فاز هذا التحقيق الذي انجزه الصحفي موفق محمد لصالح شبكة نيريج واشرف عليه مشرفا نيريج محمد الربيعي وسامان نوح، على جائزة ثاني افضل تحقيق استقصائي في العالم العربي لعام 2012.
تحقيق: موفق محمد
تدرك الفتاة الكردية بيخال، انها قد لا ترى ربيع العام القادم. فسرطان الدم النخاعي الذي ينهش جسدها منذ أن تلقت دواء كيميائيا فاسدا في احدى مستشفيات اقليم كردستان العراق، حولها الى “بقايا امراة”.
بيخال ذات الـ25 عاما، كانت تتطلع بذهول الى اوراق شجرة الخوخ المتساقطة وسط باحة الدار، حين كان والدها الحاج صالح يروي لكاتب التحقيق قصتها مع الادوية الفاسدة التي اطاحت بفرصتها في الشفاء من المرض المميت. فبعد ايام قلائل من تعاطيها للدواء “داخل مستشفى حكومي”، ابلغه الاطباء بأن شفائها في كردستان “بات مستحيلا”
اقتنع والد بيخال اخيرا، بعد أن يأس من تجريم المقصرين رغم تردده على ابواب المحاكم، بأن محاربة “الديناصورات” أو تجار الادوية الفاسدة الذين تحميهم سطوة المال والسلطة في كردستان العراق، لا طائل منها. وها هو الان يخطط لبيع منزله الصغير كي يسافر نهاية العام الى الهند مع بيخال، بحثا عن “فرصة اخيرة” لانقاذ ابنته الوحيدة.
تتذكر نوروز صالح التي تعرضت لتشوهات كبيرة في وجهها وحنجرتها منذ خريف العام الماضي بسبب تعاطيها “حقنة فاسدة”، انها لم تكن تعاني قبل تلقيها الحقنة القاتلة سوى بعض الالتهابات البسيطة في القصبات الهوائية، تحولت بين ليلة وضحاها الى مرض فتاك.تماما مثل مواطنتها آية عبد الكريم التي ما زالت حبيسة منزلها رغم مرور عامين على تلقيها هي الاخرى “حقنة فاسدة” افقدتها القدرة على تحريك ساقها اليمنى، وكادت تودي بحياتها لولا ان حياة ثانية كتبت لها بعد سبعة ايام قضتها في غرفة الانعاش وهي “شبه ميتة”.
نجت آية من الموت باعجوبة، ونجت سوزان كمال (32 عاما) هي الاخرى من الموت بعد ان نجح الاطباء في انقاذها من مضاعفات “حقنة فاسدة” اخرى زرقت بها لعلاج “التهاب بسيط في الأسنان”.
بخلاف بيخال، نوروز وآية وسوزان، لم تمهل الحقنة القاتلة الشاب سربست جعفر (18 عاما) الذي توفي في 15 تموز يوليو الماضي بسبب حقنة ceftriaxone، ولا السيدة كزاو عبد الباقي (40 عاما) التي توفيت بسبب حقنها بذات الحقنة في 30 حزيران يونيو الماضي، ولا ايضا، معصومة بيرو التي توفيت في 3 آب اغسطس بسبب حقنها بالـ cefotaxiK ، وهي من ذات عائلة الحقن التي قتلت سربست وكزاو.
الحقيقة المرة هنا كما يقول الدكتور سلام طيب، اختصاصي السرطان في مستشفى اربيل العام، هو أن هذه الحقن ادرجت في قائمة الحظر التي اصدرتها وزارة الصحة المركزية في بغداد مطلع حزيران يونيو الماضي، ووزعت بكتاب رسمي على كل المؤسسات الصحية في كل انحاء العراق، لكنها بقيت تفتك بالابرياء بصمت دون ان تتمكن المنظومة الصحية في كردستان التي تتجاوز ميزانيتها السنوية 446 مليون دولار امريكي، من الحد منها.
