فاز هذا التحقيق الذي كان باكورة انتاج شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)، وانجزته الصحفية العراقية ميادة داود (ميلاد الجبوري)، بالجائزة الاولى في مسابقة الربيع العربي الذي اقيم على هامش مؤتمر شبكة اريج للصحافة الاستقصائية، كأفضل تحقيق انجز في العالم العربي عام 2011. التحقيق دعمته نيريج وأشرف عليه المشرف العام على الشبكة محمد الربيعي.
تحقيق: ميادة داود
يفترش الشاب أحمد رياض منذ قرابة العام، أرض حديقة الأمة الواقعة في منطقة الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد، بعد خروجه “قسرا” من دار المشردين لتجاوزه السن القانونية. رياض الذي يعتاش الآن على ما يكسبه من بيع قناني المياه النقية قرب ساحة التحرير القريبة من الحديقة، يعتقد أنه أفضل حالا من زميله نبيل عباس الذي خرج من دار المشردين قبله بعام واحد، ويقضي الان حكما بالسجن لثلاثة أعوام بتهمة الانتماء لـ”عصابة سرقة سيارات”.
تحول نبيل عباس من مجرد مشرد الى “لص محترف”، بعد أقل من عامين قضاهما في التشرد بشوارع العاصمة. ولا احد يعرف بالضبط الى ماذا سيتحول حين تنتهي محكوميته ويخرج من السجن.
وربما سيكون مصير أركان محمد الذي أعتقل بعد أشهر قلائل من خروجه القسري من دار المشردين، مشابها لمصير عباس، فهو لم يتمكن حتى الآن من إقناع المحققين بأنه لم يكن ينوي تنفيذ عملية إرهابية حين عثرت عليه الشرطة مختبئا في “براد” مهجور في ساحة للأنقاض شرقي العاصمة، بل كان ينام في المأوى الوحيد الذي حصل عليه بعد خروجه من دار المشردين.
أحمد رياض ونبيل عباس وأركان محمد وآخرون غيرهم، كانوا كلهم ضحايا “تشرد قسري” فرضه إصرار الحكومة العراقية على تطبيق قانون قديم للمشردين قبل نحو 28 عاما، يقضي بعدم السماح لمن تجاوز سن الـ18 عاما بالبقاء في دار المشردين، حتى لو كان مأواه البديل هو شوارع المدن العراقية الملتهبة بالعنف، والتي تصفها بعض التقارير بأنها من اخطر المدن في العالم.
قانون “قديم” لمجتمع متحول
يعرف قانون الاحداث رقم 76 لسنة 1983، “المشرد” بأنه كل حدث لم يتجاوز الـ15 من العمر ويعثر عليه من دون مرافقة ولي أمره وهو يتسول في الاماكن العامة، او يمارس متجولا مهنة مثل صبغ الأحذية او بيع السكائر، او اية مهنة اخرى تعرضه للجنوح. كما اعتبر القانون الحدث “مشردا” اذا لم يكن له محل إقامة معين او اتخذ الأماكن العامة مأوى له ولم تكن له وسيلة مشروعة للعيش، او ترك منزل وليه من دون عذر مشروع.
خبراء قانون، علماء اجتماع وباحثون، جهات رسمية معنية بقضايا المشردين، وجهوا انتقادات لاذعة لقانون المشردين الذي لم يخضع للتعديل منذ 28 عاما، رغم كل ما مر به العراق من حروب ونزاعات وتحولات اقتصادية واجتماعية خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
الباحث الاجتماعي عبد الرزاق سليمان يؤشر حجم العجز الحكومي وما يسميه “غياب الإدراك الحقيقي” لأهمية تعديل قانون دار المشردين “الهزيل” الذي ورثناه من النظام السابق، في المقابل، يعرض سليمان الصورة الواسعة والمأساوية التي انتهى إليها ملف المشردين في العراق أواخر العام 2011.
سليمان يتحدث عن ثلاثة حروب مدمرة خاضها العراق خلال العقود الثلاثة الماضية، تركت أولاها (حرب الخليج الاولى 1980 – 1988) مئات الآلاف من الأيتام والمشردين الذين قتل اباؤهم في الحرب، ولم يحظوا برعاية كافية من أقاربهم او مؤسسات الدولة المنشغلة آنذاك بالحرب حيث “لا صوت يعلو على صوت المعركة”. فيما أودت الثانية (حرب الكويت 1990-1991 وما تبعها من انتفاضات في عدة مدن عراقية) بحياة مئات الآلاف من الجنود العراقيين، وأكثر من 300 الف مدني عراقي اعدمهم النظام السابق وفق ما قدرته المنظمات الدولية، وخلفت مئات الآلاف من اليتامى والمشردين الذين عاصروا مرحلة الانهيار الاقتصادي الكبير في العراق ما بين عامي 1991- 2003 جراء الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة وتسبب في دمار البنى التحتية للاقتصاد العراقي وانتشار الفقر بين أكثر من 90 % من شرائح الشعب العراقي.
