تحقيقات استقصائية: الاهمال الحكومي وسوء التخطيط يهدد 1.5 مليون شجرة تفاح في كردستان بالإبادة

الاهمال الحكومي وسوء التخطيط يهدد 1.5 مليون شجرة تفاح في كردستان بالإبادة

تحقيق: سامان نوح

توقف الحاج احمد منذ أسابيع مضت، عن ري ثلاثة من بساتينه التي تكدست فيها أطنان التفاح المتعفن، على أمل أن يقتلع أشجارها في الخريف القادم ويستبدلها بأشجار الخوخ أو الكرز، فيما وقف ولداه الصغيران هوزان ومحمد على حافة الشارع العام والى جوارهما تكدست عشرات من الصناديق والأكياس المملوءة بالتفاح بانتظار بيعها بأي ثمن للسواح الذين تمر سياراتهم بالقرية، صعودا الى أعالي الجبال.
الخسارات التي تعرض لها الحاج احمد في المواسم الأخيرة بسبب عجزه عن تسويق التفاح، دفعته مثل باقي المزارعين في منطقة كاني ماسي القريبة من الحدود العراقية التركية الى التخلي عن زراعة التفاح، والتي يقدر الخبير الاقتصادي قاسم فندي أنها تتعرض لخسائر تقارب الـ40 مليون دولار سنويا، بسبب سوء التخطيط الزراعي في كردستان.
فندي يرى أن أكثر من ثلثي محصول التفاح البالغ قرابة الـ120 الف طن سنويا، يترك ليتعفن في المزارع بسبب عدم وجود سياسات تسويق مناسبة، وهو ما يمثل خسارة تقدر بـ 35 مليار دينار عراقي (30 مليون دولار)، يضاف اليها ما يعادل 10 مليون دولار ككلف رعاية مليون ونصف المليون شجرة تفاح في محافظة دهوك لوحدها.
لا يحتسب فندي هنا مبلغ الـ18 مليار دينار (15 مليون دولار) التي خصصتها مديرية زراعة دهوك لدعم الزراعة في المحافظة، والتي يذهب قسم منها لمزارع التفاح باعتبارها أحد الزراعات الرئيسية في المحافظة.
لكن مريوان نامق زنكنة، وهو باحث كردي تابع التطورات السياسية والاقتصادية في كردستان منذ العام 2003، يرى أن هذه الخسارات الفادحة في زراعة التفاح لا تعود فقط الى سوء التخطيط الزراعي، بل الى تجنب سلطات اقليم كردستان المجازفة بحصة كردستان من الموازنة الاتحادية لصالح مشاريع زراعية طويلة الأمد قد لا تظهر نتائجها إلا بعد سنوات طويلة. فحكومة كردستان خصصت 11% من موازنتها لعام 2010 للزراعة، أي ما يتجاوز المليار دولار، لكنها عمليا لم تصرف منها إلا جزءا يسيرا يمكن فهمه اذا ما قارناه بمبلغ الـ15 مليون دولار التي خصصت للزراعة في محافظة دهوك.
يقول زنكنة أن الـ10 مليارات دولار التي تسلمتها كردستان عام 2010 من الحكومة المركزية، كانت كفيلة بصناعة أفضل السياسات الزراعية لو كانت الرغبة متوفرة لتحقيق ذلك، لكن حاجة النظام السياسي الى كسب المؤيدين من خلال فتح باب التوظيف واسعا، فرض عليه التضحية بكل السياسات الاقتصادية طويلة الأمد.
يشرح زنكنة ذلك، بالمقارنة بين إيرادات الوظيفة الحكومية، والعمل في فلاحة الأرض، فالموظف العادي “يحصل على عائد سنوي يقدر بـ 6 آلاف دولار تقريبا، في حين لا يجني الفلاح من حقل بمساحة اربع دونمات ألفي دولار في حال كان الموسم الزراعي جيدا.