معمل “انتاج الموت”
حجم الادوية الفاسدة والمغشوشة التي دخلت اقليم كردستان العراق خلال السنوات الماضية، والتي يقدرها وزير الصحة السابق طاهر هورامي بـ 18% من مجموع الادوية المتداولة في كردستان، يؤكد أن الظاهرة تحولت الى “غول” يفتك باجساد الآلاف من مواطني كردستان. وهذا ما تعترف به نائبة رئيس لجنة الصحة والبيئة في برلمان كردستان، هاوراز شيخ احمد، فالأدوية المغشوشة والفاسدة كما تقول شيخ احمد “تنتشر في كل مكان في كردستان، وهي تدخل الى الاقليم عبر كل المنافذ، ويحتكرها تجار لا أحد بامكانه أن يوقفهم، لأنهم باختصار، مدعومون من قبل ساسة متنفذون في اقليم كردستان”.
يدعم ما تذهب اليه شيخ احمد، اعتراف وزارة الصحة الكردستانية في اذار مارس الماضي بأن معملا “غير مرخص” تم اكتشافه في مدينة اربيل، عثر فيه على ثلاثة أطنان من مواد كيمائية خطيرة تم تهريبها الى داخل كردستان لاستخدامها في صنع أدوية مقلدة غير صالحة للاستعمال، كانت توضع في اغلفة دواء سورية وهندية وتباع في الصيدليات على انها “أدوية اصلية مستوردة من مناشئ عالمية”، وبأسعار يصل بعضها الى 50 دولارا للعلبة الواحدة.
قضية هذا المعمل “غير المرخص” الذي انتج الالاف من علب الدواء الفاسد تعاطاها فيما بعد الالاف من مواطني كردستان، لفها الصمت، دون ان يتجرأ أحد على الضغط لكشف خفاياها، تماما مثل فضيحة تصريف 2500 علبة من حقن الانسولين الى المستشفيات والصيدليات بكتب رسمية صادرة من قبل وزارة الصحة الكردستانية، قبل ان تكشف الفحوصات انها كانت “أدويةفاسدة”.
التحقيق الذي اجري مع 27 شخصا يعتقد أن لهم صلة بالقضية، بمن فيهم مسؤولون في وزارة الصحة، انتهى بتوجيه عقوبة “توبيخ” للمتورطين، كما يكشف برلماني كردستاني طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية القضية في الوقت الحاضر.
اجراءات عقيمة
يؤكد مدير معبر باشماغ سيروان عبدالله، ان مسلسل تهريب الادوية المغشوشة والتالفة مستمر، رغم المحاولات التي تبذل لوقف تدفقها الى داخل كردستان. فالاجراءات المتبعة تقضي بمطابقة الاوراق التي يقدمها التاجر والتأكد من صحة صدورها من وزارة الصحة، ثم أخذ عينات من هذه الادوية وارسالها الى مديرية التقييس الكردستانية، على ان يتم السماح للشركة المستوردة بادخال البضاعة الى مخازنها ريثما تكتمل اجراءات الفحص.
غير ذلك، كما يقول عبد الله، قد يحدث ان يشك المراقبون في المعبر بشحنات معينة من الادوية فيعمدون الى التحفظ عليها لحين ورود نتيجة الفحص من دائرة التقييس.
ويكشف عبد الله ان المعبر يتحفظ الان على 47 طنا من الادوية التي لن يسمح بعبورها الى كردستان ما لم يتم التأكد من وضعها القانوني، بالاضافة الى التحفظ على ستة أطنان اخرى ثبت انها منتهية الصلاحية، فيما دللت الفحوصات أن 40 صندوقا من الأدوية التي تم التحفظ عليها ايضا، هي ادوية فاسدة.
عشرات الاطنان من الادوية الفاسدة والمغشوشة التي ضبطت على المعابر، لا تمثل الا جزءا صغيرا من جبل الجليد الذي أخذ يكبر مع مرور الوقت في كردستان، وربما يلقي التقرير الذي أصدرته لجنة الاصلاحات التي شكلتها رئاسة الاقليم بالتزامن مع الربيع العربي مطلع العام 2011، بعض الضوء على حجم هذه الظاهرة الخطيرة.
ففي آذار مارس 2012، أي بعد نحو عام من العمل المتواصل، اعترفت لجنة الاصلاحات بدخول كميات كبيرة من الأدوية الفاسدة والمغشوشة الى اقليم كردستان، وقدر التقرير حجم الادوية التي لم تخضع للفحوصات، بما نسبته 90% من الادوية المتداولة في كردستان.
