حصل هذا التحقيق الذي انجزته شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)، من قبل الصحفيين الكرديين سامان نوح وموفق محمد وتحت اشراف محمد الربيعي، على الجائزة الثانية كأفضل تحقيق استقصائية في العالم العربي لعام 2011، في مسابقة الربيع العربي التي اقيمت على هامش مؤتمر شبكة اعلاميون من اجل صحافة استقصائية عربي (اريج) اواخر العام 2011.
تحقيق: سامان نوح، موفق محمد
وسط رائحة “الشواء البشري” التي تكاد تطغى على المكان وتتسلل، ببطء، الى باقي ردهات المستشفى، كانت الفتاة الكردية نادين التي حاولت الانتحار حرقا قبل ساعات فقط، تردد بما يشبه الهستيريا “لن اغفر له أبدا”.
نادين التي انصهرت ملامح وجهها وغابت وسط اللفافات الطبية البيضاء، كانت تتحدث عن زوجها (س. ع) الذي اتهمته بدفعها لمحاولة الانتحار حرقا، سعيا للخلاص من حياة زوجية مليئة بـ “الذل والفقر والحرمان والاضطهاد”، امتدت نحو 17 عاما.
اتهامات نادين التي أسرت بها لكاتبي التحقيق، استبدلت في محاضر التحقيق بعبارة “حادث عرضي”.
لم يكن ضابط التحقيق الذي خرج قبل وصولنا بدقائق هو الذي غير أقوال نادين، فهي بنفسها أبلغته أن نيران المدفأة النفطية تسللت الى ثيابها ولم تتمكن من اطفائها قبل ان تلتهم 90 % من جسدها.
نادين فعلت ذلك كما تقول، حرصا على تجنيب عائلتها وعائلة زوجها “نزاعات عائلية” لا جدوى منها. وأيضا، وهذا ما يعنيها بالدرجة الأساس، كي لا يضطر أطفالها الخمسة مستقبلا الى مواجهة علامات استفهام كثيرة عن سر انتحار والدتهم.
تتذكر نادين أنها لم تكن تستطيع السيطرة على ارتجافة يدها، كلما همت بسكب النفط الأبيض على جسدها لإحراقه بعود الثقاب المشتعل في أصابع اليد الأخرى. تراجعت نادين ثلاث مرات عن إشعال جسدها بالنار خلال “ساعات المحنة” التي امتدت من الـ12 ليلا حتى الـ5صباحا، وكانت تتخيل في كل مرة كيف ستنهش النار جسدها قطعة قطعة ولا تتركها إلا جثة متفحمة.
تمكنت نادين في محاولتها الرابعة من إشعال جسدها بالنار، فعلت ذلك حين قارنت معاناتها في “حياة البؤس” التي تعيشها، بأوجاع الحروق التي كانت ستزول بمجرد أن يتوقف قلبها عن النبض.
لم تمت نادين من فورها كما كانت تتوقع، بل رحلت بصمت، بعد ساعات من اللقاء الذي أجراه معها كاتبا التحقيق. فيما سيكون مقدرا على الفتاة الثلاثينية جيهان التي قابلناها في الغرفة المجاورة لغرفة نادين، أن تعيش ما تبقى من حياتها بوجه وجسد مشوهين.
جيهان التي نجت من الموت بأعجوبة لأن النار التهمت 45% من جسدها فقط، أبلغت ضابط التحقيق أن احتراقها لم يكن انتحارا بل كان حادثا عرضيا “ليس إلا”، ورغم أنها تستغرب كيف أن الضابط كان يقود التحقيق باتجاه تسجيل الحادث على أنه “حادث عرضي”، لكنها تعترف في ذات الوقت بأنها كانت بحاجة فعلا الى أن يتواطأ معها الضابط ويوافق على توثيق روايتها “المليئة بالأكاذيب المتناقضة”.
اخفت جيهان عن ضابط التحقيق، وعن كاتبي التحقيق ايضا، حقيقية الأسباب التي دفعتها للانتحار حرقا، لكنها لم تنكر أنها كانت ستكشف الحقيقة كاملة لو لم يؤكد لها الأطباء بأنها ستنجو من الموت بسبب اقتصار الحروق على الأجزاء الخارجية من جسدها فقط.