تفضل حكومة كردستان، كما يرى زنكنة، أن تستثمر المليارات العشرة في تدعيم النظام السياسي بمنح الوظائف للناس، بدلا من ان تنتظر سنوات لتحصل على ثمرة الخطط الزراعية. يدعم الدكتور طالب مراد مستشار رئيس حكومة كردستان للشؤون الزراعية والأمن الغذائي، ما ذهب اليه زنكنة حول انخفاض نسبة التخصيصات المالية للقطاع الزراعي، فخطة التنمية الزراعية للأعوام 2009 – 2013 والتي تضمنت تخصيص 10 مليارات دولار للقطاع خلال خمس سنوات، لم يطبق منها حتى الآن سوى 15%. يضيف مراد حقيقة أخرى وهي أن نسبة الاستثمارات الزراعية في الإقليم لا تتجاوز الـ1%، في حين يستورد الاقليم ما نسبته 95% من المحاصيل الزراعية، وهو ما يعتبره “فشلا كبيرا”.
مذبحة التفاح
“الموت عطشا” أو “مذبحة التفاح” كما يسميها الحاج احمد، ظاهرة بدأت بالزحف من أطراف مدينة دهوك التي تحولت الى مناطق سكنية أو مشاريع سياحية بدائية، باتجاه الاجزاء الشمالية والشرقية من المحافظة مع تكرار مواسم كساد التفاح وعجز الإجراءات الحكومية عن تدارك الأمر، لتتحول مساحات واسعة من البساتين الى “ارض محروقة”.
في السنة الماضية باع كاكا سالار جار الحاج احمد، محصول الموسم كله بثلاثة ملايين دينار فقط (2600 دولار) وهي تعادل نصف ما أنفقه على رعاية اشجار التفاح. ما خسره كاكا سالار، اجبره ايضا على التخلص من أشجار التفاح بقطع الماء عنها كي لا يفقد ما تبقى من أبنائه الذين هاجر ثلاثة منهم في العام الماضي الى المدينة، بحثا عن عمل.
مثله تماما يفكر الملا شيخو الذي باع في العام الماضي محصول 15 بستانا صغيرا من التفاح، بمليوني دينار فقط (1700 دولار)، ما يقلق الملا شيخو الذي جلس وسط عائلته المكونة من ستة أبناء مع عوائلهم في باحة بناية حكومية مهجورة على أطراف قرية مايي، ليس فقط شبح الفقر الذي بدا واضحا في المكان، ما يقلقه أيضا هو انه قد يضطر في الخريف المقبل الى استبدال أشجار التفاح التي زرعها منذ عقدين من الزمان، بأشجار الخوخ. فقط لإقناع أبنائه بالبقاء معه.
تفاح.. برخص التراب
في منطقة سرسنك الواقعة الى الجنوب من منطقة كاني ماسي، أنجز الأخوين سليم ومحمد صفقة باعا فيها 126 صندوقا و64 شوالا من التفاح الأحمر والأصفر (حوالي 3 أطنان) لأحد التجار المحليين بـ220 دولارا.
الصفقة كانت خاسرة قياسا الى الجهد الذي بذله الأخوان مع باقي أفراد العائلة، لكنهما فضلا ان يبيعا المحصول للتاجر المحلي بهذا السعر على ان يتحملا كلفة النقل الى السوق والتي لا تقل عن 200 دولار. سليم انتقد عجز المؤسسات الحكومية عن دعم مزارعي التفاح، وطالب بتحويل مبلغ الـ50 دينار التي تمنحها الحكومة لكل كيلو تفاح يتم نقله للسوق، إلى أسمدة ومواد زراعية تساعد الفلاح على تحسين أرضه بدلا من ان يأخذها التاجر المحلي الذي يشتري التفاح “برخص التراب”.
يتطلب نقل طن واحد من التفاح عبر الطرق الجبلية المتعرجة والخطرة باتجاه مدينة دهوك، قرابة الـ80 الف دينار (70 دولارا)، لكن سعره في الغالب لا يتجاوز الـ200 دولار اذا ما كان من نوعية جيدة وصادف ان السوق رائجة. يخشى المزارعون من ان لا يحصلوا على أسعار تؤمن لهم أجور النقل، وبعضهم يخشى ان لا يتمكن أصلا من بيع التفاح في السوق فيخسر الثمن الذي يدفعه مقابل النقل.