هذه الارقام الكبيرة، تذكر عددا من مواطني كردستان بتفاصيل فضيحة تمرير 400 طن من الادوية المغشوشة والفاسدة الى داخل الاقليم من احد المعابر الحدودية في شتاء عام 2010. فالصفقة التي دخلت على اثرها 20 شاحنة محملة بالادوية الفاسدة والمغشوشة الى اقليم كردستان، عقدها مسؤول كبير في المعبر مع اصحاب الشركتين اللتين استوردتا هذه الادوية الفتاكة، كما يكشف مسؤول حكومي كان يعمل يومها ضمن طاقم المعبر الحدودي.
اكتشفت العملية، كما يقول المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته، بعد ان ضبطت احدى الشاحنات العشرين في نقطة تفتيش قرب منطقة دوكان وتبين انها تحمل ادوية فاسدة، في حين اختفت باقي الشاحنات داخل المدينة، بلمح البصر.
لا احد يعرف حتى الآن، اين ذهبت هذه الادوية، ولا حجم الضحايا الذين فتكت بهم، ولكن القضية انتهت كما يعرف الكثيرون هنا في كردستان، بنقل المسؤول المتورط الى وظيفة اخرى، بعد ان تدخل احد المسؤولين الكبار في كردستان، بحكم صلة القرابة التي كانت تربطه مع المسؤول المتورط.
وزارة الصحة، تعترف
تنفي وزارة الصحة ان تكون الارقام التي طرحتها لجنة الاصلاحات “واقعية”، لكنها في المقابل لا تقدم رقما، ولو بشكل تقريبي، لحجم الادوية التي دخلت كردستان دون خضوعها للرقابة.
ويعترف المتحدث باسم وزارة الصحة الكردستانية خالص قادر، بأن ظاهرة دخول الادوية المغشوشة والفاسدة الى كردستان “ليست جديدة على الاطلاق”، لكنه يبرر عدم السيطرة على تدفق هذا النوع من الادوية بـ”نقص الخبرات والكوادر، وايضا، نقص الاجهزة اللازمة لفحص الادوية”.
ويكرر رئيس قسم الادوية في مديرية السيطرة النوعية بمدينة اربيل، الدكتور روزكار حميد، نفس ما قاله المتحدث باسم وزارة الصحة حول “قلة الكوادر، وندرة الأجهزة اللازمة لفحص الادوية الداخلة الى الاقليم”.
حميد يقول أن الاجراءات تقضي بأن على موردي الأدوية الانتظار لفترات طويلة قبل ان تظهر نتائج الفحوصات، وقد يستغرق فحص نموذج الدواء الواحد ثلاثة اشهر كمعدل تقريبي.
خلال هذه الفترة كما يقول حميد “لا يحق للتاجر ان يبيع الادوية الا بعد ظهور النتائج النهائية للفحص”.
لا أحد ينتظر
لكن لا احد بامكانه ان ينتظر ريثما تكتمل اجراءات الفحص المطولة في المديرية التي يرأسها حميد، لا مرضى الاقليم الكردي الذي يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة، ولا تجار الادوية الذين دخلو المضمار بحثا عن الربح المضمون والسريع، كما يقول التاجر ابو ايوب الذي وضع جل ثروته في صفقة ادوية لامراض الضغط والسكري ما زالت قابعة في المخازن بانتظار ظهور نتائج الفحص، منذ اكثر من شهرين.
يشعر ابو ايوب بالقلق من ان تتعرض الادوية التي استوردها الى التلف بسبب تأخر عملية فحص عينات الادوية. يقول ابو ايوب إن “اغلب التجار الذين يتقاسمون الارباح مع شركاء نافذين في الاقليم، لا ينتظرون، مثله، الموافقات الرسمية، فلديهم من يسندهم اذا ما تعرضوا لأية اشكالات قانونية، وهم في الغالب يسارعون الى تسويق بضاعتهم بمجرد ان تعبر الحدود وتؤخذ عينات منها لفحصها في السيطرة النوعية”.
