تحقيقات استقصائية: صحافة كردستان العراق أسيرة حجب المعلومات والترهيب الأمني والسياسي

صحافة كردستان العراق أسيرة حجب المعلومات والترهيب الأمني والسياسي

صحيفة الحياة اللندنية

19 نيسان ابريل 2013

تحقيق: كورال نوري
كورال نوري
بعيون حائرة، سحب الصحفي دلشاد انور،من تحت طاولة مكتبه الصغير مجموعة ملفات تراكم عليها الغبار، انها تحقيقاته التي أمضى في العمل عليها اشهرا، دون أن تكتمل بسبب “سياسة حجب المعلومات” المتواصلة في العراق، بعد عشر سنوات من تغيير نظام الحكم فيه، ما يثير اسئلة مقلقة حول مستقبل الحريات في بلد يواجه اضطرابات سياسية ومعدلات فساد مرتفعة تهدد تطوره.
أنور الذي يعيش في مدينة كلار التابعة للسليمانية، وهي كبرى محافظات اقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي منذ نهاية حرب الخليج الاولى 1991، يتحدث بصوت تغلبه الحسرة، عن التحديات التي تواجه العمل الصحفي، بل وحتى برنامج محاربة الفساد المعلن من قبل الحكومة منذ اعوام، في ظل عرقلة صدور قانون يضمن حق الحصول على المعلومات في الاقليم.
“نحن نبحث عن الحقائق ليس إلا، لكنهم يمنعوننا بطرق وحجج شتى ويضعوننا دائما في محل اتهام”، يقول انور مبديا استياءه من عرقلة المؤسسات الرسمية لجهود الصحفيين في الحصول على الكثير من المعلومات “هكذا الأبواب تظل مقفلة في وجوهنا، والقلق يلازمنا من الخوض في الكثير من التفاصيل”.
يؤشر انور، الذي يعمل منذ سبع سنوات في مجال الصحافة، تلك “الحقيقة المرة” التي تحتم على الصحفي أن يختار بين نقل الأحداث العامة والتصريحات المعلنة و”ينعم” بالهدوء القاتل لمهنيته، وبين الخوض في غمار عمله الحقيقي وتعقب الملفات الشائكة، وحينها يكون عليه مواجهة المشاكل المحتملة مع السلطات.
قائمة المواضيع التي تدخل في دائرة الممنوعات وتشملها “سياسة حجب المعلومات” في الاقليم، بحسب صحفيين، طويلة، فهي تبدأ بالمجال الأمني المتشعب بين عدة وزارات وهيئات، مرورا بالمطارات والمعابر الحدودية والمؤسسات المعنية بالنفط والغاز والثروات الطبيعية الاخرى، وتتواصل مع مؤسسات الرئاسات الثلاث، دون ان تنتهي عند السياسات الحزبية وتنظيماتها وموازناتها. حتى تحولت تلك السياسة الى “نظام عمل” لم يفلح الصحفيون في اختراق اسواره، في وقت ينتظر قانون حق الحصول على المعلومات في ادراج البرلمان منذ دورتين، وسط اتهامات الصحفيين للسلطة بانها لا تريد اقراره.
البحث في الفراغ
حاول انور لأسابيع كتابة تحقيق عن مصير النفط المنتج من آبار منطقة حسيرة التابعة لناحية سرقلا بمحافظة السليمانية، بعد حصوله على معلومات تفيد بحصول عمليات بيع مشكوك فيها الى ايران “سمعت بنقل 11 مليون لتر وبكتاب رسمي، عبر أحد اقارب مسؤول كبير جعل من نفسه وكيلا للشركة المستثمرة للحقل، وأردت ان اصل الى الحقيقة، لكن دون جدوى”.