ولا ينسى سليمان هنا أن يحتسب حجم الدمار الذي نتج عن حرب الخليج الثالثة التي غزت فيها الولايات المتحدة العراق عام 2003، وما تبعها من عمليات قتل وتشرد وتهجير طائفي وعرقي يعد الأوسع في العالم منذ عام 1948.
ازاء كل هذا، يلخص الباحث ما يحويه ملف التشرد في العراق بأنه “مأساوي” لا يمكن حل تداعياته بقانون جامد مضى عليه قرابة الثلاثة عقود.
أرقام متضاربة
تعترف وزارة التخطيط العراقية بأنها لا تمتلك حتى الآن، أية إحصائيات يمكن من خلالها معرفة العدد الحقيقي للمشردين. ويبرر الناطق باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي غياب هذه الاحصائيات الى التأجيل المتكرر للإحصاء السكاني في العراق على خلفية الصراعات السياسية التي تحيط بملف الإحصاء رغم مرور ثمانية أعوام على سقوط النظام السابق.
آخر تعداد سكاني جرى في العراق كان عام 1997، لكن حتى هذا التعداد لم تكن فيه اي اشارة الى المشردين كما يقول الهنداوي الذي يقر بأن الحصول على اعداد المشردين الحقيقي، هو السبيل الأمثل للشروع بمرحلة اعداد الخطط اللازمة لتأهيلهم وحل مشكلتهم المزمنة.
الهنداوي ينتقد التقارير التي نقلت عن وزارة التخطيط رقما “وهميا ومبالغا فيه” للترويج لاهداف سياسية لا علاقة لها باوضاع المشردين. ويشير في هذا السياق الى التقارير التي نقلت عن الوزارة ان عدد المشردين في العراق وصل الى 500 الف مشرد بعد سقوط النظام السابق، بالإضافة الى أكثر من 5 ملايين يتيم ومثلهم من الأرامل كحصيلة لأحداث ما بعد العام 2003. لكن لا يوجد اي مصادر موثوقة، كما يقول الهنداوي، لهذه الارقام الافتراضية.
الباحث الاجتماعي سلام الاعرجي يستهجن ما يسميه “خرافة الأرقام المليونية” التي تقدمها هذه التقارير، لكنه في ذات الوقت يستهجن بشكل أكبر “سذاجة” الأرقام التي تطرحها المؤسسات الحكومية العراقية، فليس من المعقول كما يقول الاعرجي أن يكون عدد المشردين بضعة مئات فقط في بلد مثل العراق عانى من ثلاثة حروب وحصار اقتصادي طويل وصراع طائفي امتد لسنوات.
الاعرجي يعتقد أن الغياب “غير المبرر” للإحصائيات المتعلقة بالمشردين تجعل من المستحيل حصر المشكلة واتخاذ خطوات لمعالجتها، ويشكك في جدية الحكومة العراقية بإيجاد حلول لظاهرة المشردين إذا كانت جادة فعلا في تصديق ان عدد المشردين لا يتجاوز بضعة مئات.
الأرقام التي طرحتها إدارة الدارين الوحيدين في العراق (دار المشردين ودار المشردات في بغداد)، تؤيد ما ذهب اليه الاعرجي، فلا تضم هذين الدارين رسميا سوى 62 مشردا و 47 مشردة.
ما بين الفرق الشاسع في الأرقام المطروحة (109 مشردين وفق الاحصائيات الرسمية و 500 الف مشرد بحسب بعض التقارير)، يعيش المشردون الحقيقيون في العراق وضعا خطيرا فشلت الدولة العراقية حتى الان في معالجته أو فهمه بشكل صحيح، كما يقول الخبير الاعرجي الذي يطلب من الحكومة أن “تنتظر قليلا لترى كيف سيكون ملف التشرد بوابة عنف واسعة تحيق بمستقبل العراق، إذا لم تتدارك أمرها منذ الآن”.