ابو ايوب يبدي تذمره من الاجراءات الروتينية والتأخير في الفحوصات، فهو يعتقد أن هذه الطريقة تمثل بالنسبة للتاجر “غير المسنود” ضربة قاصمة، إذ ان عليه ان يصرف مبالغ كبيرة لتأمين تبريد مناسب للادوية وتوفير كل مستلزمات حفظها من التلف، اضافة الى ان تأخير الادوية لاشهر اضافية سيبعده عن المنافسة الحقيقية في السوق، ويعني ايضا أن تواريخ الانتاج ستبدا بالنفاد مع مرور الوقت، وهو ما قد يخفض من اسعار بيعها، وربما تلفها لاحقا.
14 صيدلانيا فقط لفحص الأدوية في كردستان
يقر مسؤول السيطرة النوعية روزكار حميد بأن عدد الصيدلانيين الذي يعملون على فحص عينات الادوية المستوردة، لا يتجاوز الـ 14 صيدلانيا فقط، وخبرة هؤلاء “محدودة لا تتجاوز بضع سنوات من العمل”. ولكن مهمتهم تتطلب فحص كميات ضخمة من الادوية على مدار الوقت.
لهذا، يرى حميد ان من الممكن، نظريا، ان يقوم عدد من التجار فعلا بتسويق بضاعتهم قبل انتهاء عملية الفحص.
هناك ايضا، يضيف حميد، نقص في الاجهزة اللازمة لفحص بعض الانواع من الادوية، مثل الانسولين، وهو ما يضيف اعباء جديدة على دائرة التقييس وتجبرها على ارسال نماذج الانسولين الى العاصمة بغداد لفحصها من خلال كوادرها المتخصصة التي تستطيع فحص العينات بسرعة واظهار النتائج خلال بضعة ايام.
وفي ظل غياب العقوبات الصارمة، وقياسا الى الوقت الطويل الذي يستغرقه فحص عينات الادوية، لا احد يمكنه ان يضمن التزام التاجر بعدم تسويق الادوية بعد ادخالها لمخازن الشركة.
نفس الحال ينطبق على الادوية المغشوشة التي تدخل من مطار اربيل الدولي، فهي الاخرى تخضع لنفس ضوابط الفحص المتبعة في المعابر البرية، كما يقول كوران سعيد الذي يعمل على تدقيق دخول الادوية المستوردة في مطار اربيل.
يصف سعيد عملية ادخال الادوية من المطار بانها “اسوأ بكثير مما يجري على المعابر البرية”، ففي المطار، لا تتضمن عمليات فحص الادوية سوى الفحص الفيزياوي، اذ ان عدم وجود الاجهزة اللازمة للفحص الكيماوي يحول دون اجراء هذا النوع من الفحوصات، ولا يمكن بهذه الطريقة معرفة نوع المكونات الكيمياوية الداخلة في صناعة الدواء ومدى مطابقته للمواصفات.
تطلق الادوية المستوردة من المطار، كما في المعابر البرية، الى مخازن التجار مباشرة، ومنها الى السوق، دون انتظار نتائج الفحوصات.
خلال هذه الفترة، سيكون مفعول الادوية الفاسدة قد استشرى في اجساد المرضى الذين سيقدر لهم تعاطي هذه الادوية، وهو ما يؤكده نقيب الصيادلة في اقليم كردستان الدكتور أمير شيت الذي يتحدث عن تعميم قوائم شهرية من وزارة الصحة العراقية ودائرة السيطرة النوعية في الاقليم، الى كل الصيدليات في العراق، لابلاغها بضرورة اتلاف انواع من الادوية،لم تتمكن من اجتياز عملية الفحص بنجاح.
ميزانية انفجارية، وكوادر غائبة
ضعف الكوادر الطبية، وعدم وجود أجهزة كافية لمتابعة عملية الفحص كما تقول وزارة الصحة الكردستانية ودائرة التقييس، لا تتناسب مطلقا،كما يعتقد الناشط المدني احمد بيرة، مع الميزانية الهائلة التي تتلقاها حكومة اقليم كردستان من خزينة الدولة في بغداد (قرابة 12 مليار عام 2012 فقط)، بالاضافة الى الموارد المتحصلة من عقود النفط التي وقعتها حكومة كردستان ومنافع الاستثمارات الاجنبية الضخمة التي ترد الى الاقليم.
