تحقيقات استقصائية: تستر عليها الجيش الامريكي لسنوات: حقائق جديدة تفرض اعادة التحقيق في جريمة “اعدام تعسفي” لـ 11 عراقيا في الاسحاقي

تستر عليها الجيش الامريكي لسنوات: حقائق جديدة تفرض اعادة التحقيق في جريمة “اعدام تعسفي” لـ 11 عراقيا في الاسحاقي

فاز هذا التحقيق الذي انجزته الزميلة ميادة داود لصالح شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية نيريج، بالجائزة الكبرى عن افضل تحقيق استقصائي في العالم العربي لعام 2012 في مسابقة اريج الدولية التي اقيمت في العاصمة المصرية القاهرة اواخر شهر نوفمبر الماضي.

تحقيق: ميادة داود

جريدة الحياة اللندنية/ 23 نوفمبر 2012

كما لو أنه يراها لأول مرة، انحنى الضابط السابق مقطوع الساق ابراهيم هراط، ليجمع ما تبقى من المظاريف الفارغة للرصاصات التي قتل بها جنود امريكيون قبل ستة اعوام ونصف، في هذا المنزل المدمر بالذات، تسعة من افراد عائلته، بينهم خمسة اطفال أصغرهم لم يتجاوز عمره تسعة اشهر فقط.
لم تكشف القوات الامريكية حينها، حقيقة ما جرى ليلة اقتحام منزل معلم الابتدائية فائز هراط (28 عاما)، ورغم زعمها بأن الضحايا سقطوا نتيجة “لعملية تكتيكية” استهدفت اعتقال مسلح كويتي الجنسية يدعى احمد عبد الله العتيبي، وقتل آخر عراقي الجنسية هو عدي فارس، الا ان الدلائل التي جمعتها كاتبة التحقيق تثبت أن ما جرى لم يكن سوى جريمة “اعدام تعسفي”.
فالمسلح العراقي المقتول وفق الادعاءات الامريكية، كان يومها معتقلا في سجنها الشهير (بوكا)، ويقبع الان في سجن احد السجون الحكومية بانتظار تنفيذ حكم الاعدام بحقه بعد ادانته بارتكاب اعمال عنف.
المسلح الآخر، الكويتي الجنسية، والذي تطلب اعتقاله قتل 11 مدنيا عراقيا، سلمته القوات الامريكية الى الحكومة العراقية في تشرين الاول عام 2008، وقامت الاخيرة بتسليمه الى بلاده في خريف العام 2010، ليستكمل حكما بالسجن على خلفية قضية امنية اتهم سابقا بالضلوع فيها. وسط شكوك موثقة حصلت عليها كاتبة التحقيق بمساعدة مسؤول امني رفيع تشير الى انه كان معتقلا اصلا لدى القوات الامريكية، قبل يوم واحد فقط من تنفيذ العملية.
لم يبق الآن من منزل فائز هراط الذي اقتحمته القوات الامريكية في الثانية من صباح يوم 15 اذار مارس 2006 لقتل واعتقال المسلحين المفترضين، لم يبق منه سوى الجدار الذي اعدم بجواره الضحايا وهم موثقي الايدي، مئات المظاريف الفارغة، وفي الزوايا، تناثرت قصاصات ورق محترقة الاطراف لآخر امتحان في اللغة الانكليزية اجراه معلم مدرسة الصفة الابتدائية في منطقة الاسحاقي (100 كم الى الشمال من العاصمة بغداد).
باستثناء هذه البقايا، لم يعد ثمة شهود على العملية “المجزرة” سوى القوات الامريكية التي برأت جنودها في ذلك الوقت من تهمة الاعدام التعسفي، بعد تحقيق داخلي قالت إنها اجرته وأثبت أن “الحادث” وقع ضمن قواعد الاشتباك في القتال.
على العكس مما ذهبت اليه بيانات الجيش الامريكي، تؤكد تقارير الطب العدلي التي حصلت كاتبة التحقيق على نسخ منها من داخل مستشفى تكريت العام الذي نقل اليه الضحايا صبيحة المجزرة، أنهم قضوا جميعا برصاصات أطلقت من مسافات قريبة على منطقتي الرأس والصدر.
تقارير لجان التحقيق المحلية وشهادات العشرات من أهالي قرية الصفة التي وقعت فيها العملية، أكدت هي الاخرى أن الضحايا الذين انتشلوا من المنزل بعد ساعة من انتهاء العملية، كانوا مقيدي الايدي، ومكممي الافواه.
طوال الاعوام الست الماضية، لم تفلح الجهود التي بذلها أخوة المعلم فائز هراط بدعم من منظمات المدنية تابعت القضية، في اقناع القوات الامريكية باعادة فتح التحقيق لمعرفة حقيقة ما جرى في ليلة “المجزرة”. لكن الوثيقة السرية التي نشرها موقع ويكليكس  في خريف العام الماضي، اعادت القضية الى الواجهة مجددا.
كان الهدف من الرسالة (الوثيقة) التي وجهها المقرر الخاص لشؤون الاعدام خارج القضاء والاعدام التعسفي، فيليب الستون، الى وزارة الخارجية الامريكية بتاريخ 27 اذار مارس 2006 هو إحاطة الوزارة علما بالحادث الذي تضمن “إقتحام المنزل وتكبيل 11 شخصا من سكانه، بينهم اربع نساء وخمسة اطفال، واعدامهم، قبل شن غارة جوية دمرت المنزل بالكامل”.