خلال فترة متابعة الموضوع اتصل الصحفي، بمديرة الناحية سروة محمد، لكنها رفضت الحديث عن الموضوع لأنه”لا يدخل في اطار العمل المناط بها”. واتصل ايضا بالناطق الاعلامي الرسمي لادارة منطقة كرميان هفال ابراهيم، فأجابه بكلمات معومة لا تتضمن أي معلومات مفيدة، وسرعان ما اعاد الاتصال بالصحفي وابلغه بضرورة عدم نشر أية كلمة مما قاله له. بينما فشلت كل محاولاته في الاتصال بشركة ويسترن زاكروس المعنية باستخراج النفط هناك “لا أحد يعرفهم، هم يخفون المعلومات حتى عن الموظفين الكرد الذين يعملون في شركتهم”، يقول انور بعصبية.
بعد فشله في الحصول على المعلومات من ادارة منطقة كرميان، اتصل انور بوزارة الثروات الطبيعية في حكومة كردستان، لكن مستشارها سيروان ابو بكر، رفض التعليق على الموضوع.
غلق الأبواب واثارة الشكوك
“الكثير من الملفات المهمة للمجتمع وللحكومة، تموت في ادراج مكاتب الصحفيين دون ان ترى النور”، يقول آلان طه، الناشط المدني المهتم بحرية الوصول على المعلومات، منبها الى ان هناك “ثقافة عمل موروثة في معظم المؤسسات الحكومية تصر على حجب المعلومات”.
ويشير طه الى ان الاقليم “بعد 22 عاما من الحرية، ما زالت الكثير من مؤسساته تعمل بعقلية نظام حزب البعث في الحذر من الصحفيين والباحثين، واحاطة نفسها بأسوار عالية”، لافتا الى ان تلك السياسة “هي التي تثير مزيدا من الشكوك حول سلامة عمل المؤسسات التي تصر على غلق ابوابها”.
وهو ما يؤكده، الباحث والأكاديمي هاشم زيباري، الذي عانى طويلا، حين قرر في عام 2004 تقديم رسالته في الماجستير عن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين العراق وتركيا، قبل ان يحول وجهته مضطرا الى موضوع آخر.
يقول زيباري “حينها كنت طالبا في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة الموصل، واتفقت مع مشرفي على ان يكون بحثي العلمي متركزا على موضوعة التبادل التجاري بين تركيا والعراق ومن ضمنها اقليم كردستان، لكني فوجئت بأن المصدر الوحيد للمعلومات والبيانات والاحصاءات داخل العراق هو منفذ ابراهيم خليل الحدوي بين البلدين، وان مسؤولي المعبر يعتبرون حجم الحركة التجارية من الأسرار”.
مديرية جمارك ابراهيم الخليل، اخبرت الباحث انها لا تملك صلاحية اعطاء المعلومات، مطالبا اياه بمراجعة وزارة المالية في اربيل، والتي لم يفلح الباحث في أن يحصل على شيء منها، وبعد ثلاثة اشهر من المحاولات الفاشلة، غير زيباري عنوان بحثه الى “العلاقات الاقتصادية بين تركيا والاتحاد الاوربي”.
معلومات أم أسرار
قصص معاناة الصحفيين والباحثيين، مع ثقافة حجب المعلومات والأوامر الادارية التي تعيق الوصول اليها، تتكرر في كل مجالات العمل الصحفي بالاقليم، فالصحفية نياز عبدالله، التي تعمل في اذاعة (نوا) بمدينة اربيل، واجهت المشكلة ذاتها لدى مراجعتها لوزارة الثقافة لانجاز تقرير عن حجم الاهتمام بمجال السينما والتخصيصات التي رصدتها الوزارة لتطوير العمل السينمائي خلال عام 2011.
نياز ابدت صدمتها، لرفض المعنيين تزويدها بما ارادته، فهي لم تطلب معلومات تخص الشأن الأمني او السياسي ولا عن موازنات الأحزاب أو مصدر ثروات المسؤولين، تقول نياز إن الدستور والقوانين في كردستان “تؤكد على حرية عمل الصحفي، لكن القانون شيء، والواقع شيء اخر تماما”.