تعترف جيهان مجددا أن الخوف من التعرض للأذى وربما القتل على أيدي أفراد العائلة سيكون خيارا سيئا لكل فتاة تنجو من الانتحار حرقا وتتركها الدولة تواجه مصيرها منفردة.
يروي الباحث عبد الجبار زيباري. كيف أن ثلاثا من الفتيات اللواتي نجون من محاولات الاحتراق حرقا، قتلن فيما بعد في ظروف غامضة. أحداهن، وهي كوران ذات الـ17 ربيعا، سقطت قبل نحو أربعة أعوام من سطح المنزل “بشكل عرضي” وهي تحمل في جسدها بضعة طعنات بآلة حادة.
كوران وجيهان ونادين، وثماني منتحرات أخريات التقاهن كاتبا التحقيق وتوفي أربع منهن بعد ساعات من إجراء اللقاءات، تشبه قصصهن الى حد بعيد قصص 14 الف فتاة يعتقد أنهن أحرقن انفسهن (أو تم احراقهن) خلال الأعوام 1991- 2010 في كردستان العراق.
هؤلاء النسوة كن ضحايا ظاهرة الانتحار حرقا التي يقول خبراء اجتماع، ناشطون مدنيون، جهات رسمية معلنة أو فضلت عدم الكشف عن هوياتها، إن معدلاتها ما زالت ترتفع بشكل كبير بسبب عجز المؤسسات الحكومية والدينية والعشائرية والمدنية عن إيقافها، لتصبح هذه الظاهرة التي عرفت بـ”محرقة النساء” واحدة من أبرز المظاهر المأساوية التي ارتبطت بنساء منطقة كردستان العراق خلال الـ20 سنة الأخيرة.
النيران تلتهم فتاة كردية كل 20 ساعة
يحيل الباحث ئاوات محمد، اختيار نساء كردستان العراق للانتحار حرقا كوسيلة للخلاص من الحياة، الى تأثير الديانة الزرادشتية التي كانت سائدة في المنطقة قبل ظهور الإسلام، فالنار في هذه الديانة تطهر الإنسان من كل الذنوب التي اقترفها طوال حياته. بالمقابل، هناك باحثون يعتقدون أن شيوع ظاهرة الانتحار حرقا بين نساء كردستان سببه في الغالب، قرب مصادر النيران من يد المرأة أكثر من باقي وسائل الانتحار التي قد تتطلب تحضيرات، مثل الموت شنقا او الانتحار برصاصة بندقية.
وسواء ارتبط الانتحار حرقا بطقوس دينية قديمة أم بسهولة الوصول الى مصادر النيران،فإن الأرقام التي جمعها كاتبا التحقيق وفقا لإحصائيات رسمية وغير رسمية، تشير الى أن ظاهرة الانتحار حرقا في كردستان العراق تتصاعد عاما بعد عام رغم كل التحذيرات الدولية والمحلية التي أطلقت للحد من هذه الظاهرة.
تشير الارقام التي تبنتها المؤسسات الرسمية في كردستان الى ان العام 1991 شهد قرابة الـ39 حالة انتحار حرقا سجلتها دوائر الشرطة في المدن الكردية الرئيسية، فيما سجلت نفس هذه الدوائر 441 حالة انتحار حرقا عام 2010، أي بمعدل فتاة منتحرة كل 20 ساعة.
لكن ما بين عامي 1991 و2010، سجلت مؤسسات رسمية في الاقليم ارقاما اخرى تكشف جزءا من الحجم الحقيقي للظاهرة، ففي العام 1996 كان هناك 831 حالة انتحار حرقا في مدن كردستان، تقابلها 1590 حالة حرق في مدينة السليمانية لوحدها عامي 2005 و2006، بواقع 778 و812 حالة انتحار حرقا على التوالي، بحسب مستشفى الطواريء في المدينة.
غابت عن الاحصائيات الرسمية الكردستانية، حالات الانتحار حرقا التي شهدتها مدن كردية أخرى لا تخضع اداريا لاقليم كردستان مثل قضاء سنجار الذي يسجل سنويا أعلى معدلات الانتحار في مدن العراق.
حتى منتصف هذا العام (2011)، وصلت نسبة المنتحرات حرقا الى رقم يزيد قليلا عن نسبة المنتحرات في العام الماضي. كما تقول مسؤولة في مديرية مكافحة العنف ضد المرأة رفضت الكشف عن الرقم الحقيقي بسبب اعتقادها أن نشر الأرقام سيوقع الجهات المعنية في “أزمة جديدة” مع الاعلام ومنظمات المجتمع المدني.