لكن الوثيقة التي لم تنجح وقت ارسالها (بعد 12 يوما على المجزرة) في اقناع الجيش الامريكي بوجود حالة اعدام تعسفي في العملية، لم تنجح في ذلك ايضا حين نشرها موقع وويكليكس، فالمتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية اكتفت بالقول إن واشنطن “حققت في المعلومات” بشأن “الادعاءات” المتعلقة بإعدام مدنيين عراقيين، ورأت أن الوثيقة التي سربها موقع ويكيليكس “لا تتضمن معلومات جديدة”. وهذا يعني انها لن تجبر الامريكان على اعادة فتح التحقيق في القضية.
تفاصيل ليلة الرعب
يحتفظ شهود العيان الذين راقبوا عملية اقتحام منزل المعلم فائز هراط، بذكريات مريرة عن تفاصيل تلك الليلة. كل منهم كان يحمل في ذاكرته جزءا من القصة التي لم تكتمل حتى الان.
وتحاول الكاتبة من خلال هذا التحقيق الاستقصائي الميداني الذي التقت فيه العشرات من اخوة واقارب الضحايا، ومثلهم من رجال الامن والمحققين العدليين والمسؤولين المحليين، اعادة جمع اوراق هذه القصة مجددا لكشف سر التناقضات الحادة التي تحملها بيانات الجيش الامريكي، والصمت المريب الذي اتخذت الحكومات العراقية المتعاقبة حيال مجزرة الاسحاقي وباقي المجازر التي ارتكبتها القوات الامريكية، سواء تلك التي لم يجرم بسببها احد، او التي حصل مرتكبوها على احكام بسيطة لا يمكن مقارنتها بحجم الضحايا، ولا بالطريقة البشعة التي ارتكبت فيها.
بدأت المجزرة كما يتذكر ابراهيم هراط، الاخ الاكبر لفائز،حين حلقت مجموعة من مروحيات الشينوك الامريكية فوق سماء القرية، ثم هبط بعضها ليترجل منها عشرات الجنود الذين انتشروا في محيط المنازل المتناثرة هنا وهناك، لمداهمتها منزلا منزلا.
لم يكن منزل ابراهيم يبعد عن منزل شقيقه فائز اكثر من 75 مترا، لذلك كان متاحا له ان يرى من خلال نافذة منزله، الصورة المفجعة التي حفرت ذاكرته حتى الان، فقد كان مجبرا ساعتها على مراقبة منزل اخيه الصغير وهو يتعرض لاطلاق نيران كثيف من عشرات الجنود الامريكين، ومن كل الجهات، دون ان يتمكن من فعل شيء على الاطلاق.
كان القمر ليلتها مكتملا، ومروحيات الشينوك المنخفضة كانت توجه اضواءها الى محيط المنزل فتكشف كيف كان الجنود يتناوبون على اطلاق الرصاص باتجاه المنزل لمدة 15 دقيقة، ثم يبدأون بعملية اقتحامه من مدخليه الخلفي والامامي ليشرعوا باطلاق الرصاص  المتقطع داخل المنزل لأكثر من 20 دقيقة، قبل ان ينسحبوا منه تاركين لطائرات الشينوك مهمة تدميره بالكامل، بستة صواريخ متلاحقة.
لم يعرف احد حتى الان ماذا جرى داخل منزل فائز هراط، وحين اقتحم الجنود الامريكيون منزل أخيه ابراهيم هراط بعد تدمير المنزل بوقت قصير، لاحقهم ابراهيم “مثل المجنون” ليعرف منهم ماذا فعلوا بأمه وعائلة اخيه الصغير فائز، لكن الاجابة التي تلقاها كانت عبارة عن “ركلة قوية” اطاحت به جانبا، ودحرجت ساقه الصناعية على بعد امتار منه.
يستغرب ابراهيم حتى الان كيف ان الجنود الامريكين لم يقتلوه ساعتها، خصوصا بعد ان صرخ احدهم بقوة “اقتلوه”. فلو كانت ساقه المقطوعة المرمية جانيا سببا في اعتراض جندي امريكي آخر على فكرة القتل بحجة أنه “معاق، ولا يشكل تهديدا محتملا”، كيف اذن لم ينقذ الطفل الرضيع حسام فائز ذا التسعة اشهر من الرصاصة التي فجرت رأسه، كونه كان “رضيعا لا يمكن ان يشكل خطرا محتملا على حمامة، وليس على كتيبة من الجنود الامريكيين المدججين بالسلاح”.
“حين عثرنا عليه، كانت يداه مقيدتان من الامام، والرصاصة التي اخترقت رأسه من الخلف افرغت جمجمته من دماغه”. بصعوبة، تمتم ابراهيم هراط بهذه الكلمات وهو يعرض على كاتبة التحقيق صورا للصغير حسام التقطت بعد الحادث، كان فيها حسام مغمض العينين، كأنه غفا للتو.
البحث عن الضحايا
يتذكر عيسى هراط، وهو شقيق آخر للضحية فائز، أن ستة من الجنود الامريكيين داهموا منزله في تلك الليلة، واقتادوه مع افراد عائلته الى الحديقة وأجبروهم على الانبطاح ارضا ووجوهم الى الاسفل.
لهذا السبب، كما يقول عيسى، لم يتمكن هو والعديد من سكان البيوت المجاورة لبيت أخيه فائز، من رؤية أي شيء. فقط كان صوت الرصاص يملأ المكان ومعه هدير المروحيات التي كانت تحوم حول بيوت القرية. واستغرقت عملية الهجوم على منزل فائز واقتحام منازل القرية ثم انسحاب القوات الامريكية، قرابة الساعتين كما يتذكر عيسى.
حين انتهى كل شيء وغابت اصوات المروحيات في البعيد، هرع الجميع الى منزل فائز وهم يصرخون باسماء الضحايا واحدا واحدا، لكن دون جدوى.
يقول شقيق اخر من اشقاء فائز هو عبيد هراط، والذي كان يعمل ضابطا في الجيش حتى سقوط النظام السابق، إن رحلة البحث عن الضحايا داخل المنزل لم تتطلب وقتا طويلا، فقد كانوا ممدين في الغرفة الوحيدة التي ظل جزءا منها شاخصا، تعلوهم اغطية وضعها الجنود الامريكيين عليهم قبل ان يرحلوا.