هذا ما حصل للأخوين علي وعمر اللذين كانا يقفان تحت عريشة من القش بالقرب من سيارة حمل صغيرة مليئة بصناديق التفاح في قرية خيزافا (40 كلم غرب كاني ماسي)، فلم يوفقا الى بيع 40 صندوقا نقلاها بسيارتهما الى سوق مدينة زاخو، لأن احدا لم يعرض عليهما أي سعر.
الحاج عبد القادر برواري الذي كان يجمع حبات التفاح الطازجة التي سقطت للتو، بعد أن يعزلها عن ثمار المواسم الماضية المتعفنة، تساءل عن مصير الاف الاطنان من التفاح التي تتكدس على ارض بساتين منطقة كاني ماسي. وتساءل برواري عن مصيره هو أيضا، اذا ما بقيت الحال على ما هي عليه ولم تتدخل الدولة لإنقاذ مزارعي التفاح من الخسارات الفادحة التي يتعرضون لها في كل موسم.
يعترف خيري، وهو الابن الأكبر للحاج برواري بأن الاحتفاظ بأشجار التفاح “مكلف جدا”. ففي العام الماضي خسر الحاج برواري وولديه قرابة المليون ونصف المليون دينار على هذه المزرعة، ولكن الحصيلة كانت فقط 40 صندوقا نقلاها للمنزل وتركا ما تبقى يتعفن على ارض البستان.
خسارات متلاحقة
يحدث هذا في كل موسم لجني التفاح، كما يقول الحاج كريم الذي حول الجزء الخلفي من بستانه الى مزرعة لأشجار الخوخ. ينتقد كريم عجز الدولة عن وضع سياسة تسويق ناجحة تحمي الفلاحين من الخسارة، ويشير الى ان عدم توفير الدولة لبرادات حفظ المحاصيل او معامل للتعليب، يجبر الفلاحين على تسويق محاصيلهم في وقت واحد تقريبا، ما يؤدي الى انهيار سعر التفاح من مطلع تشرين الأول أكتوبر وحتى نهاية تشرين الثاني نوفمبر.
“السوق المحلية لمحافظة صغيرة مثل دهوك لا تستوعب هذه الكمية الهائلة من التفاح، والتسويق الى المحافظات الأخرى بات شيئا مستحيلا في ظل عدم وجود تجار يأتون من المحافظات العراقية او العاصمة بغداد لشراء المحاصيل كما كان الأمر في السابق”، هكذا يقول كاكا جلال الذي يمتلك محلا لبيع المحاصيل الزراعية في سوق الجملة بمدينة دهوك.
رفيقه الحاج عزت خسر العام الماضي مبلغا كبيرا لأنه أرسل عددا من الشاحنات المحملة بالتفاح الى تجار في العاصمة بغداد والموصل وكركوك، ولم يستطع استعادة أمواله بعد ان حذره رفاقه من الوصول الى هذه المدن التي تعاني ظروفا أمنية خطرة.
الحاج عزت يعتقد أن الثقة بين التجار وخوف التاجر الكردي من الذهاب لأسواق الجملة في العاصمة، تسبب في قطع شريان التسويق. وبتأثير من تجاربه المريرة مع التفاح، بات الحاج عزت يتجنب الدخول في وساطة لبيع أي كمية من التفاح.
مع هذا، يشعر الحاج عزت بالألم وهو يرى نظرات الحسرة على وجوه مزارعي التفاح حين يضطرون الى بيع محصول موسم كامل بأي ثمن. وهو يتوقع أن ينفذ مزارعو التفاح في المواسم القادمة، تهديداتهم التي يطلقونها بعد كل صفقة خاسرة، ويعقب قائلا “هم يقولون على الدوام إنهم سيقطعون أشجار التفاح إذا استمرت خساراتهم، اعتقد أنهم سيفعلون ذلك في النهاية ويزرعون بدلا عنها الخوخ او الكرز لأنها رابحة”، ويتساءل “لكن ماذا لو تحول المزارعون الى زراعة الخوخ بالتأكيد ستتكرر الخسارات ذاتها مع غياب الدعم والسياسات الحكومية الناجحة”.