الإحصائيات المثبتة في هذا التحقيق، لا تبين عدد النساء اللواتي قتلن على أيدي أفراد من العائلة أو أجبرن على حرق أنفسهن على خلفية قضايا الشرف. ولا تشمل هذه الاحصائيات ايضا، المنتحرات اللواتي تم دفنهن في المقابر الصغيرة على سفوح الجبال المحيطة بقرى كردستان دون إبلاغ السلطات المعنية.
غياب الاحصائيات الرسمية الموثقة، وتخبط المنظمات المدنية في تحديد عدد المنتحرات، وتجنب اغلب مراكز البحوث المتخصصة في كردستان العراق متابعة هذا الملف بموضوعية، أضاع على المعنيين بملف الانتحار حرقا قاعدة معلوماتية مهمة كان يمكن من خلالها تشخيص الظاهرة وتحديد طرق الحد منها، كما يقول الباحث زيباري.
حوادث “عرضية”
يعتقد الباحث عز الدين حافظ أن “غياب الحقائق” عن سجلات الشرطة واقتصار أغلب ملفات الانتحار حرقا على عبارة “حادث عرضي”، يجعل من المستحيل على أي باحث أن يفهم ما الذي يجري بالضبط في كردستان العراق. فالكثير من “الحوادث العرضية” لم تكن مقنعة حتى بالنسبة لبعض ضباط التحقيق الذين تحدث معهم الباحث حافظ في وقت سابق وأبلغوه بأنهم كانوا يسجلون إفادات المنتحرات بغض النظر عما إذا كانت التفاصيل منطقية أم لا، فالنتيجة التي كان يتوقعها هؤلاء من الغوص في العمق في مثل هذه القضايا، هو الدخول في مشاكل عشائرية هم في غنى عنها.
الشيء نفسه، أشار اليه ضابط تحقيق اكتشف من خلال عشرات الحالات التي وثقها،أن النساء المحترقات يعمدن في الغالب الى كتم الحقيقة لتجنيب عوائلهن المشاكل مع عائلة الزوج. حاول الضابط في كثير من المرات الضغط على المنتحرة لانتزاع قصة حقيقية تبين سبب إقدامها على الانتحار، لكن جهوده كانت بلا جدوى.
سوران التي وافق أحد ضباط التحقيق على تسجيل روايتها غير المقنعة حول الكيفية التي تعرضت فيها للاحتراق، خمنت أن ضباط التحقيق يريدون أن يسجلوا إفادات لا تعرض أي شخص للمساءلة، لذلك لا يلحون في طرح الأسئلة ولا يشككون بأي معلومة تذكرها المنتحرة.
تقول سوران ان هذا ما حدث معها، تماما مثلما حدث مع بقية المنتحرات التي قابلتهن طيلة فترة بقاءها في المستشفى.
الفتاة بروين هي الأخرى قالت إنها غيرت أقوالها أمام المحققين، وإنهم تقبلوا منها رواية “مفبركة” عن تعرضها للاحتراق أثناء “الطهي” من دون أن يطرحوا المزيد من الأسئلة. خرجت بروين فيما بعد من المستشفى بجسد مشوه، لكنها أسرت كاتبي التحقيق “لو شعرت أنني لن أنجو من الموت وأعود الى ذات المنزل، كنت سأقول الحقيقة كاملة”.
خلل في عمل السلطات، أم “تواطؤ” مع الأعراف
تغيير أقوال المنتحرات أمام المحققين كان السمة التي ميزت معظم القصص التي تابعها كاتبا التحقيق، وهو ما يحيله الباحث عز الدين حافظ الى الخوف من ردة فعل العائلة التي قد تؤدي الى تعقيد وضع المنتحرة الناجية، لينتهي الأمر ربما بـ”نتائج أسوأ من الموت”.
بخلاف الباحث حافظ، لا تثق الباحثة الاجتماعية سوسن قادر كثيرا بفكرة أن غياب الحقائق عن سجلات المحققين في قضايا الانتحار حرقا، سببه الوحيد هو حرص المنتحرة وعائلتها على كتمان المشاكل العائلية التي أدت الى محاولة الانتحار، فهي تعتقد أن هناك أكثر من علامة استفهام تلف طريقة تعامل السلطات التنفيذية والقضائية مع ملف المنتحرات حرقا.