وقياسا الى حجم التوظيف الحكومي والبالغ مليون و350 الف موظف حكومي وعنصر أمني من بين سكان كردستان البالغ 5 ملايين نسمة (أكثر من 30% وهي نسبة التوظيف الاكبر في المنطقة)، يمثل وجود 14 صيدلانيا فقط لفحص الاف الاطنان من الادوية المستوردة لتغطية احتياجات هذا العدد من السكان، “جريمة ابادة تجري على مسمع ومرأى سلطات كردستان العراق”. كما يقول الناشط بيرة.
بيرة يقارن عدد حمايات المئات من مقرات الحزبين الرئيسين في مدن كردستان، وحمايات بيوت مئات الزعماء الحزبيين والوزراء وكبار المسؤولين في كردستان، بعدد الصيادلة الذين يتولون فحص الادوية المستوردة (14 صيدلانيا فقط)، ويعتبر ان هذا يمثل مؤشرا فاضحا عن كيفية الاستهانة بمصير مواطني كردستان.
يسند ما ذهب اليه بيرة، ما يؤكده عضو برلمان كردستان برهان رشيد، فهو يقول ان عمليات فحص الادوية في كردستان “فاشلة”، والعمل الذي تقوم به مديرية السيطرة النوعية “سيء جدا”، فكردستان صارت الان “محطة لبيع كل ما هو سيء النوعية وفاقد للصلاحية”.
عمليات استيراد الادوية من قبل التجار، كما يرى رشيد، ينظر اليها خطأ على أنها تشبه أية عملية تجارية عادية، فهي تتم فقط وفقا لمعادلة الربح الأكثر حتى لو كان مرتبطا بالبضاعة الاسوأ والاكبر خطرا. وهو ما يعزوه رشيد الى عجز الحكومة عن ايجاد نظام صحي يضمن حياة ارواح مواطني كردستان “رغم اقرارها بحجم الخطر الذي تمثله الظاهرة”.
خلل في النظام
يعترف مسؤولون في حكومة كردستان، برلمانيون، اطباء وصيادلة واصحاب شركات ادوية، خبراء وناشطون مدنيون، أن هنالك خللا فادحا في النظام الصحي المتعلق باستيراد الادوية في كردستان العراق. ولا يتعلق الأمر فقط بغياب منظومة صحية متكاملة لاستيراد وفحص الادوية قبل توزيعها على الصيدليات والمستشفيات، ومنها الى المواطنين، بل في دخول الساسة والقوى النافذة في كردستان الى سوق تجارة الادوية مثلما دخلوا الى باقي قطاعات التجارة في كردستان.
يصف مدير معمل أدوية اواميديكا في اربيل، الدكتور بارام رسول، واقع الأدوية في الاقليم بأنه “كارثي”، فما يحدث هو ان هناك تجارا “همهم الوحيد هو المتاجرة بحياة الناس من اجل مكاسب سريعة، حتى لو كانت الارباح التي يحققونها على حساب حياة الاف الناس”.
انها باختصار، كما يقول الدكتور رسول “انفال جديدة تنفذها مافيا تجارة الادوية الفاسدة والمغشوشة لصالح بعض المتنفذين واصحاب القرار”. في اشارة الى حملات الانفال التي ارتكبها النظام السابق بحق اكراد العراق واودت بحياة 180 الف مواطن كردي في ثمانينيات القرن الماضي.
هناك ايضا، كارثة اضافية تشير اليها بوضوح المعلومات التي يدلي بها نقيب صيادلة كردستان، فهناك 320 صيدلية و57 مذخرا فقط يمتلكون اجازات رسمية، مقابل اكثر من 4 الاف صيدلية ومذخر وعيادة شعبية غير مرخصة تقوم بتصريف الجزء الاكبر من الادوية المستوردة.
وهذه الارقام تعني، أن عدد الصيدليات والمذاخر المرخصة لا يتجاوز 9% من عدد الصيدليات التي تغص بها مدن اقليم كردستان. وهذا يعني ايضا ان 91% من الصيدليات ومنافذ البيع، لا تصل اليها قوائم اتلاف الادوية الفاسدة والمغشوشة التي تصدرها وزارة الصحة.