كان جميع الضحايا، كما يقول اخوة فائز وعددا من سكان القرية، موثقي الأيدي من الخلف، باستثناء الرضيع حسام الذي كان مقيدا من الامام.
يعتقد الخبير في الشؤون العسكرية والعميد المتقاعد ناطق جواد المعموري، أن وجود قيود في ايدي الصغار بعد تنفيذ عمليات من هذا النوع، يشير دائما الى ان شخصا ما كان يتعرض للاستجواب عن طريق التهديد بقتل او تعذيب الطفل، وعلى الاغلب يكون المستجوب “والد، او والدة الطفل”.
يتطابق ما ذكره الخبير المعموري، مع اعترافات أدلى بها الجندي الامريكي السابق جيسي ماكبيث في ربيع عام 2008، قال فيها ان الجيش الامريكي في العراق كانت يتبع طريقة استجواب بشعة اثناء مداهمة بعض المنازل، إذ يقوم الجنود بالتهديد بقتل الطفل الاصغر امام انظار والديه لدفعهم الى الاعتراف بما يريدونه، ثم يواصلون قتل طفل جديد كلما تطلب الامر الحصول على المزيد من المعلومات.
هذا يبرر، كما يعتقد الخبير المعموري، تخلي الجنود الامريكين عن فكرة قتل ابراهيم هراط بعد ان تبين لهم لهم انه معاق، فالقوات التي دخلت منزله لم تكن تريد سوى ارهاب سكان المنازل المحيطة بمنزل فائز، في ذات الوقت الذي تقوم فيه القوات المكلفة بتنفيذ عمليات قتل مباشرة، بتنفيذ مهمتها.
لم يعرف عن فائز انه انتمى الى تنظيم مسلح، ورغم تواجد الكثير من عناصر تنظيم القاعدة وباقي المجاميع المسلحة في منطقة الاسحاقي ابان العنف الطائفي الذي اندلع في العراق من مطلع عام 2006 وحتى نهايات العام 2008،  فقد ظل فائز بعيدا عن اعمال العنف واكتفى بتدريس مادة اللغة الانكليزية في مدرسة القرية الابتدائية، كما يقول مسؤول امني في الاسحاقي وعدد من رجالات القرية.
اعترافات الجندي جيسي التي أتهم باختلاقها من قبل المصادر الرسمية الامريكية، تتطابق مع ما رواه جنود امريكيون اخرون عادوا من الحرب في العراق وعقدوا مجموعة لقاءات  موثقة فيديوا، واعترفوا فيها بقيام القوات الامريكية باقتحام بيوت والقيام بارهاب الاطفال والنساء. مع الاشارة الى تعمدهم ابقاء المروحيات وهى تزمجر في السماء لترويع الاهالي.
الجنود قالوا في مؤتمرهم الصحفي هذا، ان هذه العمليات كانت غالبا ما تقوم على مخاوف في غير محلها، او بناء على معلومات استخباراتية غير صحيحة.
يشعر رئيس مؤسسة حمورابي لحقوق الانسان التي وصلت الى موقع الحادث في وقت مبكر من صباح يوم 15 اذار، بالاسف لضياع الكثير من عناصر اثبات عملية الاعدام بحق الضحايا، بسبب قيام الاهالي بفك القيود والقائها على الارض اثناء استعدادهم لدفن الضحايا.
الدكتور عبد الرحمن المشهداني يقول أن العادات المحافظة لشيوخ العشائر الذين تجمعوا في المنزل بعد المجزرة، تسب في منع اعضاء المنظمة من تصوير جثث الضحايا النساء اللواتي تم تكميم افواههن بشكل عنيف باغطية رؤسهن (الحجاب).
ويؤيد ما يقوله الدكتور المشهداني، المشاهد التي تضمنها شريط فيديوي تحتفظ كاتبة التحقيق بنسخة منه يوثق عملية انتشال الضحايا من الركام ونقلهم الى المشرحة، اذ كان عدد من الرجال يحاولون ابعاد المصور عن بعض جثث الضحايا وهم يصرخون به “حرمة، حرمة”.
نتائج تحقيق الشرطة
لم تفلح تحقيقات شرطة المدينة في الوصول الى نتيجة محددة، عن أسباب وتفاصيل تنفيذ المجزرة، رغم محاولاتها المتكررة لجمع خيوطها المتشابكة.
يتذكر ضابط رفيع في مركز شرطة الاسحاقي لحظة وصوله مع قواته الى المنزل المنكوب قرابة الساعة السابعة صباحا، فقد فوجئ بحجم الدمار الذي خلفه القصف ومقدار مظاريف الرصاص الفارغة التي تغطي ارض الغرفة التي اعدم فيها الضحايا، “كان الجميع يتحرك على ركام من المظاريف الفارغة، وكان الجدار المتبقي مليئا بمئات الثقوب، وعلى بعد امتار من الغرفة المهدمة رأيت جثث اربعة ابقار وهي ممزقة، وكان المكان يشبه تماما ارض المعركة التي قتل فيها كل الاحياء”.
تقارير الطب العدلي
تشير تقارير الطب العدلي في مدينة تكريت الى أن اغلب الضحايا تعرضوا الى اطلاق نار في منطقة الراس والصدر، فيما مزق الرصاص أجساد ضحايا آخرين في مناطق مختلفة من اجسامهم.
الخاصية التي تشارك فيها جميع الضحايا، هي ان اجسادهم كانت خالية تماما من البارود، وهو ما يؤكد، كما يعتقد حبير جنائي متخصص، بأنهم “لم يستعملوا اي نوع من انواع الاسلحة”.