الباحثة قادر تخمن أن هناك تغاضيا عما يحدث. لكن الضابط المتخصص بالتعامل مع مشاكل النساء في مديرية العنف ضد المرأة شيلموا عبد القادر، ينفي “بشكل قاطع” إمكانية حصول أي تهاون في قضايا الانتحار حرقا، فالمديرية “تحرص على تطبيق التعليمات” وتصر على معرفة الحقائق التي باتت تتكشف الان أكثر مما كان سائدا في السنوات الماضية حين كانت المرأة تقتل وترمى في النهر او تحرق جثتها ثم يقيد الحادث ضد مجهول.
يرفض عبد القادر إعطاء كاتبي التحقيق أي تفاصيل عن الحقائق التي كشفتها المديرية باعتبارها تحقيقات خاصة بها، لكنه يقر بأن أكثر من 80% من المنتحرات يتجنبن قول الحقيقة خوفا من الفضيحة أو من تعرض عوائلهن للمساءلة القانونية.
يبرر عبد القادر موافقة المحققين أحيانا على تمرير إفادات “غير معقولة” لبعض المنتحرات، بأن المديرية ليس في وسعها دائما “إجبارهن على قول الحقيقة”.
يعتبر الباحث حافظ هنا، أن البيئة المحافظة التي ينحدر منها أغلب المحققين يجعلهم يفكرون الف مرة قبل تسجيل أي معلومات تضر بسمعة العائلة داخل الوسط الكردستاني المحافظ. ويقدم قصة الفتاة دلفين باعتبارها نموذجا لتواطؤ المحققين مع ما تقره الأعراف السائدة حتى لو كان “على حساب الحق والعدل”. فدلفين التي غيرت أقوالها حين استجوبتها السلطات المختصة، تعرضت بحسب الأوراق الرسمية الى “حادثة احتراق بالمدفأة النفطية”، أما أصل الحكاية فهي أنها أحرقت نفسها بعد ان حاول شقيق زوجها الاعتداء عليها أثناء غياب زوجها.
كتمان دلفين لـ”فضيحة أخو الزوج” لم يعفها من عقوبة زوجها الذي طلقها على الفور وأعادها الى أهلها، كامرأة مطلقة كل ما بقي لها “جسد مشوه” والكثير من علامات الاستفهام التي تحيط بحياتها.
الأسرة .. بيت الداء
يعتقد الخبراء والباحثون الذين وثقوا حالات الانتحار حرقا في كردستان العراق، أن العنف الأسري بكل إشكاله، والتمايز الطبقي، وتساهل السلطات مع الممارسات العشائرية القاسية تجاه المرأة مثل ظاهرة غسل العار وغيرها، وعدم كفاية القوانين التي تعالج قضايا العنف ضد المرأة، فضلا عن اتساع ظاهرة الزواج المبكر، وتخلي الكثير من رجال الدين والمؤسسات الثقافية والمدنية في التثقيف المضاد لظاهرة الانتحار حرقا، هي الأسباب الرئيسية لتزايد اعداد المنتحرات في منطقة كردستان العراق رغم كل ما شهدته المنطقة من مظاهر التطور ثقافي والاجتماعي وعمراني خلال الأعوام الماضية.
اللافت في الأمر، أن كل هؤلاء اختلفوا في مقدار تأثير كل عامل من هذه العوامل على صعيد استمرار واتساع الظاهرة، لكنهم اجمعوا على أن الحياة الأسرية هي البوابة الاولى التي تنطلق منها الرغبة، وأحيانا الحاجة، الى الانتحار حرقا.
تعتقد البرلمانية السابقة والناشطة في شؤون المرأة بخشان زنكنة، أن العنف الأسري هو السبب الرئيسي لشيوع ظاهرة الانتحار حرقا، فالمرأة التي تتعرض للعنف لمجرد أنها “أنثى” تعاني في الغالب من “ذات مهشمة”، لا تساعدها على الصمود في وجه الضغوط العائلية.
