تحقيقات استقصائية: أجيال الانتحاريات في العراق: بين رباعية الموت والإخلاص لأمراء غرباء

أجيال الانتحاريات في العراق: بين رباعية الموت والإخلاص لأمراء غرباء

تحقيق: ميادة داود

انتقلت الشابة العراقية أمل من وهم الارتباط المقدس إلى «مشروع انتحارية» بعد أن وعدها مجندوها بحياة سرمدية في الأبدية. أمل، التي لم تجتز صف الخامس الابتدائي بسبب عوز أسرتها، أقامت علاقة عاطفية مع شاب ينتمي لتنظيم «القاعدة» تخلى عنها بمجرد أن عرف أنها «حامل».
لم تجد أمل حينها سوى اللجوء إلى إحدى قريبات الشاب «الخائن» لإقناعه بالزواج منها. لكن الأخيرة سلمتها إلى أحد رجال الدين المتعاونين مع التنظيم فأقنعها بأن السبيل الوحيد للتكفير عن ذنبها هو تنفيذ عملية انتحارية «ضد المشركين» تصون بها سمعتها وسمعة عائلتها وتنال بها الجنة.
تنتمي أمل إلى الجيل الثالث من الانتحاريات، اللواتي وقعن ضحايا عناصر ينتمون للجماعات المسلحة، كما يقول مصدر أمني في ديالى. كانت هفوة الفتاة تنتهي بإقناعها بـ «تنفيذ عملية انتحارية للتكفير عن الخطيئة».
لم تحصل أمل على «الجنة الموعودة» حتى الآن، الا انها تنتظر حكماً قد يصل للسجن المؤبد بعد أن فشلت أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي في تفجير حزامها الناسف على بعد خطوات من نقطة تفتيش عسكرية، على ما يؤكد مسؤول أمني في ديالى.
شهلاء التي ارتبطت بعلاقة «حميمة» مع أحد عناصر «القاعدة»، قضت على يد والدها الذي سارع إلى دفنها في حديقة المنزل، بعد أن تيقن أنها كانت تنوي تنفيذ عملية انتحارية داخل حشد لمؤدي الطقوس الدينية في المدينة.
يقول المسؤول الأمني إن والد شهلاء أبلغ المحققين أن موت ابنته وتعرضه هو للسجن، أفضل بكثير من أن «يخسر عشرات الأبرياء حياتهم ثمناً لقصة حب بين انتحارية ومسلح من مسلحي القاعدة».
رانيا العنبكي وأم المؤمنين تقبعان منذ سنوات في السجن، ونالتا شهرة واسعة بعد أن ظهرت الأولى في شريط فيديو وهي مربوطة إلى حاجز حديدي ويلتف حولها حزام ناسف يحاول خبراء التفجير تفكيكه، والثانية في شريط تلفزيوني تضمن اعترافاتها بأنها «مجندة انتحاريات».
إلى جانب رانيا و(أم المؤمنين) تقضي عشرات النساء «الانتحاريات» حياتهن في السجون، على خلفية مشاركتهن في تجنيد انتحاريات أو محاولة تنفيذ عمليات انتحارية. تسببت 21 عملية منها في قتل 124 عراقياً وإصابة ما لا يقل عن 344 آخرين، كما يقول الفريق الركن عبد الكريم الربيعي الذي تولى منصب قائد عمليات ديالى بين ربيع عام 2007 وصيف 2009.
العملية الأشد فتكاً نفذتها انتحارية وسط المتبضعين في سوق منطقة بلدروز مطلع أيار( مايو) عام 2008، وتسببت بمقتل 33 مدنياً وجرح ما لا يقل عن 60 آخرين.
رباعية ( الانتقام/ العقيدة/ الجهل/ الفقر)
خبراء علم اجتماع، رجال دين وقادة أمنيون ومنشقون عن تنظيم القاعدة وسجانون، يحمّلون الجماعات المسلحة، وتنظيم القاعدة بشكل خاص، مسؤولية الإيقاع بالنساء في شراك “الموت الناعم” واستخدامهن كـ”قنابل موقوتة” في الصراع الطائفي الذي اجتاح العراق بين عامي 2006 و2008. لكن أيا من تلك الأطراف لا يغفل المتسبب الرئيسي في انخراط عشرات النساء في ظاهرة الانتحاريات، وهي رباعية الانتقام/ تفسير مغلوط للعقيدة/ الجهل/ الفقر التي سادت في معظم القرى والمدن الصغيرة في العراق.
تتصدر الدوافع “رغبة في الانتقام” لمقتل أو اختطاف الزوج أو الأب أو الابن. تضّخم هذه الرغبة، عقائد متشددة انتشرت بشكل غير مسبوق مع دخول خلايا تنظيم القاعدة للعراق بالتزامن مع الغزو الأمريكي في نيسان (ابريل) عام 2003.
ثنائية (العقيدة المتشددة) و(الانتقام)، كما يقول خبراء علم الاجتماع، وجدا بيئة حاضنة سريعة التفاعل معهما وهي ثنائية (الفقر) و(الجهل) اللذان انتشرا في عموم البلاد بتأثير الحصار الاقتصادي المفروض على العراق منذ غزو قوات رئيس النظام السابق لدولة الكويت عام 1990.
تشير الإحصائيات الرسمية الى أن قرابة 30 % من سكان ديالى يعيشون تحت خط الفقر. النسبة ذاتها من السكان، وفقا لهذه الاحصائيات، لا يعرفون القراءة والكتابة. وترفع الاحصائيات غير الرسمية النسب إلى 40 % كمعدل فقر وما يقارب 45 % كمعدل للأمية. النسبة الأعظم من هذه الأرقام من حصة المرأة في محافظة تبلغ نسبة النساء فيها أكثر من 55 % من عدد السكان البالغ 1.4 مليون مواطن.
تصف مسؤولة محلية سابقة ب”المأساوية” حالة الفقر التي استوطنت في محافظة ديالى إبان اتساع ظاهرة الانتحاريات. فالكثير من الفلاحين المسالمين فقدوا أسباب الرزق حين تحولت بساتينهم إلى “ساحات تدريب” لعناصر القاعدة وجبهة معارك مشتعلة على الدوام ومزروعة بالعبوات الناسفة ونقاط التفتيش الوهمية.