ووفقا لمسوحات مديرية البستنة، فقد قطعت بعض اشجار التفاح في منطقة باطوفة (شمال شرق زاخو الواقعة على مسافة 500 كم شمال بغداد) وحولت الى بساتين للخوخ او الكرز والفستق، كذلك الحال في منطقة جمانكي التي استبدل فلاحوها التفاح بأشجار السرو. الأمر الاخطر هو تحول مزارع التفاح الى مناطق سكنية رغم انه مخالف للقوانين، ففي مناطق مثل بادي وزاويته (10 كلم شرق دهوك) وباعذرى (25 كلم جنوب دهوك) وفي منطقة سكرين (50 كلم شمال شرق دهوك) باع الفلاحون مزارعهم للمستثمرين الذين حولوها الى مواقع سكنية.
مليون ونصف المليون شجرة تفاح، مهدةة بالانقرا
يخمن الدكتور احمد مايي المتخصص بتفاح برواري في كلية الزراعة بجامعة دهوك، ان الخسارات التي يتعرض لها مزارعو التفاح تهدد قرابة مليون ونصف المليون شجرة تفاح في دهوك بالإبادة، إما بسبب الإهمال المتعمد او بقلعها واستبدالها بمحاصيل زراعية أخرى.
الدكتور مايي الذي اصطحب طلبته في رحلة علمية الى قريته (مايي) حيث بدأت عام 1942 أولى مراحل زراعة التفاح على نطاق واسع في دهوك، قال إن التفاح المعروف بأسم “برواري بالا” يتميز بقدرته على الاحتفاظ بطعمه المميز حتى في حال تأخر خزنه لأسابيع، لكن المشكلة “أن فشل سياسة التسويق قد تقنع الفلاح باستبداله بمحاصيل أخرى سريعة التسويق، وسنفقد حينها نوعا نادرا اشتهر على نطاق واسع منذ ستينيات القرن الماضي”. يضيف الدكتور مايي محذرا، أن الجو السائد في برواري بالا حيث يسقط الثلج عادة بكثافة من أواخر تشرين الثاني نوفمبر وحتى آذار مارس، يناسب أشجار التفاح أكثر بكثير مما يناسب باقي أنواع الفواكه التي قد لا تقاوم بيئة قاسية مثل هذه البيئة.
يعترف مدير دائرة البستنة في محافظة دهوك أن الخطر الذي تتعرض له أشجار التفاح كبير جدا، فهناك آلاف المزارع التي لم يعد يعتني بها أحد، وهناك الكثير من الحالات التي رصدتها مديرية البستنة يتم فيها إهمال أشجار التفاح “حتى الموت”. لكن الأمر لم يصل حتى الان الى مرحلة قطع الاشجار بشكل واسع.
لا أحد يسأل عن شتلات التفا
يكشف فاروق يوسف سليمان عن تراجع يصفه بـ”المخيف” في مساحات الارض المزروعة بالتفاح، فدائرة البستنة كانت توزع 100 الف شتلة تفاح سنويا على المزارعين منذ عام 2003 حتى عام 2006، لكن بعدها “تراجعت الأرقام تدريجيا، حتى توقفنا في العام الماضي عن التوزيع لان احدا لم يعد يريد شراء أشجار التفاح”.
لا يمكن ان تجبر دائرة بستنة دهوك المزارعين على زراعة شيء لا يريدونه، يقول سليمان الذي يشير الى ان الدائرة وزعت العام الماضي 35 الف شجرة زيتون حلت محل اشجار التفاح في مناطق متعددة من دهوك، وستوزع هذا العام 70 الف شجرة زيتون. يعترف سليمان مرة ثانية بأن أشجار التفاح ينتظرها مستقبل خطير، وبأن الخطط الزراعية لم تفلح في إقناع الفلاحين بالتمسك بأراضيهم او إتباع طرق زراعية قد تدر عليهم فائدة.فهم يعتقدون ان المشكلة الأساسية ليست في الإنتاج بل في التسويق.