يفند الدليل الاخير، مزاعم الجيش الامريكي بأن جنوده تعرضوا لاطلاق نار من داخل المنزل، وهو الركن الذي بنى عليه الجيش الامريكي قصته عن المجزرة.
ويحدد التقرير الطبي الخاص بوالدة فائز (تركية مجيد/ 74 عاما) أن سبب الوفاة كان نتيجة لاطلاق نار مباشر في الرأس، وهنا يستعيد عيسى هراط لحظة عثوره على جثة والدته تركية وسط الركام، ليلة المجزرة، فحين تحسس جسدها في ظلمة المنزل المنكوب محاولا اخراجها، شاهد ان النصف الاعلى من رأسها، بدءا من الانف الى اعلى الجمجمة، قد اختفى تماما.
اما شقيقته فائزة (معلمة قراءة/ 32 عاما) التي كانت تعيل طفلين يتيمين بعد ترملها المبكر، فقد دفنت، حسب ما يتذكر عيسى، مكممة الفم بغطاء رأسها لأن الجنود الامريكيون ربطوه بقوة هائلة وكادت محاولات انتزاعه ان تشوه وجهها. التقرير الطبي يشير الى ان جثة فائزة “كانت مصابة باطلاقات نارية في الرأس والصدر والقدمين”.
مع فائزة، دفن ولدها الصغير اسامة يوسف (ثلاثة اعوام) وابنتها اسماء (5 اعوام). ويشير تقرير الطب العدلي الى ان اسامة واسماء قتلا بنفس الطريقة التي قتلت بها امهما فائزة ” اطلاق نار في الراس والصدر والبطن”. إحدى الرصاصات اخترقت خاصرة الطفلة اسماء فادخلت جزءا من ثوبها الاحمر الى داخل جسدها، ثم اخرجته من الجانب الاخر.
زوجة فائز، سمية عبد الرزاق (24 عاما)، تعرضت هي الاخرى الى اصابات في الرأس والصدر، بعد ان كمم فمها بغطاء راسها، تماما مثل الضحية فائزة هراط، الفرق الوحيد انهم تمكنوا من انتزاع الكمامة قبل دفنها. ومع سمية، دفنت ابنتاها حوراء ذات الخمسة اعوام وعائشة التي لم تتجاوز الاعوام الثلاثة من العمر. كلتاهما اصيبتا بطلقات نارية في الرقبة والصدر والبطن، كما يذكر تقرير الطب العدلي.
معهم جميعا، دفن الاهالي جثة الصغير حسام فائز الذي لم يتجاوز عمره تسعة اشهر فقط.
من بين كل الضحايا، يتذكر كل شهود العيان الطريقة البشعة التي قتل بها حسام فائز، فقد كانت يداه الناعمتين متورمتين من القيد الذي ربط به من الامام، فيما اخترقت الرصاصة رأسه من الخلف ولم تبقي من دماغه شيئا.
وحدها جثتان لم تكونا من سكان المنزل، الاولى كانت لاحدى الجارات (اقتصاد حميد 23 عام) صديقة الضحية فائزة التي كانت ليلتها معها، فقتلت مع العائلة، كما يقول عيسى هراط شقيق الضحية فائز. وعزيز خليل (24 عاما) قريب فائز الذي طرده والده من المنزل يومها لخلاف عائلي. فقتل مع افراد العائلة نتيجة لاصابته بـ”اطلاقات نارية في الصدر والاطراف العليا”.
نتائج التحقيق الامريكي
برأ الجيش الامريكي جنوده بشكل كامل في بيان اصدره في الرابع من حزيران يونيو 2006، (قبل اربعة ايام فقط من مقتل زعيم تنظيم القاعدة ابو مصعب الزرقاوي). وقال المتحدث باسم القوات الاميركية الجنرال وليام كالدويل، يومها ان “تحقيقا فتح في اليوم التالي (لمجزرة الاسحاقي)، وأظهر ان القوات الامريكية عملت وفق الضوابط العسكرية التي تحكمها في العراق”.
اعترف كالدويل أن التحقيق اثبت مقتل “ما بين 4 الى 13شخصا في العملية”، متحدثا عن أن الجيش الاميركي “داهم بلدة الاسحاقي في 15 مارس الماضي (2006) بناء على معلومات استخباراتية مؤكدة، واعتقل ارهابيا (…) هو احمد عبد الله محمد العتيبي، بينما قتل آخر يدعى عدي فارس”.
كالدويل قال أن الاول “العتيبي” يتزعم خلية في تنظيم القاعدة، أما الثاني “عدي فارس، والمكنى بابي احمد، فهو عراقي متورط بصناعة العبوات الناسفة، وتجنيد سكان محليين في حركة التمرد”.
واعاد كالدويل رواية قصة المجزرة بطريقة اعتادت عليها القوات الامريكية حينذاك، وهي أنها “تعرضت لدى وصولها الى المنزل لاطلاق نار مستمر من داخله (…) مما استوجب استدعاء قوات اسناد جوي للسيطرة على الموقف”، والقيام  بـ”عمليات تكتيكية” داخل المنزل المستهدف الذي عثر فيه على “جثة المدعو عدي فارس مع جثث ثلاثة اشخاص غير مقاتلين”، مشيرا الى ان ضابط التحقيق “رجح ان يكون تسعة اشخاص اضافيين قد قتلوا نتيجة اضرار جانبية نجمت عن الاشتباك، ولكن لم يتسن تحديد العدد الدقيق بسبب الجدران المنهارة والانقاض الهائلة”.
انهى كالدويل قصته بأن “اتهام جنود امريكيين باعدام عائلة تعيش في منزل آمن باطلاق النار على افرادها مباشرة وقتلهم بدم بارد، ثم قصف المنزل بعد ذلك لاخفاء الجريمة، شيء لا اساس له من الصحة”.