حصل ذلك ايضا مع (ن ب) الذي يعمل في صحيفة كردية خاصة، حين أراد التحقق من معلومة عن أحد ابناء رئيس اقليم كردستان تتعلق بمنحه رتبة عسكرية كبيرة (لواء) لا يمكن لشخص في نهاية العقد الثاني من عمره ان يحصل عليها.
يقول (ن ب)، “حين اتصلت بمصادر عسكرية رسمية رفيعة ليؤكدوا او ينفوا هذه المعلومة، رفض الجميع التحدث بأي شيء عن الموضوع، بعضهم طلب مني ان انسى اصلا انني اتصلت به ولا اتحدث عن هذا مطلقا، وهناك مصدر قام فعلا بالتوسط لدى زميل لي يعمل في الجريدة وطلب منه التأكد من عدم ورود اسمه في اي شيء قد ينشر عن الموضوع”.
تعليمات بمنع التصريح
يواجه الصحفيون بكردستان على الدوام، مشكلة وجود تعليمات معممة على العديد من المؤسسات الحكومية بعدم الادلاء باية معلومات للصحافة، ما لم يحصل الصحفي على اذن رسمي من جهات عليا، وهو ما يؤكده صباح الاتروشي، وهو صحفي مستقل عمل بمكتب قناة ناليا التلفزيونية الخاصة، فشل كغيره من الصحفيين في اكمال العديد من التقارير التلفزيونية والصحفية، بسبب سياسة حجب المعلومات.
يقول الاتروشي “اطلعت قبل عامين ومن خلال مواقع دولية، على خبرين اقتصاديين عن حقل طاوكي النفطي في منطقة زاخو باقليم كردستان، واردت التأكد من المعلومات عبر زيارة الحقل واجراء لقاءات مع المسؤولين فيه، لكني ابلغت عند بوابته بأن هذه المواضيع خط احمر وان علي الحصول على موافقة وزارة المواد الطبيعية او جهات عليا، وقد فشلت كل جهودي لاحقا للحصول على الموافقات”.
توثيق انتهاكات بحجب المعلومات
للتحقق من مدى تجاوب الجهات المعنية مع من حاوحجب المعلومات، قدمت كاتبة التحقيق، في شباط واذار 2012،عشرة طلبات الى جهات حكومية وحزبية متعددة، للحصول على معلومات محددة، لانجاز تقارير للصحيفة التي تعمل بها، وبكتب رسمية، لضمان توثيق الطلب.
شملت الطلبات:
-طلب مقدم للحزبين الحاكمين في الاقليم للحصول على معلومات عن ميزانيتهما وعدد مقراتهما في كردستان.
-طلب مقدم لوزارة المالية للحصول على معلومات عن المبالغ التي تلقتها حكومة الاقليم من الحكومة الفدرالية ومخصصات الأحزاب منها للسنوات 2009- 2011.
-طلب مقدم الى رئاسة الحكومة للحصول على معلومات عن حجم الأموال التي خصصت لمحافظات الاقليم الثلاث للسنوات 2009 – 2011 وحجم ما صرف منها.
-طلب مقدم لوزارة التعليم العالي للحصول على معلومات عن الاستثناءات التي شملت بعض طلاب الماجستير والدكتوراه بمحافظات الاقليم، من الذين لم تتوفر فيهم شروط الحصول على مقاعد في الدراسات العليا.
-طلب مقدم الى المجلس الأعلى للمرأة، حول ميزانية المجلس منذ تأسيسه وحتى نهاية عام 2011 وفي اي مجالات تم صرفها.
-طلب قدم الى دار القضاء في السليمانية، للحصول على احصائيات عن عدد قضايا الصحفيين المرفوعة لها، وما حسم منها للصحفيين للاعوام 2010-2011.
-طلب قدم الى مديرية الاسايش العامة في الاقليم حول عدد ضحايا الحرب الداخلية من الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي.
-طلب قدم الى مديرية الجمارك في السليمانية، بشأن عدد النقاط الجمركية في حدودها؟ وحجم ايراداتها السنوية؟
-طلب قدم الى مكتب مديرية متابعة العنف ضد المرأة في السليمانية، حول احصائيات العنف ضد النساء للاعوام بين 2009 و2011.