أزمة اسمها “التسويق”
ورغم ان مدير الأبحاث الزراعية في دهوك درسيم مه مي ابراهيم، يتفق مع سليمان على أن المشكلة الأساسية تكمن في التسويق، لكنه يضيف سببا آخر هو أن نوعية التفاح الموجود في المنطقة تحتاج الى تحسين في الشكل والحجم كي تزيد فرصها في منافسة المنتوج الأجنبي “نحن نختبر الآن في منطقة كفنسني (30 كلم شمال شرق دهوك) صنفا من التفاح ينضج في شهر آب بدل تشرين الأول ويمتاز بنوعيته وشكله الجيد، وهناك سعي دائم لتطوير نوعية التفاح الموجود، لكن عموما لا احد يهتم بمتابعة بحوثنا وتوصيات مؤتمراتنا”، يقول منتقدا سوء التخطيط.
وتعتقد الدكتورة سرفزار فتاح علي البامرني المتخصصة بالعناية وخزن الفواكه في جامعة دهوك، أن المؤسسات الحكومية لم تنجح في تقديم حلول تساهم في إنقاذ الواقع الزراعي في كردستان، وبالذات فيما يتعلق بالخطر الذي يتهدد أشجار التفاح.
تقول الدكتورة سرفزار إنها ليست متفائلة بمستقبل زراعة التفاح في دهوك لأن العصب الرئيسي للقطاع الزراعي (التسويق) لا ينظر اليه بجدية حتى الان، ودوائر التخطيط “تصر أن تضع خططها بمعزل عن المؤسسات البحثية والجامعية”.
“تنظر الدوائر الزراعية بشكل خاطيء لأزمة كساد التفاح، فهي ليست متعلقة بتوسيع الانتاج مطلقا، لدينا الان مئات الآلاف من اطنان التفاح متروكة في المزارع”، تتساءل الدكتورة سرفزار، “هل المطلوب منا ان نجد وسائل لتسويقها أم الانشغال بإقامة دورات زراعية عابرة يحضرها أبناء الفلاحين الصبيان، لا لكي يتعلموا، بل لكي يحصلوا على ادوات زراعية مجانية او منشار كهربائي او حتى دزينة من المقصات تمنح لهم في نهاية كل دورة”.
بدون مخازن تبريد “سيتعرض الفلاح للمزيد من الخسائر في كل موسم”، تضيف الدكتورة سرفزار التي لا ترى أن ستة مخازن أنشئت مؤخرا في مناطق برواري ومانكيش وبامرني وزاخو، ستفي بالغرض حتى لو عملت بشكل جيد، فحجمها وعددها لا يمثل شيئا يذكر قياسا الى حجم الانتاج.
خطط تحتاج لوقت
يحاجج مدير التخطيط في محافظة دهوك مسعود عبد العزيز بأن الخطط التي وضعتها المديرية “تحتاج وقتا لكي تؤتي ثمارها”، فلا يمكن إصلاح الواقع الزراعي بخطط ارتجالية تصلح للتطبيق عاما أو عامين.
يرى عبد العزيز أن تركة النظام السابق على الواقع الزراعي “كانت ثقيلة، فلحد الان لم تكتمل البنية التحتية للزراعة الحديثة، ومشاريع دعم الفلاحين تواجه مشاكل عدد كبير منها يعود للفلاح نفسه”. يشير عبد العزيز هنا الى أن مديرية الزراعة في دهوك صرفت خلال هذا العام قرابة الـ18 مليار دينار عراقي (15 مليون دولار) لدعم المزارعين، ونفذت خطط إقراض ودعم للمشاريع بنسبة 60%، لكن ما حصل أن عددا من الفلاحين “باعوا أجهزة الري التي قدمت لهم بسعر مدعوم، وآخرون تسلموا الجرارات الزراعية بسعر مدعوم وبالتقسيط ثم سارعوا لبيعها”.
يتابع عبد العزيز أن “الجميع يلقي بالمسؤولية على مديرية الزراعة ويتغاضى عن دور باقي المؤسسات، هناك مشاريع مشتركة مع وزارتي الصناعة والتجارة لم تنفذ حتى الان، مشاريع إنشاء مصانع تعليب بالقرب من المزارع لم تتحقق، خطط التسويق ما زالت بدائية حتى الان ولا تساهم وزارة التجارة معنا في حل هذه المشكلة”. وينتقد عبد العزيز “العقبات التي تحد من دخول الاستثمار الأجنبي للقطاع الزراعي، فبدون رؤوس أموال تنفق في مشاريع التعليب أو الخزن والتبريد او تأسيس شركات تسويق، ستظل المشكلة قائمة”. ويحمل عبد العزيز الإجراءات الخاصة بعمليات الاستثمار مسؤولية فشل المشاريع الاستثمارية في القطاع الزراعي.