العنف.. أول الأبواب المشرعة
ما زال الفتى صفاء الذي هربه جنود عراقيون بسيارتهم العسكرية الى العاصمة بغداد بعد مقتل كل أفراد عائلته بقصف امريكي في مدينة الفلوجة، يشعر بالقلق حيال فكرة عودته الى مدينته مجددا والتعرض الى ذات الظروف التي دفعت بوالده واثنين من أعمامه للانضمام الى تنظيم القاعدة.
سيخرج صفاء بعد بضعة شهور من دار المشردين بعد أن أمضى 6 سنوات بين جدرانها، لكنه لا يعرف حتى الآن الى أين سيمضي بعدها.
البقاء في شوارع بغداد المحفوفة بالمخاطر ليس اقل خطرا من العودة الى الفلوجة التي تقاتل فيها ابوه واعمامه مع الكثير من الجماعات المسلحة المتصارعة على النفوذ في المدينة قبل مقتلهم في الغارة الجوية. لكن قانون المشردين سيفرض على صفاء ان يبحث عن طريقه بنفسه.
يعتقد مسؤول بارز في قيادة عمليات بغداد التي تتولى الملف الأمني في العاصمة، أن المشردين ما زالوا يشكلون خطرا بالغا على مجمل الحياة في العراق، خصوصا فيما يتعلق بقضايا العنف المسلح. فهناك عدد كبير من المشردين ثبت ضلوعهم بزرع العبوات الناسفة او وضع عبوات لاصقة تحت سيارات مستهدفة او مراقبة عناصر نقاط التفتيش لمعرفة عدد الجنود المتواجدين في موقع عسكري معين، بعضهم كان يسترق السمع بالقرب من جنود الدوريات بحجة بيع الماء او الحلويات، ثم ينقلون المعلومات التي يحصلون عليها للجماعات المسلحة مقابل مبالغ صغيرة.
المسؤول البارز قال إن قيادة العمليات أصدرت أوامر مشددة بإبعاد المشردين والباعة الصغار من الأماكن القريبة من نقاط التفتيش، لكنه يعتقد أن هذا الإجراء لن يحل المشكلة ما دام هؤلاء “أدوات” يمكن استدراجهم او استغلالهم بكل سهولة من قبل الجماعات المسلحة.
يرفض المسؤول البارز ان يعطي أية أرقام، حتى لو كانت تقريبية، لعدد المشردين الذين التحقوا بالعمل المسلح او شاركوا فيه. لكنه يعترف بأن أكثر من 24 مشردا قتلوا في عمليات تفجير نفذوها بإرادتهم أو نفذت عبر أجسادهم دون علمهم وسط جموع المدنيين.
يروي المسؤول البارز، كيف أن عناصر تنظيم القاعدة كانوا يستغلون حاجة المشردين الصغار للمال من اجل استخدامهم في عمليات تفجير مبتكرة، واحدة من هذه القصص كانت قصة الحمال الصغير “سعيد” الذي طلب منه رجل مجهول نقل بضعة أكياس فاكهة الى سيارته المركونة في طرف السوق، ظل سعيد يومها يبحث عن الرجل المجهول الذي غاب وسط الحشود، وسرعان ما كانت أشلاء سعيد تتطاير مع أجساد عدد من المتبضعين جراء انفجار مادة الـc 4 التي وضعها الرجل المجهول في أكياس الفاكهة وفجرها عن بعد بالريمونت كونترول.
نفس الطريقة أتبعها التنظيم في مناطق أخرى من العراق، ففي اتصالات هاتفية متكررة مع قائد في شرطة محافظة ديالى، حاولت كاتبة التحقيق مقابلة 14 طفلا مشردا تورطوا في تنفيذ عمليات مسلحة مقابل مبالغ صغيرة. قبل وصول كاتبة التحقيق بساعات للقاء الفتية الـ14، نقل هؤلاء الى مراكز حجز جديدة تمهيدا لعرضهم أمام المحكمة.
أحد هؤلاء المشردين الصغار، كما ثبت في محاضر الشرطة، كان قد وضع عبوة لاصقة في سيارة موظف كبير مقابل 20 الف دينار فقط (17 دولار أمريكي) ما تسبب بقطع ساق الموظف وعجز شبه تام في باقي إنحاء جسده.
ضابط التحقيق الذي تولى استجواب المشردين الصغار، ظل محتفظا في ذاكرته بمشهد الفتى الذي انهار وهو يدرك، لأول مرة، أن “الأمانة” التي أوصلها مقابل 10 الاف دينار (7 دولارات)، ستكلفه البقاء في السجن ما لا يقل عن 7 سنوات.
