهذا يعني وفقا لنظام المحاصصة القائم في العراق واتفاقات التوازن الطائفي والقومي النافذة، أن المسيحيين قد لا يحصلون على وظائف حكومية تناسب عددهم او امكانيتهم مطلقا. فالمسؤول الشيعي يختار ابناء طائفته في وزارته او دائرته الرسمية، ومثله يفعل المسؤول السني والمسؤول الكردي. ولا يتبقى للاقليات الا “وظائف الصدفة”، بحسب الباحث قرياقوس.

يجمع الساسة ورجال الدين والمسيحيين الذين التقاهم كاتب التحقيق، ان جزءا كبيرا من عملية اقناع المسيحيين في البقاء بالعراق يعتمد على العراقيين انفسهم، والجزء الاكبر من هذه المسؤولية تقع على عاتق حكومتي بغداد واربيل.

فبدون ان تخصص الحكومتان وظائف كافية للمسيحيين بدون النظر الى انتماءاتهم الدينية والقومية، وبدون ان توقف الانتهاكات التي يتعرضون لها في محافظات العراق ومدن كردستان، وبدون تسهيل مهمة التوطين الداخلي وتذليل صعوبات التعليم واصدار قوانين لحمايتهم من الاعتداءات واتهامات التكفير، والسماح للمسيحيين بنقل وظائفهم من المناطق الخطرة الى المناطق الآمنة. بدون هذا كله، كما يعتقد السياسيون والناشطون المسيحيين، سيكون من الصعب ان يقتنع المسيحي العراقي بالبقاء في البلاد التي تعامله على انه مواطن من الدرجة الثانية. او تستبيح دمه لانه لا يريد ان يكون جزءا من الصراع الذي لا ينتهي.

البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، ناشد مسلمي العراق في خطابه نهاية العام الماضي، ان يكونوا اكثر رأفة باخوانهم المسيحيين، “نحن المسيحيون شركاؤكم في البشرية، وفي الوطن.. كنا هنا قبل مجيء الاسلام، وبقينا معكم نقاسمكم السراء والارض… حافظوا علينا من اجلكم، فان هجرتنا من العراق تضركم انتم اكثر مما تضرنا”.

يدرك رافائيل ايشوع الذي ولد وعاش في بغداد طوال سني عمره الاربعين، ان ثقافته وانتمائه للعراق وللشرق، سيتلاشى تماما خلال بضعة سنين يقضيها في المهجر،  لكنه لن يتمكن ابدا من ان ينسى والديه واخيه ادمون، ولا الكلمات التي كتبها شاعر مسيحي يعتب فيها على نخيل العراق، لا لشيء، إلا لأنه لم يطعم مواطنيه تمرا مغمومسا بالوفاء بالمقدار الذي يكفي لكي يدافعوا عن اخوانهم المسيحيين، ولا يتركوهم عرضة لعذابات الموت والتشرد من مكان الى مكان، ومن بلد الى بلد.

انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبأشراف محمد الربيعي.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17396}" data-page="1" data-max-pages="1">