كانت نتائج الطلبات المقدمة مخيبة للآمال، فقد أعطت دائرة واحدة فقط هي “مديرية متابعة العنف ضد المرأة” المعلومات المطلوبة، فيما اهملت الدوائر الاخرى الطلبات المقدمة او ردت بعدم قدرتها على منح تلك المعلومات او عدم امتلاكها، وهو بالضبط ما قاله مسؤول اعلام المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني عبد الرزاق شريف، لكاتبة التحقيق ردا على الطلب: “لا اعتقد انك ستحصلين على هذه المعلومات”، فيما قال المتحدث باسم المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني في السليمانية عبد الوهاب علي ان “هذه المعلومات غير متوفرة وقد يعرفها شخص او اثنين او ثلاثة في الحزب”. وتعهد المسؤولان الحزبيان بعد عدة اتصالات على ارسال طلبها لجهات أعلى للنظر في امكانية الرد عليها، ولاحقا تم سؤال كاتبة التحقيق، عن سبب مطالبتها بتلك المعلومات “كونها سرية”.
فيما كان الرد على الطلب المرسل الى مديرية الاسايش العامة في الاقليم، والذي سلمته كاتبة التحقيق الى قادر حمة جان (المدير في حينها) حول عدد ضحايا الحرب الداخلية من الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي، هو ان العدد “فيفتي فيفتي”. فطلبت كتابة التحقيق تحديد الرقم، فوعدها بالرد لاحقا، لكن الجواب لم يأت، رغم استمرار محاولاتها.
وبذات النتيجة (الاهمال، التسويف، عدم توفر المعلومات) انتهت المحاولات المتوالية لكاتبة التحقيق طوال عام كامل، في الحصول على اجابات لأسئلتها وللمعلومات التي طلبتها، فيما “نصحها” العديد ممن وجهت لهم الطلبات “بعدم اضاعة وقتها”.
قانون معطل منذ 6 سنوات
يضمن قانون العمل الصحفي الصادر في 2007 من برلمان كردستان في مادته الثانية، حق حصول الصحفي على المعلومات: “للصحفي حق الحصول على المعلومات التي تهم المواطنين والمرتبطة بالمصلحة العامة من مصادرها المختلفة وفق القانون”.
كما أن مشروع دستور اقليم كردستان، الذي تم مناقشته واقراره في الدورة البرلمانية (2005- 2009) وينتظر الاستفتاء عليه من قبل اهالي الاقليم، يتضمن فقرة تقول: “يضمن حق الحصول على المعلومات بقانون”.
وهذا يعني وجوب صدور قانون ينظم حق (الحصول على المعلومة) ويكون مكملا لقانون العمل الصحفي. وهو ما يطالب به الصحفيون بكردستانمنذ تسعينات القرن الماضي، وقبل سنوات من بدء العمل على انجاز مسودة مشروع سمي (بقانون الضوء) وقدم في الدورة البرلمانية (2005- 2009) دون ان تتم مناقشته، ليعاد تقديمه في الدورة البرلمانية الحالية (2009 – 2013) تحت اسم (مشروع قانون ضمان حق الحصول على المعلومات) رغم اعتراض الكثير من الصحفيين على العديد من مواده، ليناقش هناك في عدة جلسات دون التوصل الى أية نتيجة.
كان احد اهم أهداف اعداد مسودة مشروع القانون الذي تم صياغته من قبل النائب السابق والعضو بالاتحاد الوطني الكردستاني سردار هركي، مع مجموعة من الاعلاميين والقانونيين، هو “معالجة الفساد وترسيخ مبدأ الشفافية” كما يقول هركي، لكن البرلمان لم “يجعل تشريع القانون هدفا من ضمن اهدافه في الدورة السابقة، لذا تم احالتها الى الدورة الحالية”.