النتائج التي اعلنها كالدويل تناقضت بالكامل مع نتائج اخرى اعلنها الجيش الامريكي منذ اليوم الاول تنفيذ العملية وحتى اليوم الاخير الذي سبق بيان كالدويل، فكلها تشير الى أن “مسلحا واحدا وامرأتين وطفلا قتلوا في الهجوم”.
وفقا لرواية كالدويل، فقد قتل اربعة اشخاص (ابو احمد، وثلاثة اخرين هم امراتين وطفل) اضافة الى تسعة اخرين (هم بقية الضحايا)، ما يعني ان المجموع كان 13 عشر قتيلا. لكن تناقض الارقام، وعدم التفريق بين وجود 4 جثث (البيان الامريكي الاول) أو 13 جثة (بيان كالدويل) أو 11 جثة (عدد الجثث التي تم انتشالها من المنزل المدمر بحسب شرطة الاسحاقي)، يشير بوضوح الى ان الامريكيين كانوا يخفون كل الحقائق المتعلقة بتنفيذ المجزرة، بما فيها العدد الحقيقي للضحايا.
السؤال المحير الذي لم يجب عنه الامريكان في كل بياناتهم، هو كيف ان العتيبي تمكن من البقاء حيا بعد اطلاق نار كثيف تم توجيهه للمنزل طوال 15 دقيقة من كل الجهات، ثم اطلاق نار متواصل لمدة 20 دقيقة داخل المنزل.
كيف قتل الجميع، بمن فيهم الاطفال الخمسة، ونجا العتيبي. ولو صح ان الجنود الامريكيون كان لديهم القدرة على اعتقال العتيبي دون قتله، لماذا قاموا بابادة الاخرين رغم أن اغلبهم كانوا من النساء والاطفال غير المسلحين اصلا.
تهرب الجيش الامريكي من الاجابة عن هذا السؤال رغم محاولات كاتبة التحقيق المتكررة للحصول على تعليق منهم، وهو ذات الشيء الذي فعلته السفارة الامريكية التي ابلغت كاتبة التحقيق بأنها “ليس لديها اي تعليق”.
المقاتل العراقي (الميت الحي)
تذرعت القوات الامريكية بوجود مقاتل عربي الجنسية داخل منزل العائلة المنكوبة يدعى احمد عبد الله العتيبي، ومسلح عراقي يدعى عدي فارس، لكن المفاجأة الاولى التي وثقتها كاتبة التحقيق، ان المقاتل العراقي الذي زعمت القوات الامريكية انه قتل اثناء الهجوم (عدي فارس عبد الله المجمعي، الملقب بابي احمد)، ما زال حيا. ولم تفلح محاولات كاتبة التحقيق في اقناع السلطات العراقية بالسماح لها بلقاء عدي فارس في سجنه بمدينة تكريت.
عدي فارس صار سجينا شهيرا منذ أن نجح في الهروب من السجن مع 15 سجينا اخر من مسلحي تنظيم القاعدة، في ايلول سبتمبر عام 2009. وتابع كل العراقيين حينذاك تفاصيل البحث والقاء القبض على السجناء الهاربين، والتي انتهت بالقاء القبض على آخرهم، عدي فارس نفسه، بعد عامين من فراره.
في اتصال هاتفي أمنه “وسطاء” مع والد عدي فارس، قال الاخير أن ولده كان معتقلا من عام 2005 لدى القوات الامريكية، وأنه سمع بمقتله داخل منزل فائز هراط مثلما سمع الناس، لكن الامر لم يكن صحيحا على الاطلاق لأنه تمكن من زيارته مرات متعددة بعد تنفيذ عملية الاسحاقي.
تنتظر كاتبة التحقيق الان، موافقة السلطات العراقية على السماح لها بمقابلة عدي فارس في سجنه لمعرفة حقيقة مقتله وفق البيانات الامريكية، وبقائه على قيد الحياة وفقا للقيود الرسمية العراقية وسجلات السجون.
رحلة البحث عن “الزعيم الكويتي”
بامتناع القوات الامريكية عن التعليق، ومقتل كل الضحايا الذين كانوا في المنزل المنكوب، وثبوت أن المسلح العراقي عدي فارس هو إما مقتول حسب البيانات الامريكي، او لم أنه يكن في المنزل اصلا لأنه كان معتقلا حينها، لم يبق من شهود تلك المجزرة سوى المقاتل الكويتي احمد عبدالله العتيبي الذي ذكرت البيانات الامريكية انه كان موجودا في المنزل والقي القبض عليه اثناء العملية.
لم يكن من السهل الوصول الى مكان العتيبي او أي معلومات عنه بعد اكثر من ستة اعوام على اعتقاله المفترض داخل منزل فائز هراط، خصوصا ان القوات الامريكية التي لم تكن قد خرجت من العراق حين بدأ العمل على هذا التحقيق (اواخر العام 2011)، تفرض تكتما شديدا على المعتقلين.
المعلومات المتوفرة عن العتيبي في المواقع الجهادية، تشير الى انه كان في الرابعة والعشرين من عمره حين نفذ القوات الامريكية مجزرة الاسحاقي، وكان قد القي القبض عليه في عام 2005 بتهمة التخطيط لقلب النظام في الكويت مع عناصر تنظيم اسود الجزيرة التابع لتنظيم القاعدة، ثم افرج عنه بكفالة في آب اغسطس 2005.
هرب العتيبي بعد الافراج عنه من الكويت، ودخل الى العراق متسللا من سوريا بحجة المتاجرة بالخيول العربية الاصيلة، والقي القبض عليه، كما تقول البيانات الامريكية، داخل منزل فائز هراط في منطقة الاسحاقي في 15 مارس 2006.