الاستثمار والقوانين
فلاح حاجي، المسؤول في هيئة استثمار دهوك، يقول إن عدم وجود مشاريع استثمارية حقيقية في المحافظة يعود الى “القوانين الزراعية المعقدة”، والمشاكل المتعلقة بالنزاعات على ملكية الاراضي الزراعية، فضلا عن عزوف المستثمرين اصلا عن الاستثمار في القطاع الزراعي بسبب الحاجة لوقت طويل للحصول على الربح، على العكس تماما من باقي المجالات التي يكون جني الأرباح فيها سريعا.
قانون الاستثمار رقم 4 لسنة 2006 المصدق من قبل حكومة إقليم كردستان، لا يفرق بين المستثمر المحلي والمستثمر الأجنبي في التعامل، رغم ذلك، يكشف حاجي أن ذلك لم يشجع المستثمرين العرب والأجانب على الدخول بجدية في هذا المجال.
تواجه المشاريع الاستثمارية في مجال مزارع التفاح، كما يقول المستثمر قاسم سلمان، مشاكل أخرى تتمثل في صغر مساحات المزارع وتقسيمها الى كتل اصغر مع مرور الوقت بسبب الأعراف الاجتماعية التي تفرض على الفلاح الكردي ان لا يفرط بأرضه، ويعقب قائلا “أي مشروع استثماري يحتاج مساحات واسعة لإنتاج نفس المحصول تخفيضا للكلف، لكن تقسيم الارض الى مساحات صغيرة لا يمكن معالجته لأنه مرتبط بالأعراف الاجتماعية أكثر من ارتباطه بالخطط الزراعية”.
الوظائف بدلا من الزراعة
المهندس الشاب بسام مزوري الذي كان يتجول معنا في بستان العائلة في قرية كزو (30 كم شمال دهوك)، يعتقد أن تقسيم الأرض بين الأبناء ومن ثم الأحفاد “سيؤدي في النهاية الى ان يحصل كل كردي على شجرة تفاح واحدة فقط”.
يشرح المهندس مزوري فكرته بالقول “كان لجدي ارض واسعة تقاسمها أبناؤه بعد وفاته، ومن بين 400 شجرة كانت حصة والدي من تركة أبيه، ستكون حصتي 80 شجرة فقط، وربما سيحصل أولادي على 20 شجرة لكل منهم، تتقلص ليكون لكل حفيد من أحفادي المقبلين ربما، شجرتي تفاح او ثلاثة”، يعقب مزوري ساخرا.
المهندس بسام لا يفكر مطلقا في بيع حصته من اشجار التفاح، لكنه في ذات الوقت لا يفكر في ترك عمله في مطبعة الجامعة ليتفرغ للعناية بالأرض لأنها “لم تعد مجدية”.
هذه النقطة بالذات تراها التدريسية بكلية الاقتصاد في جامعة دهوك سعاد عبد القادر “جوهر القضية”، فالسياسة الحكومية التي اعتمدت على رفع نسبة التوظيف الحكومي للتخلص من المشكلات التي تفرضها البطالة، “أضرت بالقطاع الزراعي” وتعلل قادر ذلك بأن الفرد غالبا ما يفكر من منطلق العائد والكلفة، وبما أن العمل بالوظيفة الحكومية يؤمن له العائد ويجنبه الكلفة، لن تكون هناك مبررات لتوجهه نحو العمل بالقطاع الزراعي او الصناعي لأنه سيكون مكلفا جدا بالنسبة له.
بين الحرب والخطط الزراعية الفاشلة.. التفاح يقتل مرتي
يعتقد الدكتور طه وهو رئيس قسم البستنة في كلية الزراعة بجامعة دهوك، أن الخطر الذي يتهدد أكثر من مليون ونصف المليون شجرة تفاح “لا يمكن التعامل معه بسهولة، ونحن نخشى فعلا أن يتكرر ما حصل سابقا من إبادة أشجار التفاح كما حصل جراء سياسة الترحيل التي اتبعها النظام السابق، ولكن هذه المرة بسبب التسويق وليس الحرب”.