تستشهد زنكنة هنا بتقديرات منظمات النسائية تشير الى أن 82% من المنتحرات حرقا خضعن لضغوط عائلية دفعتهن الى الانتحار، فيما تقدم الناشطة المدنية جيمن محمد صالح التي تتابع منذ سنوات قضايا العنف ضد المرأة في كردستان، أطروحة مطابقة لما تذهب اليه زنكنة، فظاهرة الانتحار حرقا كما ترى صالح سببها الرئيسي هو “العنف والاضطهاد الاجتماعي والإحساس بالظلم والوحدة”.
اغلب النساء اللواتي التقتهن صالح اشتكين من الضغوطات المجتمعية التي يتعرضن لها مثل الضرب العنيف أو الإذلال.
الابنة الكبري للمنتحرة نادين، نياز ذات الـ15 عاما، تصف المعاناة التي قاستها والدتها على يد والدها (س. ع) بالمأساوية، فقد كان يبالغ في أهانتها والتقليل من شأنها حتى أمام الآخرين، وغالبا ما كان يفضل أسلوب الضرب لإنهاء أي مشكلة عائلية، وهذا كله، كما تعتقد نياز، تسبب في النهاية بدفعها لحرق نفسها خلاصا من تلك الحياة القاسية.
الزواج المبكر
تعتقد الباحثة سوسن قادر، أن الزواج المبكر وما يتبعه من تداعيات، هو من أبرز المشاكل التي تفضي الى الانتحار حرقا، وتشير قادر في هذا الصدد الى تقارير محلية بينت أن أكثر من 70% من حالات الانتحار ترتبط بالزواج بالإكراه او عدم التفاهم مع الزوج.
الزواج مبكرا كما تقول قادر، يعرض المرأة لمواجهة ضغوطات الحياة القاسية في سن مبكرة، وفي حال عجزت الزوجة الصغيرة عن تحمل ضغوط أم الزوج او أخواته او باقي أفراد العائلة، فقد تلجأ الى الانتحار حرقا كحل أخير.
أحرقت شيرين ذات الـ18 عاما نفسها بعد أن عجزت عن إيجاد طريقة للتفاهم مع زوجها الذي تزوجته بالاكراه، تقول شيرين أنها كانت تعيش معه قبل ان تحاول الانتحار حرقا “جحيما لا يطاق”. لكن يبدو ان قدرها هو ان تعود الى هذا الجحيم مجددا بجسد مشوه، ونقمة من الزوج والأهل، ونظرة ازدراء من مجتمع لا يرحم.
حب.. وخيانة
تحاشت عائلة نازلين التي لم تكمل عامها الـ17 بعد، طوال يومين كاملين، الحديث عن أية تفاصيل حول “حادثة” احتراق ابنتهم التي كانت تتلوى ألما على سرير موتها المرتقب. واكتفت والدتها التي منعت كاتبي التحقيق من الاقتراب من سرير نازلين بشكل قطعي، بالقول إن الحادثة كانت “قضاء وقدرا”، وإن كل ما في الأمر أن نازلين لم تحسن التعامل مع تنور الخبز فاحترقت بالنار.
ضابط التحقيق اكتفى بتسجيل رواية والدة نازلين وغادر المستشفى. دون ان تتمكن صديقتها “روناهي” من البوح بالسبب الحقيقي لانتحارها حرقا، فقد كانت نازلين “ناقمة على العائلة لأنها لم توافق على زواجها بحبيبها الذي تقدم لخطبتها”.
قصة اخرى ترويها لنا ابنة عم الفتاة المنتحرة سوز، فرغم مرور 11 عاما على انتحارها، ما زالت قصة سوز مطبوعة في ذاكرة كل من أحاط بها. سوز احرقت نفسها بالقرب من بيت حبيبها بعد ان تخلى عنها وتزوج بفتاة اخرى.
نفس النتيجة تقريبا كانت حصيلة قصص أخرى تابعتها الباحثة الاجتماعية شيلان دوسكي، فقصة العشق البريئة بين نرمين وحبيبها تسببت بغضب الاهل وقادتهم الى تزويجها قسرا من أحد رجال العشيرة.
قبل حفل الزفاف بيوم واحد أحرقت نرمين نفسها للخلاص من الزواج القسري، لكن أهل العريس طالبوا برد “الاعتبار” ومراعاة المبالغ التي صرفوها في تجهيز مستلزمات الزفاف. القضية انتهت بتسوية عائلية دفعت أخت نرمين ثمنها حين اضطرت للموافقة على الزواج بالقريب الذي لم يكن يفرق عنده كثيرا ان كانت العروس نرمين او أختها.