تقول المسؤولة المحلية، التي ترفض الكشف عن هويتها لأسباب أمنية: “مشاهدة عشرات النساء المتشحات بالسواد وهن يحملن على عربات تقودها الحيوانات، حفنة خضار باتجاه السوق للحصول على ما يسد رمق العائلة، كان مألوفا جدا”. آنئذ لم يكن اجتياز النساء لنقاط التفتيش يبعث على الريبة، وهو ما دفع أمراء تنظيم القاعدة إلى الاستفادة من ظاهرة “النساء المحرومات”، وتحويلها الى ظاهرة “النساء الإنتحاريات”.
اضطراب نفسي وروايات متعددة
تعترف “مشروع الانتحارية” رانيا العنبكي، بأنها أدلت بالكثير من المعلومات “الكاذبة” أمام المحققين طوال السنوات الثلاث التي أعقبت اعتقالها متلبسة بارتداء حزام ناسف. مثلها تماما، تراجعت (أم المؤمنين) عن اعترافات سابقة بتجنيد 28 فتاة بعد أن قالت إنها نجحت في تجنيدهن لتنفيذ عمليات انتحارية في مناطق متعددة من محافظة ديالى.
“الخداع”، تعدد الروايات ومحاولة إخفاء الحقائق، كانت السمة الطاغية على أحاديث 16 “مشروع انتحارية” أو “مجندة انتحارية” او “متعاونة” حاورتهن كاتبة التحقيق في سجون وزارات الداخلية والعدل والعمل. لكن مطابقة المعلومات التي توردها الإنتحاريات مع سجلات القضاء وشهود النفي والإثبات وبيانات الجماعات المسلحة وآراء الخبراء، يكشف الكثير من الملامح الحقيقية لواحد من أعقد ملفات العنف وأخطرها في العراق منذ عام 2003.
“انتحارية” بعقوبة
تنفي رانيا العنبكي التي تنحدر من عائلة معدمة، أن يكون دافع الانتقام لمقتل والدها وأخيها وراء ارتدائها حزاما ناسفا والتوجه نحو إحدى نقاط التفتيش. رغم ذلك، لم تتوقف عن الإشارة إلى أن والدها وشقيقها قتلا على “يد مسلحين من طائفة أخرى” في منطقة (ابو صيدا).
المسؤولون الأمنيون وأوراق التحقيق تنقض رواية رانيا. فوالدها نفذ عملية انتحارية في ناحية (ابو صيدا) عام 2006 قتل فيها تسعة أشخاص وجرح آخرين. شقيقها هو الآخر نفذ عملية في إحدى مدن المحافظة. فيما اعترف زوجها محمد بانتمائه لتنظيم القاعدة ونال حكما بالسجن 20 عاما.
كانت رانيا التي ازداد وزنها وتحسنت هيئتها كثيرا عما ظهرت عليه في شريط الفيديو لحظة اعتقالها، تجابه كاتبة التحقيق بإجابة ثابتة كلما
سألتها عن الكيفية التي اقتنعت بها بارتداء الحزام الناسف: “لا اعرف”، “لا أتذكر”. ومع كل معلومة اعترفت بها في التحقيق أو على شاشات التلفزيون وسألناها عنها، كانت رانيا تردد “كنت أكذب”، “أكذب”، “كنت اكذب طوال الوقت”.
وتقدم رانيا قصة “غير محبوكة” لملابسات ارتدائها الحزام الناسف تروي فيها كيف أن زوجها محمد أوصلها لمنزل قريبتين له وبقي في غرفة مجاورة أثناء عملية تفخيخها “دون أن يعرف شيئا”. وهي أيضا لم تكن تعرف “أي شيء” لأن القريبتين “ربما” خدرتاها بـ”لفة الفلافل” وعلبة عصير قبل أن يلبسنها الحزام الناسف.
يترافع عن رانيا الآن أربعة محامين لتخفيف الحكم الذي صدر بحقها في 3 آب أغسطس عام 2009 والذي يقضي بسجنها 7 سنوات (ارتفع عند الاستئناف الى 15 سنة). أحد هؤلاء المحامين عينته المحكمة وفقا للقانون السائد. لكن الثلاثة الآخرين وكّلهم زوجها محمد، رغم انه الآن يقضّي حكما بالسجن 20 عاما بتهمة الإرهاب.
تضارب الأرقام
لا يتطابق الرقم الذي وثقه الفريق الربيعي لعدد العمليات الانتحارية (21 عملية) مع ما أحصته كاتبة التحقيق (60 عملية خلال عام 2008 فقط في عموم العراق) استنادا إلى إفادة مسؤولين أمنيين لوكالات أنباء أبرزها (رويترز)، (أصوات العراق) و(نينا).
ورغم أن الرقمين لا يتطابقان أيضا مع ما ذكرته بيانات تنظيم القاعدة (77 عملية انتحارية منها 49 في ديالى لوحدها) وتصريحات المتحدث باسم الجيش الأمريكي (27 عملية في عموم العراق خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2008)، فإن الفريق الربيعي يرى أن ذلك “يبدو مفهوما في ظل حالة الهستيريا” التي خلّفها اتساع ظاهرة الانتحاريات واعتقاد المسؤولين الأمنين بأن أي تفجير انتحاري أو انفجار سيارة مفخخة هو “تفجير انتحاري نفذته امرأة ترتدي حزاما ناسفا”.
توافق بين العقيدة والأيديولوجية
أول فصول قصة الانتحاريات في العراق بدأ دعائيا حين عرض التلفزيون الرسمي العراقي مقاطع لامرأتين ملثمتين وهن يتوعدن القوات الأمريكية المتقدمة إلى العاصمة بغداد بتنفيذ “عمليات استشهادية” لمنعها من التقدم. المواقع التابعة لحزب البعث المنحل ذكرت أن الـ”استشهاديتين” نفذتا عملية مزدوجة يوم 4 نيسان 2003 وقتلتا عددا من الجنود الأمريكيين دون الإشارة إلى المدينة التي جرت فيها العملية.
خارج بيانات البعث، لا دلائل تؤكد وقوع عملية من هذا النوع..