أدوية “حسب الطلب”
نقيب صيادلة كردستان، يعترف بحاجة اقليم كردستان الى تصحيح الاجراءات الخاصة باستيراد وتوزيع الادوية، واهم الاجراءات التي ستكون ناجعة، حسبما يراه، هو حصر استيراد الأدوية بالمتخصصين، إذ أن الكثير من اصحاب الشركات لا علاقة لهم بمهنة الصيدلة ولا بعالم الادوية.
بخلاف شيت، يرى تاجر الادوية غريب سعد الله، ان الأمر يتعلق اساسا بنظام فحص الادوية المستوردة، وليس بمن يستوردها. فسواء كان من يشتري الادوية صيدلانيا أم لا، سيكون الحكم على جودة الادوية في النهاية هي نتائج الفحوصات التي تجريها السلطات المختصة، وليس “ضمير التاجر”.
يكشف سعد الله أن بوسع أي تاجر أدوية أن يسافر الى الهند او الصين او ايران ويختار أي نوع من انواع الادوية التي تحقق له الربح الوفير. ففي هذه البلدان، تعرض شركات الادوية على التجار خيارات متعددة للنسب التي تحويها الادوية من المواد الفعالة، مقابل اسعار تنخفض مع انخفاض هذه النسب. وبوسع التاجر “سواء كان صيدلانيا ام لا”، كما يقول سعد الله، ان يتفق مع الشركة المنتجة للأدوية على منتجات تحوي نسب منخفضة من المواد الفعالة قد تصل الى 1% فقط. وهنا بالضبط، كما يقول سعد الله، “تكون الارباح التي يسيل لها لعاب التجار”.
اغلب التجار كما يقول سعد الله، يراهنون بقوة على ان بضاعتهم ستعبر من المنافذ دون مشاكل، ويخططون سلفا لتصريف كل بضاعتهم بمجرد اجتيازها المعابر الحدودية ودخولها مخازن الشركة، لذلك يعمدون الى شراء الادوية الرخيصة ووفق ادنى المواصفات.
أحد التجار نصح قريبته ليلى فتاح التي التقيناها على باب احدى صيدليات شارع الاطباء في مدينة اربيل، بأن تحرص على شراء كل ما تحتاجه العائلة من أدوية من خارج البلاد، لأن الادوية التي تدخل كردستان قادمة من الصين او الهند او ايران هي “أدوية مميتة”.
ليلى فتاح تتهكم على نصيحة قريبها التاجر بالقول ان راتبها الذي لا يتجاوز 350 دولارا في الشهر “لا يكفي لتأمين ادوية رديئة رخيصة الثمن، فكيف بأدوية عالية الجودة من خارج العراق”.
رفيقتها نادية التي كانت تتفحص علبة دواء لامراض القلب، بحذر، قالت انها تريد التأكد من نوعية الدواء قبل ان تقرر الشراء من عدمه، “فلا ثقة لدينا بأحد، والاقليم مليء بالادوية المميتة، الصيدلي قال لي انها أدوية أصلية لكنني لم اعد اثق بأحد”.
في الغالب، يفكر الناس في كردستان مثل نادية كلما سمعوا عن وفاة شخص ما بسبب الادوية الفاسدة، او اذيعت تقارير عن اكتشاف ادوية فاسدة. ولهذا كانت نادية متحيرة بين ان تشتري علبة دواء لوالدها من منشأ هندي بالفي دينار (دولار ونصف تقريبا) او علبة فرنسية المنشأ يصل سعرها الى 75 دولارا.
انهم يبيعون لنا الموت
هكذا ردد فاتح ملا محمد وهو يدفع ما يعادل 65 دولارا، ثمنا لعلبتين من ادوية المفاصل، “كل الناس في كردستان تعرف ان صيدليات الاقليم مليئة بالادوية المغشوشة والفاسدة، لكن لا احد يستطيع ان يفعل شيئا لتغيير ذلك”، يتمتم ملا محمد بغضب وهو يوشك ان يغادر المكان “التجار يستوردون اسوأ انواع الادوية ولا احد يحاسبهم لانهم شركاء مع مسؤولين متنفذين، انهم يبيعون لنا الموت هنا وينقلون عوائلهم للعلاج في ارقى المستشفيات في الخارج”.