تشير سجلات العتيبي التي اطلعت كاتبة التحقيق على بعض محتوياتها عبر مسؤول أمني رفيع (تتحفظ كاتبة التحقيق عن ذكر اسمه أو منصبه حفاظا على وضعه الوظيفي وعرفانا له على مساعدته رغم حساسية الموضوع)، أن العتيبي، رغم ان اعتقاله تطلب ابادة عائلة عراقية بالكامل وفقا للبيانات الامريكية، اطلق سراحه من قبل الجيش الامريكي وسلم  للسلطات العراقية في تشرين الاول اكتوبر 2008، وحكم بالسجن حينها لمدة ست سنوات وفق المادة القانونية المتعلقة بعبور الحدود دون اوراق رسمية، رغم اعترافه للقوات الامريكية بأنه نفذ عمليات مسلحة داخل العراق لصالح تنظيم القاعدة.
قضى العتيبي قرابة العامين سجن سوسة بمدينة السليمانية شمالي العراق، وتشير الوثائق التي نقلها المسؤول الامني الى أنه كان يعاني من مرض الروماتيزم وأرسل اكثر من عشر مرات الى المستشفى للعلاج، قبل ان يطلق سراحه ويسلم الى بلاده في تشرين الثاني نوفمبر 2010، وهي الفترة التي كانت فيها العلاقات العراقية الكويتية في افضل حالاتها.
اسرار ليلة القبض على العتيبي
تورد السجلات الخاصة بالعتيبي التي اطلعت عليها كاتبة التحقيق،أنه دخل العراق قادما من سوريا متسللا من اجل الجهاد مع تنظيم القاعدة، وأنه أعتقل من قبل القوات الامريكية يوم 14 اذار مارس 2006، وتم احتساب موقوفيته الرسمية بدءا من 15 اذار مارس.
تشير هذه المعلومة المثيرة، الى احتمالية أن العتيبي كان قابعا في احد معتقلات الجيش الامريكي حين كان الاخير ينفذ مجزرة الاسحاقي، تماما كما كان الحال عليه مع المسلح المفترض عدي فارس.
ويعتقد الخبير العسكري ناطق جواد، في تعليقه على هذه المعلومة، أنها قد تكون دليلا على أن اسم العتيبي حشر في قضية مجزرة الاسحاقي حشرا، كجزء من عملية تبرير القيام بالمجزرة. تماما كما حصل في حالات مشابهة كان يعلن فيها عن اعتقال أو قتل مسلحين هم اصلا معتقلين أو مقتولين في معارك سابقة.
لا ينفي جواد بطبيعة الحال أن هناك امكانية لان يكون العتيبي موجودا داخل المنزل فعلا في حال ثبت ان يوم 14 اذار كان موعد صدور مذكرة الاعتقال وليس تنفيذها، يضيف جواد “احتمال الخطأ في هذه المسائل ضعيف جدا، لكنه ممكن على اية حال، والامر منوط اخيرا بكشف وزارة العدل لاوراق القضية بالكامل”.
وثائق “ممنوعة”
لم يكن ممكنا التحقق من كل تفاصيل ملف العتيبي بالاطلاع على جزء من الوثائق، اذ يتطلب البحث المعمق الكشف عن كل اوراقه في وزارة العدل العراقية، ومجلس القضاء الاعلى الذي يحتفظ بنسخ عن كل حييثات القضايا التي صدرت فيها الاحكام، وايضا، سجن سوسة الذي كان العتيبي مسجونا فيه.
أمتنع مدير سجن سوسة، العميد مؤمن خضر، عن السماح لكاتبة التحقيق بالاطلاع على السجلات الخاصة بالعتيبي دون الحصول على موافقة رسمية من وزارة العدل العراقية.
منذ نهاية العالم الماضي وحتى آب اغسطس من هذا العام، واصلت وزارة العدل رفضها السماح لكاتبة التحقيق بالاطلاع على سجلات العتيبي.
مجلس القضاء الاعلى هو الاخر، اعتذر عن كشف ملف العتيبي لأن “مجريات المحاكمات الاصولية للمعتقلين سرية، ولا يمكن الكشف عن ملفاتها”، بحسب المتحدث عبد الستار البيرقدار.
مكتب الصليب الاحمر الدولي في العراق (ومعه ايضا مسؤولة في مكتب العاصمة الاردنية عمان، ومسؤولة أخرى في مكتب مدينة السليمانية شمالي العراق)، امتنع عن الادلاء اي معلومات خاصة بالملف المرقم (iqz012953)، وهو ملف العتيبي نفسه.
السفارة الامريكية اكتفت بعد اتصالات متكررة، بعبارة “لا تعليق”. والمحاولات المتعددة للحصول على اي معلومات من الجيش الامريكي، باءت بالفشل، فالجيش الامريكي تحجج في بادئ الامر بعدم وجود معلومات جديدة، ثم رفض المستشار الاعلامي “الجديد” نادر سليمان اعطاء اي معلومات عن القضية لأنها “قديمة”، وبدت رحلة البحث عن قنوات اتصال بالمتحدث القديم وكأنها عملا عبثيا انتهى بوصول رسالة اخيرة من العنوان البريدي للمستشار السابق كانت تتضمن عبارة “استلام فاشل”.
غياب حق الحصول على المعلومات في العراق، وعجز البرلمان العراقي عن اقرار هذا القانون رغم مرور اكثر من تسعة اعوام على المطالبة بتشريعه، جعل من الصعب اقناع كل هذه الجهات بأن السماح لصحفية بالاطلاع على سجل معتقل سابق، لا يمثل خطرا على الامن القومي للبلاد.
سياسة الرعب
يفسر رئيس مؤسسة حمورابي لحقوق الانسان عبد الرحمن المشهداني، طريقة القوات الامريكية في ارتكاب المجزرة بأنها “جزء من سياسة بث الرعب التي انتهجتها لارهاب المدنيين في القرى والمدن العراقية، عن طريق استهداف بيت عشوائي وقتل افراده جميعاً”.