الأمانة التي طلب منه “رجل غريب” إيصالها لصديقه صاحب محل بيع الأقمشة في طرف السوق، كانت عبارة عن عبوة ناسفة موضوعة داخل مغلف من الكارتون سرعان ما انفجرت وتسببت بمقتل صاحب المحل وجرح آخرين كانوا بالقرب منه.
مشردون… وقادة عصابات
في الطرف الآخر من معادلة استغلال المشردين من قبل التنظيمات المسلحة لتنفيذ اعمال عنف، يقف المشردون أنفسهم في صراع مع باقي فئات المجتمع من خلال العصابات التي يشكلونها بعيدا عن أعين السلطات، ويبرعون في قيادتها او الانضواء فيها.
سجلات شرطة بغداد تحفل بعدد كبير من عصابات القتل والابتزاز والسرقة التي كان يقودها مشردون.
أغلب المشردين الذين التقتهم كاتبة التحقيق في سجن الأحداث ببغداد على خلفية انتمائهم لعصابات السرقة والمجاميع المسلحة، ينحدرون من أسر امتهنت الإجرام والسرقة او مارست العنف ودفعت أبناءها للسير في نفس الطريق، آخرون انحرفوا بإرادتهم واختاروا حياة التشرد، لكنهم جميعا كما يرى الباحث في سجن الأحداث ماجد حسام الدين، كانوا ضحية الفقر وانتشار مظاهر الجريمة بشكل واسع منذ تسعينيات القرن الماضي.
أخطر العصابات التي انتشرت في بغداد خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي وصولا الى سقوط النظام السابق في نيسان عام 2003، كما يقول الباحث حسام الدين، كان يحكمها فتيان مشردون يقتلون بعضهم البعض في ممرات المصارف الحكومية والأهلية او أروقة أسواق الذهب التي نهبوها آنذاك.
كثير من هذه العصابات قامت بتصفية بعضها البعض فيما بعد، لكن الذين نجوا من حرب التصفيات الجسدية بين العصابات انخرطوا في الجماعات المسلحة او الميليشيات وأصبحوا أبشع آلة للقتل إبان مرحلة العنف الطائفي التي اندلعت في العراق ما بين عامي 2006- 2008. بحسب الباحث حسام الدين الذي يرى إن كل تحول او مرحلة اضطرابات مر بها العراق خلال السنوات الماضية، كانت تمثل الفرصة الأكثر ملاءمة كي يعاود المشردون الصغار نشاطاتهم الإجرامية.
يتذكر حسام الدين كيف أن أسعار المقصات القادرة على كسر الأقفال الحديدية الكبيرة ارتفعت بشكل كبير حين بدأ الربيع العربي مطلع هذا العام، فقد كانت العصابات التي يقودها المشردون تتحرك علنا بالقرب من محلات الذهب وحتى المصارف بانتظار أي تطورات أمنية على خلفية التظاهرات، ففي العراق غالبا ما تكون أي متغيرات على الساحة هي فرصة تقتنصها عصابات المشردين للانتقام من المجتمع والاستحواذ على كل ما يصلون اليه.
المشردون.. ارخص بضاعة في سوق الاعضاء البشرية
أحصى المحقق في وزارة الداخلية رحيم اللامي، أكثر من 25 حالة اتجار بالأعضاء البشرية كان ضحية 14 منها مشردون تقل أعمارهم عن 18 سنة. الأرقام التي ذكرها اللامي هي فقط ما تمكن من متابعته هو شخصيا خلال العام الماضي فقط.
يقول اللامي إن اغلب هذه الحالات كانت تتعلق ببيع كلى مشردين قامت عصابات منظمة بنقلهم من بغداد ومدن الجنوب الى محافظات أخرى تتواجد فيها مستشفيات متخصصة بإمراض الكلى. لا يكشف اللامي عن المعالجات التي وضعت من قبلهم للحد من هذه الظاهرة، لكنه يقول ان بعض الضحايا الذين باعوا كلاهم كانوا يبررون ما فعلوه بأن خسارة جزء من الجسد مقابل بضعة الاف من الدولارات، أفضل بكثير من خسارة الجسد والروح معا نتيجة الاضطرار للانخراط في العمل الإجرامي الخطر، أو ربما الموت جوعا.