وجود شركات متنفذة تتشارك مع مسؤولين كبار، يؤكده مريوان كريم، وهو صاحب شركة أدوية يفكر جديا في ترك تجارة الادوية منذ زمن، فهو يشير الى أن هناك شركات “متنفذة” تبيع ادويتها بعد دخولها الى الاقليم مباشرة، فيما يجب على الشركات غير المسنودة “أن تنتظر اشهرا طويلة، وربما عاما كاملا للحصول على نتائج الفحوصات ثم البدء بعملية التسويق.
كريم يعتقد ان الهدف من تأخير الفحوصات وارغام الشركات على الاحتفاظ ببضائعها في المخازن، هو “سد الطريق امام الشركات غير التابعة للمسؤولين المتنفذين، واجبارها على الانسحاب من المنافسة”.
ويؤكد تقرير لجنة الاصلاحات الكردستانية ما يذهب اليه كريم، فهو يتحدث عن وجود ثلاثة مسؤولين كبار “لم يسمهم التقرير”، يقفون خلف ظاهرة استيراد الادوية المغشوشة والفاسدة.
الشيء ذاته يؤكده النائب رشيد، فهو يحمل الاحزاب الكردستانية الكبيرة مسؤولية ما يجري من تجاوزات في مجال تجارة الادوية لأنها “تسيطر على غالبية الاعمال التجارية في كردستان، وبضمنها تجارة الادوية”.
ويعتقد الدكتور معاذ شيت، وهو مسؤول حالي في وزارة الصحة وعضو سابق في نقابة الصيادلة، أن هناك بالفعل “أياد خفية لبعض المسؤولين تتحكم بملف تجارة الادوية في كردستان”، فالدكتور شيت لا يجد مبررا كافيا، على سبيل المثال، لتأخر عملية فحص الادوية في كردستان لفترات طويلة، في حين يتم انجاز الفحوصات في العاصمة بغداد خلال ايام قلائل.
ايضا، يشير الدكتور شيت هنا الى ملف خطير يتعلق بـ”شركات الادوية التي لا يعرف احد عنها شيئا”، ففي العاصمة بغداد، كما يقول الدكتور شيت، هناك شركات متخصصة ومعروفة لديها خبرة كبيرة وتمتلك وكالات من شركات ادوية عالمية رصينة، هي من تتولى عملية الاستيراد، على العكس تماما من اقليم كردستان الذي تتواجد فيه 65 شركة، 25 منها فقط لديها نشاط معروف، فيما لا يعرف احد “كيف تعمل” هذه الشركات المتبقية، ولا ماذا تستورد.
بانتظار تفعيل “مبدأ المحاسبة”
تشير المادة 50 من قانون الصيادلة في كردستان، الى أن عقوبة تعريض حياة انسان بسبب الاهمال في مجال الادوية، تصل الى السجن 3 سنوات. فيما تترواح العقوبات التي تفرضها السلطات على الصيدليات التي تبيع ادوية فاسدة او مغشوشة او ترتكب مخالفات صحية، ما بين عقوبة “التنبيه” الى “اغلاق الصيدلية لبضعة ايام او اسابيع او بشكل نهائي”. لكن وجود اربعة الاف صيدلية غير مرخصة في اقليم كردستان، يجعل من المستحيل الاحاطة بشكل كامل بتفاصيل عملية متابعة تسويق الادوية، أو ضبط المخالفين.
سمير الجاف الذي توفي والده بعد ان أشترى دواء للسكر من احدى الصيدليات “المجهولة” في اربيل، لم يتمكن حتى الآن من معرفة صاحب الصيدلية التي اشترى منها والده هذا الدواء. لهذا يشعر سمير بالعجز تجاه امكانية تقديم المتسبب بموت والده، الى العدالة.
أغلب المرضى الذين يتعرضون لمضاعفات خطيرة، واحيانا مميتة، نتيجة لتعاطيهم ادوية مغشوشة او فاسدة، لا يتمكنون في الغالب من الحصول على تعويضات من الصيادلة او التجار المتورطين. ففي النهاية، كما يقول الصحفي والناشط المدني هاكار محمد،، من الصعب جدا ان تثبت ان الدواء الذي تعاطاه المريض المتضرر كان مغشوشا ما دامت الجهات المختصة غير قادرة على تحديد ذلك سلفا، كما ان الاجراءات القانونية المطولة، والمماطلة، وتدخل جهات حزبية، او حتى عشائرية، ينهي القضية دائما كما بدأت، بلا نتيجة.