شهود العيان، وبينهم اخوة فائز هراط وعدد من السكان القريبين، أكدوا ان الهجوم كان مباغتا، وأن أي اطلاقة لم تصدر من المنزل قبل بدء الهجوم عليه او اثناء عملية الاقتحام، كما ان الجيش القوات المهاجمة لم تقم بالمناداة على أي شخص موجود في المنزل كي يسلم نفسه كما جرت العادة.
الخبيرالعسكري عمر الجبوري أكد ان مروحيات الشينوك التي حملت الجنود الامريكيين وهاجمت المنزل، كانت مزودة باجهزة متطورة يمكنها كشف عدد الموجودين في المنزل واحجامهم، وفيما اذا كانوا كبارا ام اطفالا صغار، واماكن تواجدهم، عبر الاشعة تحت الحمراء.
يعتقد الجبوري أن القوات الامريكية كانت تعرف تماما من الذي كان في المنزل منذ بدء الهجوم، والادعاء بأنهم كانوا يجهلون ان من بين افراد المنزل خمسة اطفال او تضارب الارقام التي طرحوها لعدد الضحايا، هو دليل قاطع على ان لدى القوات الامريكية ما تخفيه، خصوصا ان كل عمليات الاقتحام المهمة التي تنفذها القوات الامريكية يجري تصويرها حرفيا من قبل القوات المهاجمة.
لهذا الامر، كما يعتقد الخبير العسكري، حرصت القوات الامريكية على  ابادة كل الموجودين في المنزل كي لا تبقي اي شاهد لما جرى، باستثناء الجنود الامريكيين انفسهم.
بين بغداد وواشنطن
بعد اتصالات متكررة من قبل كاتبة التحقيق مع مستشار رئيس الوزراء العراقي، علي الموسوي، للتعليق على حديث المتحدثة باسم وزارة الدفاع الامريكية حول أن الوثيقة التي نشرها موقع ويكليكس بشأن المجزرة لن تجبر الجيش الامريكي على اعادة فتح التحقيق في القضية مجددا، أشار الموسوي الى أن الحكومة العراقية “ستفتح تحقيقا في ضوء المعلومات الجديدة التي سربها موقع ويكيليكس، وأن الحكومة ستسلك كل السبل القانونية لضمان حقوق الضحايا”.
لكن الموسوي أشار الى أن العراق “لايمكنه ان يفتح التحقيق الا بالتعاون مع الجانب الامريكي، لان اوليات القضية موجودة لديه”، كما ان الاتفاقية العراقية الامريكية تنص على ان من حق بغداد “فتح التحقيق في حال ثبوت الاعدام التعسفي من قبل القوات الامريكية فقط”. مع هذا، يعود مستشار رئيس الوزراء ليؤكد أن العراق “لن يفرط بحقوق مواطنيه، وسيتابع القضية حتى اعادة فتح التحقيق”، دون الخوض في التفاصيل.
حين ابلغت كاتبة التحقيق تأكيدات مستشار رئيس الوزراء لعائلة ضحايا الاسحاقي، بأن الحكومة ستحاول اعادة فتح التحقيق في المجزرة، قال هؤلاء ان هذا “سيثلج صدورهم”، ويريح ارواح الضحايا، لأن المطالبة بحقوق العراقيين “احياء او امواتا هو على عاتق رئيس الوزراء”. لكنهم لم يخفوا قلقهم من ان تكون هذه التصريحات “للاستهلاك الاعلامي فقط”.
يعقب الخبير القانوني طارق حرب على تعهدات الحكومة بالقول أن هذا “ليس سهلا على الاطلاق”، فلا يمكن ان يبدأ أي تحقيق في مثل هذه القضايا الا عبر الطرق الدبلوماسية، لأن الجندي الامريكي بموجب الاتفاقية العراقية الامريكية “محصن” ولا يمكن محاكمته في بغداد، بل أمام المحاكم الامريكية فقط.
الطريقة التي ذكرها حرب لاعادة فتح ملف المجزرة، “نظرية” فقط، فدعوى من هذا النوع “مكلفة جدا من الناحية المادية”، وغالبا ما يكون اعادة التحقيق في قضايا من هذا النوع “شبه مستحيل”. ويقترح حرب، من باب المحاولة، ان تقوم وزارة الخارجة العراقية “بالطلب من نظيرتها الامريكية اعادة التحقيق في ضوء المعلومات الجديدة التي كشفها موقع ويكليكس”.
مسؤول رفيع في الخارجية العراقية ابلغ كاتبة التحقيق ان هناك “قضايا مشابهة لحادثة الاسحاقي قد يجري التعامل معها مستقبلا على ضوء الاتفاقية العراقية الامريكية”، لكن هذا مرهون “بالأدلة التي تظهر في المستقبل”، رافضا ان يعتبر تصريحه تصريحا رسميا “لحساسية القضية”.
سيناريوهات محتملة
يرجح خبراء عسكريون، مسؤولون امنيون،  ان هناك ثلاثة سيناريوهات يمكن ان تكون نفذت خلال العملية.
الاول، هو ان العتيبي كان موجودا داخل المنزل المستهدف، اما باعتباره ضيفا دفع ثمن استضافته كما فعل الكثير من عناصر القاعدة في مناطق متعددة من العراق، أو أنه اجبر العائلة على استضافته بقوة السلاح، وأنه هو من اطلق النار على القوات الامريكية حين حاصروا المنزل، فقاموا بالرد عليه.
هذا السيناريو يضع العتيبي بمثابة الشاهد الوحيد على ما جرى داخل المنزل في تلك الليلة.