تكلف عملية نقل كلية واحدة كما يقول اللامي، قرابة الـ 25 مليون دينار (22 الف دولار)، تخصم منها أجور الجراحين المتخصصين وتكاليف المستشفى وعمولة الوسطاء، ولا يتبقى منها في النهاية سوى 5 الى 6 مليون دينار فقط (5 الاف دولار) يتسلمها “المتبرع” الذي سرعان ما يعود الى التشرد بعد نفاد المال، ولكن هذه المرة بكلية واحدة.
“رقيق” الشوارع
قريبا من البوابة الزرقاء لدار أو( سجن) المشردات في العاصمة بغداد، كان بضعة رجال يتبادلون الحديث الهامس فيما بينهم قبل ان يسمح لهم بالدخول الى حيث تعيش منذ عامين، قريبتهم المشردة نجاة.
نجاة التي كانت مدار نقاش مطول بين مدير الدار وأقاربها المتشحين بالزي العربي التقليدي، هربت من منزل احد اعمامها لاسباب لم يفصح عنها أحد مسؤولي الدار ولا نجاة نفسها، فالقضية كما قال المسؤول “حساسة جدا وتحمل ابعادا عشائرية أكثر من أي شيء اخر”.
احد أقارب نجاة تبادل معها بضع كلمات قبل ان يمضي مع باقي الرجال الى خارج الدار، تاركا في ادارة الدار تعهدا مكتوبا بالحفاظ عليها إذا وافقت الإدارة على تسليمها له.
لا تختلف قصة نجاة عن قصص الكثير من فتيات الدار، لكن الادارة تحرص على عدم البوح بها حفاظا على الفتيات اللواتي لجأن إليها طلبا للحماية، كما يقول المسؤول الذي بدا غير مطمئن للتعهد الذي تقدم بها أقارب نجاة.
تقول الباحثة حنان مصطفى أن قصص اغلب المشردات تكاد تكون متشابهة، ففي الغالب يكن قد هربن من بيوت أقاربهن وانحدرن الى العاصمة او مراكز المدن نتيجة لتعرضهن الى الإغواء او ممارسة انحرافات سلوكية أو نتيجة الفقر أو التعرض للمعاملة القاسية، وغالبا ما تكون الشبكات المتخصصة بالدعارة بانتظارهن لإقناعهن بممارسة الدعارة او العمل في الملاهي الليلية ثم التخلي عنهن إذا ما القي عليهن القبض وتم إحالتهن الى سجون إصلاح الأحداث او دار المشردات في حال كن في اعمار صغيرة.
الباحثة مصطفى تقول إن مخاطر الانحراف على يد هذه الشبكات تلاحق الفتاة المشردة حتى بعد خروجها من دار المشردات، فحجم الحصانة التي تتلقاها الفتاة في الدار ليست كافية لمنعها من فرصة الحصول على المأوى والحماية والمال مقابل جسدها.
يتحدث المسؤول في دار المشردات هنا عما يسميه الخطوات المتقدمة التي اتخذتها الدوائر المعنية لتحصين المشردات من أي انحراف سلوكي بعد الخروج من الدار، اولها السماح لمن بلغت سن الـ18 بالبقاء اربع سنوات اضافية (حتى سن 22). وهذا الحل المؤقت سيتيح ربما للفتاة أن تحصل على مهنة مناسبة او تنتهي مشكلتها بالزواج، أو على الأقل ستكون في سن 22 أكثر قدرة على مواجهة متطلبات الحياة مما هو عليه الحال في الـ18 من العمر.
إضافة الى كل هذا، كما يقول المسؤول، هناك دورات تطويرية دائمية تقيمها دار المشردات او منظمات مدنية هدفها تعليم المشردات على الخياطة والعمل على أجهزة الحاسوب لاكتساب مهنة تحميهن من العوز والانحراف، اضافة الى تعليمهن القراءة والكتابة واعطاء دروس ثقافية وتربوية عامة من قبل متخصصين.
بخلاف المسؤول، تعتقد الباحثة الاجتماعية نجلاء حسن، أن الدورات التي تعطى للمشردات تكون على الأغلب “روتينية” يتم النظر اليها كـ”إسقاط فرض”، ولا تساهم إلا بشكل محدود في تحسين شخصية بعض المشردات.
خلال سنوات قضتها الباحثة حسن في دار المشردات، لم تصادف “إلا نادرا”، مشردات لديهن مواهب أو استعداد لتغيير سلوكهن. أما الأعم الأغلب، فلم يكن يعرفن سوى قصص التسول والانحراف السلوكي ويقضين اغلب الوقت في تدبير الدسائس لبعضهن البعض والدخول في مشاجرات عنيفة وتبادل الشتائم البذيئة.