على خط انتظار القانون الموعود، لم يقف الصحفيون مكتوفي الايدي، بل واصلوا المطالبة بقانون عصري لمنح المعلومات عبر بيانات وورش عمل ومؤتمرات، كان بينها مؤتمر اربيل الذي عقد في آذار 2008 بمشاركة شخصيات قانونية وبرلمانية وناشطي مجتمع مدني، وتمخض عنه تشكيل مجموعة 19 لحق الحصول على المعلومات، بهدف الضغط لتشريع القانون.
لكن تلك الجهود لم تصل الى مستوى تقديم مشروع متكامل للحصول على المعلومات، وهو ما يبرره صحفيون بعدم جدوى تقديم مشاريع لا يمكن ان تأخذ بها الحكومة ونواب الاغلبية بالبرلمان الكردستاني، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، متهمين السلطة “بعرقلة” اقرار قانون جيد للحصول على المعلومات.
فيما يتساءل الصحفي ك كاميران، عن جدوى تشريع قانون، يصعب على السلطة التنفيذية الالتزام به، مشككا بجدية السلطة في اصدار قانون يفتح الباب امام الاطلاع على ملفات في مؤسسات كان محظورا عليهم الاقتراب منها “ان السلطة تريد قانونا يناسبها”.
نصف حرية .. نصف صحافة
غياب ذلك القانون، وعدم وضوح ميدان العمل ولا قواعده، يحمل تداعيات خطيرة على العمل الصحفي الذي يصبح غاية في التعقيد والهشاشة من جهة، ومنزوعا من سلطته من جهة اخرى.
يقول رئيس التحرير السابق لصحيفة هاولاتي الأهلية كمال رؤوف، ان الصحفي “اذا لم يحصل على المعلومة من مصدرها الأساسي سيضطر للجوء الى مصادر أخرى دون مستندات او وثائق، وهو ما سيؤثر يؤثر على مهنية العمل، وهذا هو الجزء الأكبر من الأزمة التي يمر بها الاعلام الكردي”.
ويؤشر رؤوف الى وجود “حقول الغام” كثيرة لا يمكن الخوض فيها، كملفات انتاج وتصدير النفط والغاز والتي تكثر حولها الشبهات، يضيف رؤوف “لقد تحدثت بنفسي الى وزير الثروات الطبيعية في حكومة الاقليم ومع رئيس الحكومة نيجيرفان بارزاني، وطلبنا ان نرى الاتفاقيات والبروتوكلات التي ابرمت مع الشركات المستثمرة، فقدموا لنا بعض المعلومات وحجبوا ما هو مهم”.
بدوره يتساءل الصحفي شوان محمد، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفة ئاوينه الاهلية، عن سبل ضمان الدقة والحرفية اذا كانت المعلومات تحجب. ويضيف بغضب مكبوت، بينما ارتسمت ابتسامة على وجهه “كيف لنا ان نعمل، وكل مسؤول سواء كان كبيرا او صغيرا يعتبر نفسه صمام أمان للأمن القومي ويُدخل كل موضوع في هذا الباب الحساس، فيرفض اعطاء المعلومة”، مؤكدا ان معظم المعلومات التي يطلبها الصحفيون ليس لها اي علاقة بالأمن القومي.
وبحكم تجربته الطويلة، يرى محمد ان اكثر الجهات التي تحجب المعلومات في الاقليم هي: الأجهزة الأمنية بتشكيلاتها المختلفة (الآسايش، الباراستن، زانياري)، وزارة الداخلية، وزارة المالية، وزارة الثروات الطبيعية، ورئاسة الاقليم. ويتساءل كيف لنا التعامل مع هذه المؤسسات في ظل غياب قانون حق الحصول على المعلومات، متهما سلطات الاقليم بعدم الرغبة في اصداره: “اي قانون يريدون اقراره يعطونه الأولوية، فهم انتقائيون، وبصراحة: هم لايريدون اقرار هذا القانون”.