تشير أدبيات البعث، الحزب الحاكم في العراق بين 1968 و2003، إلى عملية أخرى نفذتها “استشهادية” عراقية ضد القوات الأمريكية في مدينة الصويرة جنوب بغداد. لكن مسؤولا أمنيا بارزا في المدينة كشف لكاتبة التحقيق أن الأشلاء التي عثر عليها في موقع العملية “كانت لرجل انتحاري فجر نفسه داخل سيارة مفخخة”، لافتا إلى أن قصة “الانتحارية” استخدمها البعث “للدعاية فقط”.
الأمر ذاته (الدعاية)، انطبق على عملية بلدة تلعفر القريبة من الحدود السورية والتي قتل فيها 5 عراقيين وجرح 56. فالعملية التي نسبها زعيم تنظيم القاعدة أبو مصعب الزرقاوي (*) إلى امرأة “استشهادية”، تبين فيما بعد أنها كانت من تنفيذ شاب في العشرينيات من العمر تخفّى بزي امرأة، بحسب مسؤول في شرطة مدينة تلعفر.
باستبعاد الخبطات (الدعائية)، تشير دلائل وثّقها مسؤول بارز في مديرية مكافحة الإرهاب بمحافظة الأنبار إلى أن أول عملية تفجير “حقيقية” نفذتها انتحارية، كانت في آذار مارس 2004. يومها فجرت “انتحارية” نفسها بين القوات الأمريكية في مدينة حديثة، على أطراف الأنبار – معقل القاعدة وتنظيمات إسلامية متطرفة. ولم يعرف فيما أسفرت تلك العملية عن ضحايا.
بعدها، لم تسجل أي عملية انتحارية بتوقيع امرأة في الأنبار حتى عام 2010، حين فجرت انتحارية نفسها داخل المجمع الحكومي وسط الرمادي – مركز المحافظة- فقتلت وجرحت 31 شخصا.
القاعدة.. من التردد إلى تبني إستراتيجية الانتحاريات
تخلو المساحة الزمنية بين عملية الأنبار الأولى (مارس 2004) وعملية تلعفر المزعومة (سبتمبر 2005) من أي عمليات انتحارية على يد نساء، كما يقول الخبير في الجماعات المسلحة فائق الجنابي، الذي يؤشر إلى أن هذه المرحلة كانت مرحلة “قتال ضار” خاضته شتى الجماعات المسلحة بين بعضها البعض أو بينها وبين القوات العراقية والأمريكية. لم يكن للمرأة دور في تلك العمليات إلا كمتطوعات في نقل الأسلحة أو الرسائل أو إيواء المسلحين.
“التحول الخطير” كما يسميّه الجنابي، بدأ حين روّج الزرقاوي في الربع الأخير من عام 2005 لفكرة “المرأة الاستشهادية” مقابل “الرجل المتخاذل” عن الالتحاق بالقتال في العراق، بعد أن تجنب منظرو تنظيم القاعدة هذه القضية ” الشائكة” دينيا واجتماعيا لسنوات.
يعتقد الجنابي أن معظم الباحثين لم يتمكنوا في ذلك الوقت من الربط بين استخدام الزرقاوي لورقة “الاستشهاديات” من أجل جذب المزيد من المقاتلين الأجانب، وبين مرحلة العنف الطائفي التي بدأت بعد خمسة أشهر على تفجيرات مراقد مقدسة بمدينة سامراء في شباط فبراير 2006. (*)
استيراد وتصدير الانتحاريات
لاقت رسالة الزرقاوي استجابة لم تكن متوقعة، كما يرى الخبير بالجماعات المسلحة. ففي ذات الوقت الذي ازدادت نسبة المتطوعين العرب والأجانب الذين دخلوا عبر الحدود للالتحاق بالقتال مع الزرقاوي، دخلت ظاهرة “الانتحاريات” مرحلة خطيرة تميّزت بزوال الحدود الجغرافية أمام حركة الانتحاريات.
أول انتحارية وصلت إلى العراق قادمة من القارة الأوربية، كانت الانتحارية البلجيكية موريل ديغوك (*) التي عدّت جزءا مهما من حلقة تجنيد واسعة قامت بها الجماعات المتشددة في أوروبا لدعم تنظيم القاعدة في العراق، كما يقول المتحدث باسم وزارة الدفاع محمد العسكري، الذي يستشهد بإلقاء القبض على إحدى المجموعات المتشددة في هولندا، كانت تقوم بتدريب “نساء انتحاريات” من بلجيكا وفرنسا بهدف إرسالهن إلى العراق.
الشقراء البلجيكية ديغوك (أو مريم كما أطلقت على نفسها بعد إشهار إسلامها) فجرت حزامها الناسف على دورية أمريكية في مدينة بعقوبة بتاريخ 9 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2005. تزامن ذلك مع الخطوة الأكثر جرأة لتنظيم القاعدة، وهي تصدير الانتحاريات العراقيات إلى الخارج.
تلك الاستراتيجية تمثّلت بالتفجيرات التي نفذت في 9 نوفمبر 2005 (وهو توقيت عملية ديغوك). راح ضحية تلك العمليات ـ60 قتيلا. الانتحارية العراقية ساجدة الريشاوي التي فشلت في تفجير حزامها الناسف، ظهرت على التلفزيون الرسمي الأردني وهي تدلي باعترافاتها حول العملية التي كانت تحاول تنفيذها بصحبة زوجها واثنين من رفاقه فجروا أحزمة ناسفة في الفنادق الثلاثة المستهدفة.
قبل تلك العملية، كان ثلاثة من أخوة ساجدة الريشاوي، التي ما زالت حتى الآن تنتظر تنفيذ حكم بالإعدام، قد نفذوا عمليات انتحارية داخل العراق، ومنهم شقيقها ثامر الريشاوي الذي كان الساعد الأيمن للزرقاوي، بحسب ما قاله مصدر أمني عراقي آنذاك.
أجيال الانتحاريات
اذا كانت ملامح الجيل الأول من الانتحاريات ضاعت في البيانات “الدعائية” لتنظيم القاعدة بعد عام 2003. فالجيل الثاني من الانتحاريات كان أكثر وضوحا ونفذ هجمات عنيفة طالت معظمها مراكز أمنية وتجمعات مدنية وأثارت الرعب في كل مدن العراق.
يروي لنا الشيخ صالح، وهو رجل اربعيني حارب ضد تنظيم القاعدة مع قوات الصحوة لسنوات، كيف ظهر “الجيل الثاني” من الانتحاريات.