كازين ذات الـ30 عاما، كانت ضحية أخرى لظاهرة الانتحار حرقا، ولكن هذه المرة بطريقة مغايرة تماما، فكازين التي تزوجت عن طريق (المبادلة) تحولت حياتها الى جحيم بعد ان أقدمت زوجة أخيها (بديلتها) على الانتحار حرقاً.
حتى الان تتعرض كازين، كما تقول دوسكي، لأشكال متعددة من الإذلال والاهانات من قبل زوجها وعائلته وصلت في إحدى المرات الى تعرضها لكسور نتيجة الضرب العنيف من قبل الزوج.
تشير الباحثة دوسكي الى أن بعض الحالات التي تابعتها، ارتبطت على نحو كبير بالغيرة أو الشكوك المتعلقة بعلاقات الزوج خارج إطار العلاقة الزوجية أو السعي للزواج من إمراة أخرى، فأميرة التي حاولت الانتحار حرقا بعد ان اعتقدت أن زوجها يسعى للزواج من إحدى قريباته، خرجت من المستشفى بجسد مشوه وصلت نسبة الحروق فيه الى نحو 66%.
تمايز طبقي
يعتقد الباحث سعد بازياني أن اعتبار الفقر من العوامل الرئيسية لاتساع ظاهرة الانتحار حرقا، هو افتراض “غير موفق” ولا يمكن الركون اليه. فوفقا لإحصائيات وزارة التخطيط هناك معدل فقر لا يتجاوز 3% في مدينتي اربيل والسليمانية، تقابله معدلات فقر تصل الى 49% في محافظة المثنى و40% في ديالى و37% في ميسان و34% في كل من مدينتي الناصرية والبصرة أقصى جنوب العراق.
قياسا الى هذه الأرقام، كما يرى بازياني، يكون من المنطقي أن تنتحر 10 نساء جنوبيات مقابل كل إمراة كردستانية تنتحر حرقا، لكن الواقع يشير الى ان حوادث احتراق متفرقة تحصل خلال العام الواحد في عموم محافظات العراق التي يناهز تعدادها الـ28 مليون مواطن، مقابل نحو 450 حالة انتحار حرقا في كردستان العراق التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين مواطن.
يقدم الباحث بازياني أطروحة جديدة يعتقد أنها تشرح العلاقة بين الاوضاع الاقتصادية وظاهرة الانتحار حرقا، مفادها أن التمايز الطبقي الذي ارتفع بشكل لافت خلال العقد الأخير في كردستان، هو من ساهم في ارتفاع معدلات الانتحار حرقا وليس الفقر الذي بدأ بالانحسار في عموم مدن كردستان بشكل ملحوظ.
يؤيد موظف حكومي انتحرت زوجته حرقا قبل نحو ستة أشهر، ما ذهب اليه الباحث بازياني. كاميران الذي يتسلم راتبا شهريا يناهز المليون دينار (850 دولار)، خسر زوجته كيشان بسبب عجزه حتى بعد ان حصل على عمل ليلي كسائق سيارة أجرة، عن توفير المزيد من المال الذي تنفقه زوجته غالبا في شراء الملابس والكماليات، سعيا منها لمجاراة أخواتها المتزوجات من أشخاص ميسوري الحال يعملون في التجارة إضافة الى عملهم في المؤسسات الحكومية والحزبية.
غسل العار
غالبا ما كانت حوادث الانتحار المرتبطة بقضايا غسل العار تأتي ضمن حديث هامس مع كاتبي التحقيق، لكن وثائق التحقيق تخلو تماما من أي إشارة من هذا النوع.
تشكك الباحثة الاجتماعية سوسن قادر، في أن يكون ارتفاع معدلات الانتحار حرقا مرتبطا بـ”دوافع متعلقة بغسل العار”. فالعائلة الكردستانية كما تقول قادر “لا تتردد في قتل ابنتها اذا ما تورطت بأي قضية تتعلق بالشرف، حتى قبل ان تفكر الفتاة نفسها بالانتحار”.