وينبه محمد الى جانب آخر “يثير الاستغراب” ففي كل دوائر الدولة، هناك قسم للاعلام ومسؤول اعلامي، الا انه في الغالب لا يملك صلاحيات اعطاء المعلومات الا في اطار محدود، وهو ما ينتقده الصحفيون باستمرار، متسائلين عن جدوى وجود “أعداد كبيرة” من الموظفين والكوادر في الأقسام الاعلامية بالدوائر، دون ان تتمكن من تقديم المعلومات.
تهديد أسس العمل الصحفي
ومع غياب المصادر الأساسية للمعلومات ولجوء الصحفيين الى مصادر أخرى، تبرز العديد من المخاوف، فالصحفي قد يقع في مطب عدم صحة معلوماته ما يعرضه للمساءلة القانونية، وقد يضعه ذلك في دائرة الاتهام بنشر معلومات سرية حتى مع صحتها. وقد رفعت العديد من الدعاوى ضد صحفيين في المحاكم خلال السنوات الأخيرة بسبب اتهامهم بنشر معلومات غير صحيحة او نشر معلومات تضر باستقرار الاقليم. ويحاكم الصحفي كارزان كريم، بتهمة تسريب اسرار امنية عن مطار اربيل الى الصحافة.
تقول الصحفية ئالا لطيف، وهي طالبة ماجستير بقسم الاعلام بجامعة السليمانية،ان الواقع الحالي يضع الصحفيين أمام خيارين سيئين، اما الاعتماد على مصادر غير مباشرة تعطي معلومات خاطئة احيانا او منقوصة او معلومات يريد مانحها الترويج لها بهدف معين، او البقاء تحت رحمة المصادر المعلنة وتحويل الصحفيين الى مجرد ناقلين للتصريحات، دون الخوض في العمل المهني المتعلق بالبحث والمتابعة والتحقق.
ويرى رئيس مؤسسة (ئاوينه) الاعلامية، ئاسوس هردي، ان صدور القانون أمر غياة في الأهمية، لتجاوز مشكلة الحصول على المعلومات بالعلاقات الشخصية وبطرق غير مباشرة ومن مصادر ترفض الكشف عن هويتها.
“قانون الضوء” الذي لم ير النور
سياسة الحجب المستمرة للمعلومات، وفي مواضيع عامة لا تتعلق بالأمن القومي حتى بمفهومه العام، هو الذي يجعل اصدار قانون يتيح الحصول على المعلومات دون قيود “اولوية في اقليم يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة ويعاني من فساد في قطاعات عديدة، فالباحثون يحتاجونه لتحديد الاشكالات ووضع المعالجات التي تخدم الدولة وكذلك الصحفيون لتطوير الصحافة وتمكينها كسلطة مؤثرة في بناء أي مجتمع ديمقراطي حي”، بحسب الصحفية والباحثة الاقتصادية سعاد قادر.
لكن تلك السلطة “المقيدة الآن”، لا يمكن لها ان تتطور عبر مشروع قانون (ضمان الحصول على المعلومات) المعروض على البرلمان الكردستاني، والذي يواجه بانتقادات كونه يقيد الحصول على المعلومات، وفق ما تقوله الصحفية نياز عبدالله التي تعمل في اذاعة نوا “المشروع فيه مواد تضع الرقابة وتحجب المعلومة اكثر من اتاحتها، عبر مفردات ومصطلحات مطاطية غير واضحة التعريف، مثل: “المصالح الوطنية والأمن القومي”.
هيئة لمنح المعلومات
ويتضمن مشروع القانون المركون في اروقة البرلمان، تأسيس هيئة تكون مسؤولة عن منح المعلومات، وهو امر محل خلاف، وفق البرلماني عن التحالف الكردستاني دانا سعيد صوفي “لا يوجد اتفاق على نوعية المعلومات التي يجب ان تتوفر للمواطنين وتلك التي يفترض ان تكون سرية لفترة زمنية محددة، كما هو معمول به في بعض الدول”.