يتذكر الشيخ صالح أن هذا الجيل كان في بدايته “جيلا عقائديا” تشرّب فكر القاعدة إلى حد أن الكثير من الانتحاريات المنتميات لهذا الجيل، كن مأخوذات بفكرة الارتباط بـ”المجاهدين الأبطال” الذين تركوا أوطانهم ليلتحقوا بواجب الجهاد على ارض العراق.
الكثير من العراقيين الذين انضموا لتنظيم القاعدة، كما يقول الشيخ صالح، وهبوا بناتهم الصغيرات أو شقيقاتهم لأمراء تنظيم القاعدة القادمين من البلاد العربية أو أفغانستان أو باكستان أو دول أخرى.
من هؤلاء كان شقيق زوجة الزرقاوي الذي عرض على الأخير الزواج بشقيقته كي يستقر في المدينة ويتفرغ لـ”محاربة الكفار”، كما يقول الشيخ صالح.
الصفة الأبرز لهذا الجيل ان الانتحاريات كن في الغالب “زوجات لأمراء القاعدة”، كما يضيف الشيخ صالح الذي أشار إلى أن عددا ليس قليلا من زوجات أمراء القاعدة نفذن عمليات انتحارية بعد مقتل أزواجهن، أو قتلن مع أزواجهن، مثل زوجة الزرقاوي التي قتلت معه في غارة جوية أمريكية في حزيران (يونيو) عام 2006.
جيل “الدولارات والأحزمة الناسفة”
أعقب جيل زوجات الأمراء و”عقائديات” القاعدة. جيل ثالث تميز، كما يقول الشيخ صالح، بأنه كان أوسع انتشارا من الجيلين السابقين. وتزامن صعود نجم هذا الجيل مع ارتفاع حدة الصراع الطائفي. غالبية الانتحاريات اللواتي انتمين لهذا الجيل كن “قاصرات” ينحدرن من عائلات ذات مستوى معيشي وثقافي متدن جدا، ومنهن رانيا العنبكي.
ارتبط ظهور هذا الجيل بالحاجة إلى الحماية، أو الرغبة بالحصول على المال. ويروي الشيخ صالح، كيف أن العديد من العوائل في ديالى كانت تسارع إلى تزويج بناتها من “أمراء” القاعدة حالما يصلون إلى القرى وهم يحملون “الدولارات والأحزمة الناسفة معا”.
كتائب الانتحاريات
شهدت قصة الانتحاريات في العراق تحولات شتى خلال فترة العنف الطائفي. ففي أواسط عام 2007 كانت الظاهرة تتسع لتتحول من التجنيد الفردي إلى التنظيم الجماعي. في تلك الفترة أعلن تنظيم القاعدة عن تشكيل أول “كتيبة استشهادية” في العراق؛ الخنساء، التي تكونت من 26 انتحارية اغلبهن من أقارب عناصر القاعدة، على ما يقول ضابط رفيع في مديرية التحقيقات.
كتيبة أخرى للإنتحاريات تشكلت منتصف 2008 على يد زوجة زعيم تنظيم القاعدة شمال العراق والمدعوة (أم سلمة). هذه الكتيبة انتشرت في عدة مدن عراقية ونشرت بيانات تتوعد فيها بـ” انتقام تصبه العشرات من نساء الفلوجة وبغداد وديالى وثكلى وأرامل الموصل”. ولم يعرف حتى الآن مصير أم سلمة. لكن يبدو أن كتيبتها “نفذت بالفعل عمليات في ديالى وبغداد”، كما يعتقد ضابط التحقيقات.
معسكرات تدريب “الانتحاريات”
يعتقد مسؤول محلي في منطقة جلولاء التي تعرضت للعديد من العمليات الانتحارية بين عامي 2006- 2008، أن الانتحاريات كن يتلقين التدريب على الأحزمة الناسفة في مناطق بعيدة عن سيطرة القوات العراقية. ويشير إلى أن المعلومات الاستخبارية التي اطلع عليها بحكم منصبه، تثبت ان أكثر من 25 انتحارية كن يتدربن حتى صيف 2008 على تفجير الاحزمة الناسفة في مغارات تلال حمرين الواقعة شرقي ديالى.
لكن قائد عمليات ديالى يقلل من أهمية التدريب الاستباقي. فهو يرى أن استعمال الحزام الناسف لا يتطلب تدريبا حقيقيا. ففي الغالب “تتزنّر المرأة أو يزنّرها أحد أفراد عائلتها بحزام ناسف ويعلمّها طريقة الضغط على زر التفجير فقط”. يلاحظ قائد العمليات هنا أن عملية “الضغط على زر التفجير” لم تكن تقلق تنظيم القاعدة، فأغلب العمليات تمت بطريقة التفجير بالريموت كونترول الذي يحمله الشخص المكلف بمتابعة ومراقبة الانتحارية.
الباحث الاجتماعي فارس العبيدي لا يذهب بعيدا عن فكرة الفريق الربيعي. إذ يرى أن لدى غالبية الفتيات اللواتي انخرطن في ظاهرة الانتحاريات “خبرات قتالية اكتسبنها من العائلة نفسها”. يدعم العبيدي رأيه بأن اغلب من التقاهن من “نساء القاعدة” ابلغنه أنهن كن يستمعن على مائدة العشاء من أخوتهن وآبائهن المنتمين إلى تنظيم القاعدة، إلى “تفاصيل المعارك التي يخوضها الرجال، وكيف يقومون بنقل العبوات الناسفة وتوقيتها”، وأحيانا “صناعتها يدويا داخل المنزل”.
استراتيجية التجنيد
يعتقد المنشق عن القاعدة ابو أسامة العراقي، أن التنظيم استخدم سطوته على أتباعه العراقيين الأكثر فقرا والأقل ثقافة. بهذه الطريقة نجح التنظيم في تشجيع هؤلاء على إقناع نساء العائلة بتنفيذ هجمات انتحارية.