تورد قادر للدلالة على كلامها قصة فتاة كردية قتلها والدها في إحدى المناطق الواقعة جنوبي مدينة اربيل قبل نحو عامين، بعد ان لمحها وهي تتبادل الإشارات مع أحد أبناء الجيران من فوق سطح المنزل. الأب الذي “هشم” رأس أبنته بقطعة كبيرة من الحجر، لم يتردد في تسليم نفسه للشرطة على أساس ان القضية “قضية شرف”.
أحد المحققين العدليين يقدم فرضية تناقض ما ذهبت اليه قادر، فالكثير من حالات الانتحار حرقا كما يرى المحقق كانت في حقيقتها “عمليات قتل متعلقة بقضايا الشرف” يعمد فيها الجناة الى إخفاء معالم الجريمة بحرق جثة الضحية والادعاء بأنها أحرقت نفسها بنفسها.
المحقق يقول أن لجوء العائلة الى هذه الطريقة سببه سهولة تشديد الأحكام خلال السنوات القليلة الماضية فيما يتعلق بقضايا غسل العار، فضلا عن إمكانية تمرير قصص الانتحار حرقا على السلطات المختصة لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.
في حالات وثقها الباحث سليمان طه، كانت الفتاة المتورطة بقضايا الشرف تجبر من قبل العائلة على حرق بنفسها، كما في حالة الفتاة سهاد التي ارتبطت بعلاقة غير شرعية مع ابن الجيران نتج عنها حالة حمل، فخيرتها والدتها بين ابلاغ إخوتها ليغسلوا عارهم بأيديهم، او ان تنفذ سهاد العملية بيدها هي.
أحرقت سهاد نفسها داخل حمام المنزل، تنفيذا لرغبة والدتها التي سلمتها قنينة النفط الأبيض وعلبة الكبريت بنفسها قبل ان تغادر في زيارة سريعة لمنزل الجيران. الباحث طه الذي وثق هذه القصة عن طريق بعض أقارب الضحية قال ان السلطات ثبتت في محاضرها ان مقتل سهاد هو “احتراق بحادث عرضي”.
لكن مديرة وقف العنف ضد المرأة، كورده عمر، تنفي أن يكون المحققون في قضايا الانتحار حرقا يتعمدون إغفال أي دلائل تشير الى ان الانتحار مرتبط بقضايا الشرف، لكنها تقر بأن الأرقام التي سجلتها المديرية لقضايا غسل العار “انخفضت كثيرا خلال السنوات الماضية مقارنة بحالات الانتحار حرقا التي ارتفعت خلال نفس الفترة”.
الباحث سليمان طه ينصح هنا بالبحث عن تفسير مقنع، للسبب الكامن وراء انخفاض حالات غسل العار مقارنة بارتفاع عدد حالات الانتحار حرقا. ويتساءل ان كان الأمر مرتبطا بتسجيل جرائم “غسل العار” تحت يافطة “الانتحار حرقا”، أم أن الأمر مجرد صدفة.
أمام المحاكم
يقف القضاء عاجزا منذ سنوات، كما يقول الباحث طه، أمام قضايا الانتحار حرقا. سبب هذا كما يقول طه هو ان القضاء يشترط وجود مشتكين للبدء باتخاذ الإجراءات. وفي القضايا التي تكون فيها العائلة هي المتسببة بالجريمة او المتعرضة للأذى الاجتماعي من عرض القضية أمام المحكمة كما في حالات الانتحار حرقا، فسيكون من المستحيل متابعة قضايا شائكة من هذا النوع.
أغلب حالات الانتحار تكون الضحية فيها قد توفيت، او قد تكون تعرضت للتشوه الجسدي ولا يمكنها المجازفة بمصيرها القلق من اجل تقديم قضية سيكون من الصعب ان تربحه أمام المحاكم.
يعزو طه هذا الى ضعف القوانين وسوء تطبيق ما متوفر منها فيما يتعلق بحماية المرأة، في مجتمع محافظ مثل مجتمع كردستان العراق.
لكن المحامي حسن فاروق يثير سؤالا يراه مشروعا، وهو عما يمكن ان يقوم به القضاء في قضايا الانتحار حرقا إذا لم يكن هناك مشتك اصلا؟ يعترف فاروق ايضا بأن إثبات حقيقة وجود ضغوط نفسية تسببت بدفع المجني عليها الى الانتحار، أصعب بكثير من إثبات الأدلة الجرمية في قضايا القتل الجنائي، او قضايا غسل العار التي تنفذ على يد شخص قد لا يتوانى عن الاعتراف علنا بأنه ارتكب الجريمة لغسل عار العائلة.