وتابع صوفي “نحن لم نتعود على ان تكون المعلومات متاحة، وهناك جهات حزبية تعتبر الوثائق والمعلومات مسألة متعلقة بالمؤسسات المعنية والأشخاص البارزين فقط وليس بالمواطنين، وهذا ما يخلق لا مبالاة تجاه تشريع القانون”.
وبدوره ينتقد النائب عن التحالف الكردستاني بالبرلمان العراقي سامان فوزي، الذي يحمل دكتوراه بالقانون ومختص بقانون الصحافة، مشروع القانون المعروض على البرلمان الكردستاني بسبب “نواقصه الكثيرة”، مشددا على أهمية صدور قانون يضمن الحصول على المعلومات دون قيود، منبها الى ان اصدار قانون العمل الصحفي في الاقليم دون وجود قانون للحصول على المعلومات يجعل القانون الاول ناقصا.
هذا الرفض لمحتوى القانون المعروض على البرلمان من قبل صحفيين ومثقفين، والخلافات بين النواب حوله هو الذي فرض تعليق المشروع، بحسب النائب عن كتلة التحالف الكردستاني ئاسو كريم “الآراء المتضاربة للكتل بشأن نوعية المعلومات المتاحة وتلك المستثناة والى اي مدة زمنية يمكن حجبها، وكذلك بشأن وجود هيئة لتنفيذ القانون، كلها دفعت لتعليق المشروع، فالتعليق افضل من اصداره بشكله الحالي”.
وتتركز الخلافات على مادة في المشروع تتضمن استثناءات منح المعلومات لأسباب تتعلق بالاضرار بالأمن الاقتصادي او الوطني او علاقات الاقليم ووضعه الداخلي والخارجي، وتشمل 11 فقرة، يرى فيها صحفيون وقانونيون ان وجودها سيعني تمكين عشرات المؤسسات من حجب معلوماتها، منبهين الى ان الفقرات مصاغة باسلوب لغوي مطاطي ما يفتح الباب امام تفسيرات مختلفة.
الاستثناءات في مشروع القانون
تنص المادة (15) من الفصل الثالث لمشروع القانون على:
حق الهيئة العامة والخاصة رفض اعطاء معلومات او نسخ وثائق في الحالات التي تلحق اضرارا بـ:
أ-  اسرار خاصة بالدفاع الوطني وأمن اقليم كردستان والعراق.
ب- تؤثر سلبا على المفاوضات التي يجريها الاقليم مع اية جهة.
ج- حسن سير المحاكمات وتحقيق العدالة.
د- القاء القبض على المجرمين او المشتبه بهم.
ه_ ا لمعلومات عن العطاءات اوالابحاث العلمية او التقنية التي يؤدي الكشف عنها الى الاخلال بحق المؤلف والملكية الفكرية والمنافسة العادلة المشروعة او التي تؤدي الى ربح او خسارة غير مشروعين لأي شخص او شركة.
و-  المعلومات والملفات الشخصية المتعلقة بسجلات الشخص التعيلمية او الطبية او سجلاته الوظيفية او حساباته او تحويلاته المصرفية او اسرار مهنته.
ز- احداث خطر جدي بالمصالح التجارية والمالية والقانونية لهيئة عامة.
ط- تسبب ضررا جديا لفاعلية صياغة سياسة الحكومة او تطويرها.
ي- تشكل خطرا على حياة اي فرد او صحته او سلامته.
ك- اذا وصلت هذه المعلومات من طرف ثالث وشكل اعطاؤها انتهاكا للسرية او الحق ضررا بذلك الطرف.
ل- اذا وصلت هذه المعلومات بالسر عبر دولة او اقليم اخر او منظمات عالمية وكان كشفها يؤثر سلبا بالعلاقات مع تلك الدولة او الاقليم او المنظمة.