أبو اسامة يكشف أن عملية التجنيد كانت تتم ببث الأفكار المتشددة في عقول النساء المستهدفات، وحرمانهن من كل وسائل الاتصال التي قد تتيح لهن معرفة ما يجري خارج حدود القرية. في تلك الأثناء، يضيف أبو اسامة، “لم يكن مسموحا لمعظم سكان القرى بالاحتفاظ بتلفزيون أو انترنت باعتباره من المحرمات”. المرحلة الأخيرة من عملية التجنيد، كانت “تتطلب تكرار الآيات القرآنية والأحاديث التي تشجع على الجهاد، وترديد قصص الصحابيات المقاتلات، والنساء اللواتي رفعن رؤوس عائلاتهن حين نفذن عمليات انتحارية ضد الكفار” في مدن عديدة في العراق.
العراقي يشير الى ان عبور المرأة المتزنرة حزاما ناسفا بسهولة من نقاط التفتيش أغرى تنظيم القاعدة لتفريغ عدد من أمرائه لتولي مهمة التجنيد في بداية الأمر، قبل أن يوزع هذه المهام على نساء متخصصات بالتجنيد.
أبرز هؤلاء الأمراء كانوا من المقاتلين العرب الذين جلبهم النظام السابق إلى العراق عشية دخول القوات الأمريكية للبلاد عام 2003، ومنهم أبو ليلى السوري وأبو عبد الله السعودي وأبو معتز الليبي. اختفى هؤلاء بعد سقوط النظام السابق مباشرة، لكنهم عادوا مجددا إلى الواجهة بعد أن أعلن تنظيم القاعدة عن ولادة دولة العراق الإسلامية عام 2006.
كان ابو عبد الله السعودي، كما يقول مسؤول أمني بارز في ديالى “أكثر شخصية عرفت بتجنيد الانتحاريات. لكن من غير المعروف حتى الآن مصيره، ومن المرجح انه غادر العراق في وقت ما بين عامي 2008ـ 2009 حين بدأ تنظيم القاعدة بالانهيار جراء العمليات العسكرية ضده”. أما الآخرون، كما يقول المسؤول الأمني، “فقد قتلوا بعد أن نجحوا في تجنيد عشرات الانتحاريات”.
نشط المجندون العرب في بداية الأمر في مناطق المقدادية ودلي عباس وبعقوبة وبهرز وجلولاء وقرة تبة. غالبية الفتيات الصغيرات اللواتي كما يقول مدير شرطة ديالى السابق، خضعن لعملية التجنيد في هذه المناطق اجبرن على الزواج مبكرا من عناصر تنظيم القاعدة قبل أن يتحولن الى “انتحاريات” سواء بالإقناع أو التهديد بقتل الأب أو جميع أفراد العائلة.
لم يقتصر الامر على التجنيد المباشر للنساء، كان هناك أيضا طريقة تعتمد على تجنيد الفتيات المتخلفات عقليا كما حصل في التفجير المزدوج الذي وقع في سوق لبيع الطيور في منطقة بغداد الجديدة. إذ تبين أن الانتحاريتين كانتا “متخلفتين عقليا” تم تفخيخهما وتفجيرهما عن بعد.
العملية تبعتها تحقيقات قادت إلى اعتقال مدير مستشفى الرشاد للأمراض العقلية، بحسب الناطق باسم عمليات بغداد قاسم عطا، الذي قال حينها أن الاعتقال جرى وفقا لمعلومات عن تعاون مدير المستشفى مع تنظيم القاعدة. فيما بعد اتضح أن عددا من نزيلات المستشفى اختفين فعلا دون أن يبلغ عنهن احد.
مجندات الانتحاريات.. نساء نافذات
انتقلت راية التجنيد من “الأمراء العرب” إلى نساء عراقيات نافذات، وهن في الغالب كما يقول أبو اسامة العراقي كن نساء كبيرات أو متوسطات في العمر عرف عن بعضهن ارتباطهن بجرائم قتل أو اتجار بالنساء قبل أن يرتبطن بالجماعات المسلحة.
هذا التناقض في التوجهات تشرحه مسؤولة أمنية في محافظة ديالى تخصصت في متابعة ملف عنف النساء في المحافظة. فهي تقول إن “المال الذي كان يأتي من عمليات النخاسة (الدعارة) أو التجارة غير المشروعة، تحول إلى مال “إسلامي” يدفعه أمراء تنظيم القاعدة لتجنيد الانتحاريات داخل المناطق الفقيرة”.
يقول قائد عمليات ديالى أن موضوع تجنيد النساء في تلك المرحلة تحول الى ما يشبه “السمسرة”. كانت المرأة التي تقوم بالتجنيد، في الغالب، تتقاسم عوائد “السمسرة” مع عائلة الانتحارية.
لكن هذا لا يلغي، كما ترى المسؤولة الأمنية، حقيقة أن العديد من مجندات الانتحاريات كن فعلا مؤمنات بالعمليات المسلحة أو مدفوعات بالثأر لمقتل الابن أو الزوج.
المرأة الخمسينية التي عرفت في منطقة الكاطون (بعقوبة) باسم “أم الشهداء”، كفرت “الأشخاص الذين لا ينتمون إلى تنظيم القاعدة لمحاربة الكفار”، وتعهدت علنا أن ترتدي حزاما ناسفا وتفجر نفسها في إحدى التجمعات المدنية “الكافرة” بعد أن تتأكد تماما أن أبناءها الخمسة نفذوا كلهم عمليات انتحارية ضد “المشركين”.
لا أحد يعلم ان كانت هذه المرأة نفذت عمليتها الانتحارية فعلا أم تراجعت، لأنها اختفت منذ ذلك الوقت، كما يقول أهالي منطقة الكاطون الذين يتحدثون أيضا عن إمرأة اخرى من المنطقة، هجرت زوجها العراقي وتزوجت احد أمراء القاعدة الوافدين من سورية. ثم فجرت نفسها في سوق المدينة بعد أن نجحت في تجنيد العديد من الانتحاريات الصغيرات.
(أم المؤمنين)
لم تنجح كل محاولات كاتبة التحقيق في إيقاف أشهر مجندة انتحاريات في العراق عن البكاء، حين شرعت برواية قصتها “الجديدة” عن اتهامها بتجنيد 28 انتحارية نفذن عمليات انتحارية في أسواق شعبية ونقاط تفتيش وتجمعات مدنية.