في العام 1975، كما يتذكر الدكتور طه، مارس النظام السابق عمليات ترحيل استمرت حتى الانتفاضة التي شهدتها كردستان عام 1991، وطوال 16 عاما كانت مزارع التفاح مع باقي الغابات في برواري بالا وغيرها من المناطق الزراعية الخصبة التي اعتبرت مناطق عسكرية محرمة على المدنيين، تحرق بشكل دوري كي لا يتخفى خلفها المقاتلون الأكراد.
هذه السياسة كما يقول الدكتور طه “تسببت في ضياع المساحات الشجرية وحرمان مناطق متعددة من كردستان من الغابات الكثيفة المعمرة”، اغلب المزارع الموجودة حاليا زرعت بعد عام 1991، وعمرها لا يتعدى العشرين سنة، مع هذا، فهي تواجه خطر الإبادة مجددا بسبب تراجع واقع زراعة التفاح.
هناك ايضا مخاطر الجفاف التي قضت على بعض مزارع التفاح في باطوفة ومناطق اخرى، فالموسمين الأخيرين “كانا فعلا قاتلين لأشجار التفاح”. يقول الدكتور طه الذي أشار الى ان قلة مشاريع الإرواء هي الأخرى ساهمت في تقليص مساحات أشجار التفاح، وستساهم في القضاء على إعداد كبيرة منها اذا لم تسرع الجهات المسؤولة في انجازها.
في هذا الصدد يحذر مدير بيئة دهوك دلشاد عبد الرحمن، من ظاهرة استبدال أشجار التفاح المعمرة بأشجار قصيرة العمر مثل الخوخ او المحاصيل الموسمية، فهذا سيؤدي حتما الى فقدان الغطاء النباتي الذي يحفظ التوازن البيئي في المحافظة، وهو ما ينبئ بمخاطر مع استمرار مواسم الجفاف لأكثر من ثلاثة أعوام متتالية.
لكن الحاج سالار بيدهي الذي توقف بالقرب من نصب صغير وضع فيه حجر الأساس لسد مائي في قرية بيدهي التابعة لمنطقة برواري بالا، يعتقد بأن أغلب المشاريع الاروائية التي أريد منها تجاوز مخاطر الجفاف لم يخطط لها او لم تنفذ بشكل صحيح، فإما انها انشئت في مناطق لا تحتاج اليها فعلا، أو ان انجازها تأخر في المناطق المحرومة من المياه، يضيف الحاج سالار “هذا السد مثلا قيل لنا انه سيعيد الحياة الى القرية، لكنه ما زال مجرد كلمات كتبت على حجر”.
السد الذي بدأ العمل به منذ شباط فبراير من عام 2010، رصدت له ميزانية تقارب الـ11 مليون دولار، ولكن احدا من المسؤولين لم يزر القرية بعد ان انتهت الانتخابات التشريعية التي تزامنت مع وضع حجر الأساس.
أولاد الحاج احمد، هوزان وحمة، كانا ما يزالان ينتظران على الشارع العام بانتظار سيارات السواح التي تقصد المنطقة، حين أوشك المساء ان يخيم على حقول التفاح. يقول هوزان الذي نجح في إقناع احد السياح بشراء كيسين من التفاح الأحمر يزن كل منهما 25 كغم، بسعر لم يتجاوز الـ 8 الاف دينار (7 دولارات فقط) أنه لن يضطر للوقوف على الشارع العام في الموسم القادم، لأن والده سيزرع الخوخ “بدلا عنها”، قال هذا وهو يشير الى المئات من اشجار التفاح الذابلة في حقول أبيه الثلاثة، حين كانت تغرق في ظلام الليل الذي اوشك أن يطغى على حقول التفاح المترامية على امتداد منطقة برواري بالا الجبلية.
أشرف على انجاز التحقيق، المشرف العام على شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) محمد الربيعي، بالتعاون مع الاستاذين زهير الجزائري وسعد حتر، لصالح شبكة اعلاميون من اجل صحافية استقصائية عربية (أريج).

المزيد عن تحقيقات استقصائية

Investigations

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17359}" data-page="1" data-max-pages="1">