تموت والحقيقة معها
يقر احد قضاة محكمة مدينة أربيل بصعوبة التعامل مع قضايا الانتحار حرقا، لما تحمله من حساسية عالية في مجتمع محافظ. فغالبا ما تراعي المحكمة مشاعر العائلة والحفاظ على أسرارها لحمايتها من التعرض للاستهانة بها او النظر إليها بصورة سلبية كما هو سائد في المجتمع.
مع هذا، يؤكد القاضي الذي فضل عدم الكشف عن هويته أن القضاة يبذلون أقصى درجات الجدية في تتبع الأدلة والبراهين في حال كان تعاون المشتكين في كشف الحقائق. فلو ذكرت الفتاة التي حاولت الانتحار أن شخصا مارس عليها ضغوطا نفسية او جسدية لدفعها لتنفيذ عملية الانتحار، سيكون في وسع المحكمة أن تطبق المادة 408 من قانون العقوبات العراقي الذي ينص على معاقبة كل من يتسبب او يحرض شخصا على الانتحار، بالسجن من يوم واحد الى سبع سنوات.
عجز حكومي
تقول مديرة وقف العنف ضد المرأة، كورده عمر، أن الجهات الحكومية المختصة بالعنف ضد المرأة، أدت دورا جيدا في التعامل مع ظاهرة الانتحار حرقا من خلال برامج التوعية وافتتاح الدورات التطويرية وعقد المؤتمرات والندوات. وهي الوسائل المتاحة حاليا لمحاولة خفض نسبة الانتحار حرقا.
لكن وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية في كردستان آسوس نجيب تعتقد أن الاقتصار على إقامة الندوات لن يجدي نفعا، في ظل تعرض المرأة للعنف وربما تعرضها للقتل جراء ابسط الأسباب.
تقول نجيب ان وزارتها “جادة في اتخاذ خطوات عملية خلال الفترة القادمة وتقديم مشاريع فعلية تخدم مسيرة المرأة في المجتمع”. دون أن تذكر شيئا عن هذه المشاريع.
لكن جميل شنكالي، وهو ناشط مدني يتابع قضايا الانتحار حرقا منذ سنوات، لا يبدو متفائلا بأي إجراءات تقتصر على إقامة ورش او ندوات عابرة لأنها بالتأكيد “ستكون بعيدة عن جوهر المأساة”.
شنكالي يعتقد ان القوانين المتعلقة بالعنف ضد المرأة ومعها كل الورش والندوات التي تناقش ظاهرة الانتحار حرقا، لا يمكن لها أن تساهم في الحد من الظاهرة اذا بقيت الثقافة العشائرية المحافظة هي الثقافة السائدة في كردستان العراق، وإذا كانت السلطات تتجنب تطبيق القوانين التي تحمي المرأة حرصا على عدم استعداء القوى العشائرية في المجتمع الكردي.
يتوقع الباحثون والناشطون، شيلان دوسكي، سليمان طه، عبد الجبار زيباري، عز الدين حافظ، سعد بازياني، وآخرون بذلوا سنوات من أعمارهم في متابعة ظاهرة الانتحار حرقا، أن الأسباب التي تدفع بالمزيد من القرابين الى “محرقة النساء” ستظل قائمة إذا لم تتحمل الدولة مسؤوليتها في حماية المرأة وتقديم الجناة للعدالة، بدلا من غض طرفها والاكتفاء بتصديق كذبة أن 14 الف فتاة كردية تعرضن للاحتراق خلال الـ20 سنة الماضية نتيجة لـ”حوادث عرضية” ليس أكثر.
خلال تفقدهما ردهات مستشفى أربيل بحثا عن ضحية احتراق جديدة، شاهد كاتبا التحقيق جثة الفتاة المنتحرة نازلين وهي تأخذ طريقها الى مقبرة المدينة، لتصبح رقما جديدا يضاف الى سلسلة قضايا “القضاء والقدر” التي لا تكاد تنتهي في كردستان العراق.
انجز هذا التحقيق من قبل شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وباشراف محمد الربيعي.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17366}" data-page="1" data-max-pages="1">