(أم المؤمنين) التي تراجعت عن اعترافات متلفزة سابقة قالت إن تهمة “تجنيد الانتحاريات” كانت “كذبة” أطلقها أناس “حاقدون حاولوا ابتزازها لشراء منزل العائلة بثمن بخس”. لا تتذكر (أم المؤمنين) من هم هؤلاء الناس. رغم ذلك، فهي تتذكر أمام كاتبة هذا التحقيق كل أسماء الفتيات اللواتي قالت إنها جندتهن لتنفيذ عمليات انتحارية.
سر تذكر (أم المؤمنين) لهذه الأسماء كما تقول، أنهن ما زلن على قيد الحياة، وانهن سيحضرن الى المحكمة لتبرئتها من تهمة التجنيد التي اضطرت للاعتراف بها تحت وطأة التعذيب.
كانت أم المؤمنين ذات الـ50 عاما هادئة تماما وهي تسمي ثمانية “انتحاريات وهميات” طلبت حضورهن الى المحكمة. بدت أم المؤمنين واثقة من أن حضور “الانتحاريات الوهميات الثمانية” الى المحكمة سيحول محكوميتها من “المؤبد” الى “الافراج” حتما.
لا يشاطر مسؤول امني بارز في محافظة ديالى (أم المؤمنين) تفاؤلها، فالاسماء التي ذكرتها في جولات التحقيق الأولي كانت فعلا لنساء نفذن عمليات انتحارية. يفسر المسؤول الامني ثقة (أم المؤمنين) بالحصول على البراءة بأنها قد تكون تلاعبت بمضمون الاعترافات في كل جولة تحقيق. وهو ما تفعله اغلب المنتميات لتنظيم القاعدة اللواتي تدربن على هذا النوع من الاعترافات “المتناقضة” دون ان ينجحن في تضليل القضاء.
بنات العراق تعتقد مسؤولة في تنظيم “بنات العراق” الذي تأسس أواخر العام 2007 للحد من ظاهرة الانتحاريات، أن “مجندات الانتحاريات” استطعن التعويض عن غياب “المجندين العرب” منذ مطلع 2009. لكنهن لم يتمكن من الاستمرار في تحشيد المزيد من “الانتحاريات” بسبب انخفاض نسبة المشاحنات الطائفية في ذلك العام مقارنة بالأعوام 2006- 2008.
تقول المسؤولة التي رفضت الكشف عن هويتها لأسباب أمنية، إن الجيش الأمريكي شكّل حركة مضادة بدعم الجيش العراقي تحت عنوان “بنات العراق”. نجح هذا التنظيم في معادلة الكفة مع “مجندات الانتحاريات”. ففي حين كانت “المجندات” يخترقن المنازل بشتى الوسائل لاقناع الفتيات اللواتي قتل أقاربهن بتنفيذ عمليات انتحارية. تؤدي “بنات العراق” عملا مضادا يتلخص بتشخيص حالات التجنيد والمساهمة في إفشال العمليات الانتحارية قبل وقوعها.
وتشير المسؤولة في هذا السياق الى ان تنظيمها “بنات العراق” تمكن من تشخيص عدد من الشبكات الانتحارية، وأعربت عن التفاؤل بأن انتهاء سنوات العنف الطائفي ساهم في تجريد “مجندات الانتحاريات” من وسائل إقناع الفتيات بالانخراط مجددا في ظاهرة الانتحاريات.
يؤيد الباحث العبيدي الفكرة التي طرحتها المسؤولة في بنات العراق، فهو الأخر يرى أن انتهاء الصراع الطائفي قطع الطريق امام تنظيم القاعدة وقلص من قدراته على استخدام الملف الطائفي للاستمرار في عملية تجنيد الانتحاريات.
لكن الباحث العبيدي يحذر ايضا من أن النساء اللواتي تركهن رجال القاعدة خلف ظهورهم، قد يتحولن الى “قنابل موقوتة” اذا لم تبادر الدولة الي تطبيق برامج تأهيل حقيقية وفاعلة. ويدعو العبيدي في هذا السياق الى استخدام البعد الديني المعتدل والتقاليد العشائرية السائدة في اغلب مدن العراق، لتحصين النساء من الافكار التي قد تقودهن الى الانخراط مجددا في حال عاد شبح الصراع الطائفي الى العراق.
العبيدي يشير في هذا السياق الى ما قامت به بعض عشائر العراق حين وفرت ملاذا للانتحاريات “التائبات” والعمل على دمجهن مجددا بالمجتمع، دون تبليغ السلطات عنهن خوفا على سمعة تلك العشائر.
ضابط رفيع في مديرية التحقيقات بمحافظة صلاح الدين، يصف عملية احتواء عدد من الانتحاريات التائبات “كتيبة الخنساء الانتحارية”، بأنها كانت الأكثر نجاحا لمواجهة ظاهرة الانتحاريات. التقاليد العشائرية المحافظة وجهود رجال الدين المعتدلين في المحافظة نجحت في اقناع الانتحاريات ب”التوبة”. واقتصرت ظاهرة الانتحاريات في صلاح الدين على العملية اليتيمة التي نفذتها الانتحارية سهيلة في تشرين الاول (اكتوبر) عام 2008.
في 17 تشرين الثاني نوفمبر عام 2008، أعلن الجيش الامريكي أن 18 انتحارية ينتمين لتنظيم القاعدة سلمن أنفسهن الى السلطات بعد ان نجح رجال دين محليين وأقرباء للنساء، بإقناعهن بالتخلي عن فكرة التفجيرات الانتحارية.
لم يكشف البيان حينها المدينة التي جرت فيها عملية التسليم. لكنها قال ان تعهدا تم توقيعه للمصالحة مع عشائرهن.
لكن قائدا أمنيا بارزا في محافظة ديالى يعتقد أن ظاهرة الانتحاريات ربما تكون قد انحسرت خلال العامين الماضيين، لكن من المؤكد أنها ستعود حالما تسوء العلاقة بين مكونات المجمتع العراقي بسبب الصراعات السياسية القائمة الان.
يقول القائد الأمني إن المعلومات الاستخبارية تشير الى بقاء عشرات الانتحاريات خارج دائرة الضوء او لم تسنح لهن فرصة لتنفيذ عمليات في الفترة السابقة. ربما تكون هذه النسوة “خلايا نائمة” قد تستيقظ مجددا لو لم تعمل الحكومة على تحسين الواقع الاقتصادي والتعليمي للبلاد بأسرع وقت ممكن.