حشو وانشاء وغموض ومطاطية
ويرى القاضي سرور علي جعفر، ان المشروع بصيغته المطروحة سيحجب المعلومات في الكثير من المجالات، مبينا انه لولا الاعتراضات لمرر القانون من قبل البرلمان “بكل نواقصه وثغراته وبصياغته التي فيها الكثير من الغموض والمطاطية التي تحمل تفسيرات مختلفة، مثل قوانين أخرى صدرت سابقا، لتبدأ المشاكل بعد تطبيقه”، منبها الى ان الكثير مما موجود هو “حشو وانشاء”.
ويحمل صحفيون جزءا من مسؤولية تعطل اصدار القانون وبقائه في ادراج البرلمان لسنوات، ومخاوف صدوره بعيوبه، الى نقابة الصحفيين في كردستان، لعدم اهتمامها بالأمر بشكل يرتقي الى أهمية ذلك لمهنة الصحفي.
ويقول مسؤول لجنة الدفاع عن حقوق الصحفيين في النقابة أنور حسين، ان “صياغة المسودة كان يفترض ان تتم بمساهمة النقابة، لكن النقابة لم تكن مهتمة، لأنها منشغلة بامور ثانوية وقبول الأعضاء بالنقابة”.
لا نية لاصدار قانون جيد
ويتفق رأي النائب احمد ورتي، عن كتلة الحركة الاسلامية، مع الآراء السابقة بشأن وجود الكثير من النواقص في المشروع التي فرضت نقاشات مطولة وبلا نتيجة، واصفا المشروع بالسيء، معتبرا انه لم يقر “لعدم تكامله ولأن سلطة الاقليم لا تريد اقراره بالشكل الذي يطالب به الصحفيون”.
وشكك صحفيون وقضاة ونشطاء مجتمع مدني، في ندوة أقامتها منظمة التنمية الديمقراطية وحقوق الانسان، بمدينة السليمانية في تشرين الأول 2012،بجدية سلطات الاقليم في اصدار قانون يتيح المعلومات للصحفيين والمواطنين، متسائلين عن سر تعطل القانون في البرلمان لسنوات.
وحذر المشاركون في ختام الندوة، التي بحثت الموضوع، من ان القانون المطروح على البرلمان “يحجب المعلومة اكثر من منحها، ويحجم معيار الامم المتحدة للحصول على المعلومات”، مطالبين باقرار قانون يتلاءم مع المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وتضمينه بندا جزائيا يضمن معاقبة المسؤول الذي يحجب المعلومة عن طالبها.
ويرى استاذ الصحافة بجامعة السليمانية هفال ابو بكر، أن وجود المشروع الحالي في البرلمان، يعطل في حقيقته اصدار قانون يتيح المعلومات، معربا عن قناعته بأن المشروع “ضعيف جدا من كل النواحي بدءا بالصياغة اللغوية وانتهاء بالناحية القانونية، ومن غير المجدي تعديله”.
رأي ابو بكر، مبني على حقيقة تلمسها كما يقول: “نحن كمعنيين ناقشنا الأمر مع اللجنتين القانونية والثقافية في البرلمان، لكنهم يستمعون اليك وفي النهاية لا يكتبون الا ما يريدونه”.
بعد تنهيدة خفيفة، يبدي الصحفي ك كاميران، الذي ترك مؤخرا العمل الصحفي لينجو من دوامة الضغوط التي تلاحقه، تشاؤمه من الواقع الصحفي، متهما السلطة بعدم الرغبة في ظهور قانون يمنح المعلومات.
“هذه حقيقة يعلمها الجميع، نواب حزبي السلطة يخضعون للتعليمات الحزبية وسيعطلون القانون في البرلمان، عبر مزيد من المناقشات للمسودة الحالية، او عبر مسودات أخرى مشابهة، وحتى في حال صدوره لن يكون تطبيقه سهلا، فالكثير من القوانين الصادرة لم تنفذ على الأرض”، يقول كاميران وهو يضع يده على نسخة من قانون العمل الصحفي في كردستان، متسائلا “أين هذا القانون من التطبيق”.
* انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقــية (نيـــريج) وبإشراف سامان نوح.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17333}" data-page="1" data-max-pages="1">