في محاولة منها للحصول على شهادة العتيبي، تواصلت كاتبة التحقيق مع ثلاثة من الصحفيين الكويتيين والعرب المتواجدين في الكويت. لكنها لم تفلح في الحصول على اية نتيجة لان الصحفيين الثلاثة اعتذروا عن التدخل لحساسية القضية
السيناريو الثاني هو ان القوات الامريكية حصلت على معلومات مضللة دفعتها لمهاجمة المنزل بعنف، وحين عثر الجنود على جثث عدد من الضحايا الذي قتلوا بسبب الرمي العشوائي من الخارج بعد اقتحامهم المنزل، قاموا بقتل الاحياء المتبقين وقصف المنزل لاضاعة معالم الجريمة، خصوصا ان مجزرة حديثة التي قتل فيها 24 مدنيا عراقيا وجرت قبل مجزرة الاسحاقي باشهر قلائل، كانت عالقة في الاذهان.
ولا يعطي السيناريو الاول، أو الثاني، تفسيرا لسبب وجود القيود التي اوثق بها الضحايا، ولا لتكميم افواههم، وهذا ما يفتح المجال امام السيناريو الثالث. وهو ان القوات الامريكية اعادت في الاسحاقي ما مارسته لمرات متعددة بمن عمليات استجواب عن طريق تقييد الاطفال والنساء وقتل افراد العائلة واحدا تلو الاخر اثناء الاستجواب.
الى هذا الحد، يبدو واضحا ان كشف القضية سيعتمد بالدرجة الاساس على استجابة الحكومة العراقية لمطالب اعادة فتح التحقيق في القضية، او تغير الاوضاع ونشوء حركة قانونية تضغط لصالح اعادة فتح ملفات كل المجازر التي ارتكبتها القوات الامريكية في العراق.
بخلاف ذلك، لن تكون هناك اية وسيلة مناسبة لكشف ما جرى في مجزرة الاسحاقي، سوى موافقة وزارة العدل على كشف ملف العتيبي، او مقابلة العتيبي نفسه لأخذ شهادته حول المجزرة.
بعد رحيل القوات الامريكية عن العراق نهاية العام 2011، وعودة العتيبي الى بلده واعتباره بطلا من قبل المواقع الجهادية والجماعات المسلحة، يبقى على الجهات الرسمية العراقية مهمة الكشف عن حقيقة ما جرى في تلك الليلة التي قتل فيها 11 عراقيا، بينهم اربع نساء، وثلاث رجال، وخمسة اطفال، اصغرهم طفل صغير يسمى حسام فائز لم يتجاوز شهره التاسع من العمر، وجدوه مقيد اليدين، ومثقوب الرأس برصاصة أطلقها جندي امريكي، أفلت من قبضة العدالة.
خارج المتن
لم تكن مجزرة الاسحاقي الحادث الوحيد من نوعه في العراق، فقد سبقتها، واعقبتها، مجازر متعددة في عدد من المدن العراقية، ابرزها مجزرة حديثة التي سبقت مجزرة الاسحاقي بقرابة ربعة اشهر، وكان ضحيتها 24 مدنيا بينهم عشرة من الاطفال والنساء.
العملية كما اثبتت المحاكمة لاحقا كانت انتقامية، ونفذها الجنودالامريكيون بعد مقتل احد رفاقهم بتفحير عبوة ناسفة على دوريتهم.
استمرت المحاكمات ثلاثة اعوام كاملة، وكان يعتقد حينها أنها ستنطوي على احكام مشددة لردع الجنود الامريكيين عن استسهال قتل المدنيين العراقيين، لكن الحكم كان صادما، فقد اسقطت المحكمة الامريكية التهم عن ستة من المتهمين بارتكاب المجزرة، واكتفى القاضي الأميركي في محكمة بقاعدة بندلتون العسكرية بولاية كاليفورنيا بتخفيض الرتبة العسكرية لقائد المجموعة التي ارتكبت المجزرة، جندي المارينز السرجنت فرانك ووتريتش.
كانت هذه الاحكام دليلا على ان القضاء الامريكي يتهاون في حماية المدنيين العراقيين من عمليات القتل على ايدي جنود الجيش الامريكي، فالاحكام لم تكن متناسبة مطلقا مع الجرائم التي ترتكب، فمقابل حياة 24 مدنيا عراقيا في مجزرة حديثة، كان هناك رادع وحيد هو “تخفيض رتبة احد الجنود”.
نفس الأمر تكرر في مجزرة ارتكبها الجيش الامريكي أواخر العام 2006، فقد قتل 32 مدنيا عراقيا يسكنون منزلين متجاورين، بينهم ستة اطفال وثمان نساء. ولم يتم فتح تحقيق لمعرفة ملابسات المجزرة لأن الجيش الامريكي كان يعتقد، وفق ما ذكره بيان صدر بعد الحادثة، بأن الجنود “راعوا قواعد الاشتباك حين ردوا على اطلاق نار وقع عليهم من المنازل المتسهدفة”.
لم يختلف الأمر كثيرا في مجزرة الاسحاقي، فالقائد الامريكي في القاعدة القريبة من منطقة الاسحاقي نفى علمه منذ البداية بعملية من هذا النوع، ثم ابلغ الاهالي فيما بعد ان العملية نفذها جنود قدموا في مروحيات من قاعدة امريكية في العاصمة بغداد.
أجرت القوات الامريكية تحقيقات عابرة مع اخوة الضحية فائز لمدة ساعتين، وبعدها اتصل بهم شخص امريكي بلكنة لبنانية طالبا منهم التنازل عن اقامة اي دعوى على الجيش الامريكي مقابل تعويض مادي “معقول”، وحين رفض اخوة فائز العرض، لم يتصل بهم احد مجددا، واغلق التحقيق بعدها، حتى اليوم.
انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبأشراف محمد الربيعي.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17381}" data-page="1" data-max-pages="1">