باحثة في سجن النساء قالت أن “مشاريع الانتحاريات” لهن جانب إنساني ضاع وسط الفوضى ولم يعد يتذكره أحد، فكل انتحارية “كانت زوجة أو أم أو حبيبة قادها الصراع الطائفي والجوع والفقر والجهل الى ما وراء القضبان”. تورد الباحثة الاجتماعية الأحلام الوردية التي سمعتها تتردد بين الانتحاريات على الدوام، وهي في مجملها تتعلق بآمال الخروج من السجن والعودة الى الحياة من اجل الارتباط بحبيب والاستقرار في بيوت بسيطة مليئة بالأطفال.
رانية العنبكي نفسها روت حلما ورديا مشابها، فهي تعتقد أن المحكمة ستلغي حكم المؤبد الذي صدر بحقها وتطلق سراحها لتلتقي مجددا بزوجها محمد الذي يقضي هو الآخر حكما بالسجن 20 عاما، بعد ان يثبت للمحكمة انه بريء.
وسواء تحقق حلم رانية العنبكي ام لا، تشير الاحصائيات الى انخفاض كبير في عدد العمليات الانتحارية التي تنفذها نساء، وهو ما يعزوه الباحث العبيدي الى التحسن العام في الملف الأمني، والانتعاش النسبي في سوق العمل في اغلب المناطق التي شهدت اتساع ظاهرة الانتحاريات.
آخر الارقام تشير الى أن عدد التفجيرات التي تنفذها النساء تراجعت من 60 عملية انتحارية عام 2008، الى خمس عمليات في العام 2010، أغلبها لا يمكن الجزم انها من تنفيذ انتحاريات.
حتى نهاية النصف الأول من عام 2011، لم توثق سجلات القوات الأمنية أي حالة مؤكدة لعملية نفذتها “انتحارية”.
قصص ملحقة بالمت
1- حياة وداد “العقائدية”
تلخص قصة الانتحارية وداد ذات الـ17 ربيعا، وهي قريبة الانتحارية رانية العنبكي وشريكتها في الزنزانة، رباعية (الانتقام/ العقيدة/ الجهل/ الفقر) بشكل مثالي.
فوداد التي زوجّها أهلها حين كانت في الـ 13 من عمرها، لـ”أمير” من تنظيم القاعدة يحمل الجنسية السعودية وتخرج من إحدى الجامعات الدينية هناك، تنحدر من عائلة متشددة انتمت مبكرا لتنظيم القاعدة. واعتنقت وداد العقائد التكفيرية بتأثير من زوجها وأخوتها الذين نفذ ثلاثة منهم عمليات انتحارية طالت مراكز أمنية وتجمعات مدنية، تسببت بمقتل وجرح العشرات من “الكفار”.
والدة وداد (ن. ك) تولت لفترة ليست بالقصيرة مهمة تجنيد الانتحاريات في مناطق ديالى، قبل ان تصدر بحقها أوامر القاء قبض وتهرب الى جهة مجهولة، بحسب سجلات دوائر الاستخبارات في محافظة ديالى.
سجلات المحققين تكشف وجها آخر لقصة وداد. فهي أم لطفلتين هما (ن) و (ف)، تعيشان معها الآن في السجن.
واعترفت وداد خلال جلسات التحقيق الاولى كما يقول كما يقول مدير سجن النساء، بأنها وافقت على الزواج بالأمير السعودي مقابل مهر قوامه “مباركة الزوج لتنفيذ عملية انتحارية”، وبأن العملية الموعودة ألغيت من قبل الزوج بسبب حملها المبكر، بطفلتها الأولى، وحملها بالثانية التي ولدت فيما بعد داخل السجن.
العقيدة المتشددة التي تحملها وداد، ورغبتها بالانتقام لدماء إخوتها “الانتحاريين”، تشرد والدتها “مجندة الانتحاريات” واعتقال وتسفير زوجها، كلها عوامل تفاعلت مع جهلها (لم تكمل الدراسة الابتدائية)، وفقرها، والتقاليد الاجتماعية المتشددة التي دفعتها في النهاية الى الانخراط بالعمل “الانتحاري”.
2- عملية صلاح الدين “اليتيمة”
يصف الجندي محمود فارس، وهو أحد الناجين من تفجير نفذته الانتحارية سهيلة ذات الـ21 عاما في محافظة صلاح الدين، لحظات الرعب التي عاشها هو ورفاقه صبيحة الـ 18 من تشرين الاول اكتوبر عام 2008.
يتذكر فارس كيف اقتربت من نقطة التفتيش التي كان يرابط فيها، إمراة منقبة طويلة القامة وهي تحمل بين يديها كيسا بلاستيكيا. المرأة التي كانت تسير بتثاقل كانت تسأل الجنود عن الطريق المؤدي الى مستشفى المدينة، لكنها لم توقف خطواتها باتجاه النقطة رغم تكرار الجنود ان المستشفى تقع في الاتجاه المعاكس.
لحظتئذ، يقول فارس “لمحت أحد الاسلاك وهو يتدلى من جانب النقاب عند منطقة الرقبة، فايقنت ان المراة مفخخة وصرخت عاليا (انتحارية)، وانسحبت مع رفاقي بسرعة الى ما وراء الحواجز الكونكريتية وبدأنا باطلاق النار باتجاهها، فسقطت على الارض ثم انفجرت على الفور.
التحقيقات كشفت فيما بعد ان الانتحارية (سهيلة) كانت تنحدر من اسرة انتمى اغلب افرادها لتنظيم القاعدة في وقت مبكر. المصدر المسؤول في قيادة عمليات صلاح الدين الذي ابلغنا بهذه المعلومات قال إن العوز وظروف العزلة التي عانتها الانتحارية، ربما هي التي دفعتها لتنفيذ العملية. فبعد ان اعتقل اخوتها وقتل زوجها واحد اخوتها على يد جماعات مسلحة مناوئة للقاعدة، اضطرت سهيلة الى العمل على صناعة “تنانير الطين” لاعالة اطفالها الخمسة وابناء اخوتها الذين قتلوا او سجنوا او التحقوا بالقتال مع القاعدة.