وقد لا تمثل المسؤولية التي تقع على عاتق اصحاب الصيدليات او العيادات الشعبية، الا جزءا يكاد لا يرى من حجم المسؤولية التي يتحملها “حيتان الادوية الكبار”، كما يقول الصحفي الناشط محمد، فالصيادلة في النهاية ليسوا اكثر من “ضحايا للخلل الكبير في النظام الصحي في كردستان”.
التحقيقات التي اجريت حول مخالفات الكبرى، مثل تهريب الادوية المغشوشة او صناعة ادوية مقلدة داخل المدن، وبدون ترخيص، لم تسفر عن اجراءات حقيقة رادعة. يضيف محمد مستشهدا بالاجراءات التي تحدث عنها تقرير لجنة الاصلاح الكردستانية.
التقرير تحدث مطولا عن “ضرورة اتخاذ إجراءات تشمل إبعاد مسؤولين في القطاع الصحي عن مناصبهم، وتقديم المذنبين بقضايا استيراد أدوية مغشوشة الى القضاء، ووضع بعض شركات الادوية في القائمة السوداء بهدف منع هدر مزيد من مليارات الدولارات الأميركية من الأموال العامة في الإقليم،”. لكن هذه الاجراءات المفترضة “لم تغير من الأمر شيئا” كما يقضيف محمد، فلم يعاقب احد من المفسدين، ولم يبعد احد من منصبه، ولم يحدث شيء سوى ان قوائم الادوية التي تطلب وزارة الصحة من الصيادلة اتلافها “تتوسع يوما بعد يوم”.
يلخص مسؤول بدائرة السيطرة النوعية في كردستان، مشكلة غياب المحاسبة بحق التجار المتورطين باستيراد الادوية الفاسدة، بعبارة يقولها يائسا “أنا صاحب سلطة، لكن رسميا فقط، وحقيقة الأمر أنني لا أمتلك أي سلطة فعلية، إذ أن الصلاحيات الحقيقية تحتكرها جهات أقوى منا ولا نستطيع أن نواجهها”.
تؤكد النائبة شيخ احمد، أن أيا من المسؤولية الفعليين عن إبادة مواطني كردستان بالادوية الفاسدة “لم يقدم للقضاء أو يتعرض للمحاسبة مطلقا”، تشير شيخ احمد في هذا السياق الى أن معمل الادوية الذي تم اكتشافه في مدينة اربيل واعلن حينها انه يقوم بصناعة ادوية مغشوشة، قد يعود مجددا الى العمل بناء على محاولات يقوم بها البعض، ولكن تحت اسم جديد.
تعيد شيخ احمد على مسامع كاتب التحقيق، عبارتها السابقة حرفيا وهي تعلق على حجم السطوة التي يتمتع بها تجار الادوية المتنفذين وحصانتهم ضد المحاسبة “لا احد بامكانه ان يوقفهم، لأنهم مدعومون من قبل ساسة متنفذون في اقليم كردستان”.
وسط التحذيرات التي يطلقها البرلمانيون الكردستانيون، الاطباء والصيادلة والناشطون المدنيون وعدد من التجار والمسؤولين الذين التقاهم كاتب التحقيق، من “كارثة الابادة الجماعية بالأدوية المغشوشة والفاسدة في كردستان العراق”، يأمل الضحايا الذين ظلوا على قيد الحياة، وعوائل اولئك الذين قتلتهم الادوية الفاسدة بصمت، ان يروا قاتليهم يوما ما وهم يقفون أمام محاكم عادلة تقتص من انتهاكاتهم، ولا تكتفي بتوجيه “كتب التوبيخ”.
مقابل كل هذا، لم تعد الفتاة بيخال تحلم بشيء في عزلتها، سوى ان تفلح مستشفيات الهند في منحها فرصة العيش، ولو ربيعا واحدا وأخيرا، ما دامت كل مستشفيات كردستان ومليارات الميزانية الانفجارية عاجزة عن انقاذ حياتها.
انجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبأشراف محمد الربيعي وسامان نوح.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17378}" data-page="1" data-max-pages="1">