والد الانتحارية سهيلة يتذكر ان ابنته عانت كثيرا بسبب ابتعاد الناس عن شراء “تنانير الطين” منها لارتباط العائلة بتنظيم القاعدة. “كنا نعيش بحالة من الفقر المدقع طوال الاشهر التي سبقت تنفيذ العملية، لم يكن لدينا أي فلس لنعيش به” يضيف والد سهيلة الذي يصف أهل مدينته بـ”القساة” لأنهم سدوا امامها منافذ الحياة واجبروها على تنفيذ العملية الانتحارية.
أبو مصعب الزرقاوي
اسمه الحقيقي هو أحمد فضيل نزال الخلايلة (1966- 2006) ولد في مدينة الزرقاء الأردنية (25 كيلو مترا شمال شرقي عمان). سافر إلى أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي لمقاتلة قوات الاتحاد السوفيتي هناك. قضّى في السجن سبع سنوات حين عاد الى الأردن ثم خرج بعفو ملكي عام سنة 1999. سافر إلى أفغانستان مجددا ومنها انتقل إلى العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003.
أسس الزرقاوي في العراق تنظيم “التوحيد والجهاد”، ونصبه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن زعيما لتنظيم القاعدة في العراق. وأعلن الزرقاوي وتنظيمه مسؤوليته عن غالبية التفجيرات الانتحارية التي شهدها العراق بعد عام 2003، وبث التنظيم مقاطع فيديو للعديد من عمليات ذبح الرهائن التي نفذها. خطط لأعنف تفجير شهدته بلاده، حين أوفد ثلاثة عراقيين وعراقية واحدة لتنفيذ تفجير ثلاثي أودى بحياة 60 شخصا في ثلاثة فنادق عمانية خريف 2005.
قتل الزرقاوي في حزيران يونيو 2006 في غارة جوية أمريكية استهدفت مقره في قرية (عرب شوكة) الواقعة بالقرب من ناحية هبهب (18 كم) شمال غرب بعقوبة مركز محافظة ديالى، وهي المعقل الرئيسي لتنظيم القاعدة في العراق.
تفجيرات سامراء
كانت عملية تفجير المراقد المقدسة في مدينة سامراء (125 كم شمالي العاصمة بغداد)، والتي نفذها تنظيم القاعدة في 22 شباط فبراير 2006، بداية لـ”فتنة طائفية” شملت معظم مناطق العراق وراح ضحيتها عشرات الآلاف من العراقيين السنة والشيعة. تخلّلتها عمليات تهجير طائفية واسعة لم تتمكن الحكومة العراقية من السيطرة عليها حتى نهاية العام 2008.
سميت الفترة بين عامي 2006- 2008 بـ”الحرب الطائفية” و “الحرب الأهلية” و “العنف الطائفي”، لكن العراقيين ما زالوا يلخصونها بعبارة “أيام الطائفية”.

موريل ديجوك Muriel Degauque
انتحارية بلجيكية (1967 – 2005) تحولت من الكاثوليكية الى الاسلام في الثلاثينيات من عمرها، وارتدت النقاب بعد زواجها من عصام غوريس، والده بلجيكي وامه ومغربية، وكان معروفاً للشرطة البلجيكية بلحيته الطويلة بصفته أصولي إسلامي متشدد.
عبرت ديغوك وزوجها الحدود العراقية السورية، ونفذت عملية انتحارية استهدفت القوات الامريكية في 9 تشرين الاول نوفمبر 2005، والتي اسفرت عن مصرعها واصابة جندي امريكي.
ساجدة الريشاوي
انتحارية عراقية شاركت في تنفيذ التفجيرات الثلاثة التي استهدفت ثلاثة فنادق كبرى في العاصمة الاردنية عمان، واسفرت عن مقتل 60 شخصا.
نجت الريشاوي من الموت بعد ان فشلت في تفجير حزامها الناسف داخل احد الفنادق المستهدفة، فيما قتل زوجها الذي فجر حزاما ناسفا كان يرتديه في العملية. تلقت الريشاوي حكما بالاعدام في شباط فبراير 2007 ولم يتم تنفيذ الحكم حتى اليوم.
ديالى، ملاذ القاعدة الآمن
وقع اختيار تنظيم القاعدة على محافظة ديالى التي تمتد من الحدود الشريط الحدودي المحاذي لايران شرقا حتى تخوم العاصمة بغداد غربا،
لتكون ملاذه الآمن بعد انسحابه من محافظة الأنبار نتيجة للضربات العشائرية والعسكرية التي تلقاها التنظيم هناك. نزعة العنف والعقائد المتشددة والفقر والجهل، كلها كانت حاضرة في المشهد حين وصلت مجاميع القاعدة الى ديالى بشكل مكثف عام 2006، كما يقول الفريق الركن عبد الكريم الربيعي الذي تولى منصب قائد عمليات ديالى في ذروة العنف الطائفي.
بنات العراق
تنظيم نسائي تأسس نهاية العام 2007 بدعم وتمويل من الجيش الأمريكي. تمكن التنظيم من احباط العديد من الهجمات التي حاولت تنفيذها “انتحاريات. ولا تكشف بنات العراق هوياتهن في الغالب، رغم انهن ينتشرن في نقاط التفتيش وهن يرتدين النقاب اثناء اداء عملهن بتفتيش النساء بدلا من الرجال الذين لا يستطيعون تفتيش اجساد النساء بسبب الاعراف العشائرية.
مجالس الصحوة
تأسست مجالس الصحوة لأول مرة في محافظة الانبار غربي العراق عام 2006 لمواجهة سيطرة القاعدة على مناطق متعددة من المحافظة، ثم انتقلت التجربة إلى محافظات أخرى مثل صلاح الدين وديالى ونينوى وبعض مناطق العاصمة بغداد. قاتلت قوات الصحوة التي يقودها في الغالب شيوخ العشائر الى جانب القوات العراقية، وتمكنا معا من طرد عناصرالقاعدة من مناطق الانبار أولا ثم من معظم مدن العراق.

أشرف على انجاز التحقيق، المشرف العام على شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) محمد الربيعي، بالتعاون مع شبكة اعلاميون من اجل صحافة استقصائية عربية (أريج).

المزيد عن تحقيقات استقصائية

Investigations

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17363}" data-page="1" data-max-pages="1">