قبل مغادرة كاتبة التحقيق أسوار دار المشردات، نشبت معركة عنيفة بالأيدي والحجارة بين عدد من المشردات في الحديقة التي تنتشر فيها بضعة طاولات وأراجيح. وحين سارعت حارسات الدار لفض الاشتباك، بعنف، همست إحدى الباحثات لكاتبة التحقيق، “أغلب فتيات الدار تربين في الشوارع لسنوات واكتسبن أسوأ ما فيه، ونحن نخشى أن تنتقل ثقافة الشارع الى المشردات اللواتي لجأن الى الدار لظروف إنسانية”.
الخوف من الغد
يلخص الباحث الاجتماعي علي الخفاجي الأسباب الرئيسية للتشرد في العراق بـ “الفقر وتفشي البطالة واثار الحروب والتفكك الأسري”، إضافة الى “التهجير القسري الذي شهده العراق خلال النزاعات الطائفية في السنوات الأخيرة”.
في دراسته التي اجراها لعينة من ثلاثين نزيلا في دار المشردين، وجد الخفاجي ان أكثر من نصف المشردين لا يعرفون القراءة والكتابة بالكامل، وأكثر من 60% منهم فقدوا أحد الوالدين، فيما تعاني عوائل 26% منهم من انعدام أي موارد بشكل كامل، وتعيش 56% من أسر هؤلاء المشردين في بيوت مؤجرة من غرفة او غرفتين أو بيوت متهالكة في أحياء الصفيح المنتشرة في أطراف المدن.
الفقر الذي شخصه الخفاجي كسبب رئيسي للتشرد، دفع الفتاة آمال ذات الـ16 عاما الى أن تعود الى دار المشردات ثلاث مرات خلال اقل من عامين، هربا من العيش مع اسرتها الفقيرة التي تمتهن جمع وبيع العبوات الفارغة للمشروبات الغازية.
تقول آمال إن عائلتها التي تسكن في أحد بيوت الصفيح شرقي العاصمة كانت ترغمها في كل مرة تخرج فيها من الدار بكفالة الأهل، على العمل في جمع العبوات الفارغة او التسول، ولهذا كانت تهرب منهم وتلجأ الى دار المشردات حيث لا أحد يطلب منها العمل لكسب لقمة العيش.
“هنا أجد كل ما احتاجه، السرير والطعام ومعاملة أفضل من معاملة عائلتي” تقول آمال التي لم تكن تعير بالا لمستقبلها بعد الخروج من دار المشردات لانها “لن تموت” من الجوع، فهناك دائما “علب فارغة يمكن جمعها”.
على العكس منها، يشعر الفتى المشرد قاسم بالرعب مما ستحمله أيام ما بعد دار المشردين. فقاسم الذي كانت عيناه تدوران في محجريهما بحيرة، وهو يستمع لحوار كاتبة التحقيق مع مدير الدار، لا يتذكر شكل أمه وأبيه، ولا يعرف عن ماضيه شيئا سوى انه وجد تائها في مدينة البصرة الواقعة أقصى جنوب العراق (590 كم جنوب بغداد) وأرسل بأمر قضائي الى دار المشردين قبل سنوات.
لا يعرف مدير دار المشردين كيف ستنتهي قصة قاسم، فالأوضاع خارج أسوار الدار ستكون صعبة حتى بالنسبة لشاب مكتمل البنية، فكيف الحال بالنسبة لشخص مثل قاسم ولد بفك غير منتظم الأسنان لا يسمح له بإغلاق فمه، ويد معوجة، وساق ثقيلة يجرها بصعوبة عند المشي.
ثغرات في القانون
مسؤولو داري المشردين، الخبراء والباحثون الذين شاركوا في هذا التحقيق، قضاة ومحامون، وعدد من ناشطي المجتمع المدني، يعتقدون ان ظاهرة التشرد ستتحول الى المشكلة الأكثر خطورة على مستقبل الاستقرار في العراق، فبعد إغلاق ملفات العنف المرتبطة بالتحولات السياسية السائدة الآن، سيتحول المشردون الى خزين استراتيجي لعصابات الجريمة المنظمة والعصابات العادية على حد سواء.
يجمع هؤلاء على أن البدء بتعديل قانون المشردين ومعالجة ثغراته ينبغي ان لا يتأخر أكثر من هذا، لأنها الخطوة الاولى على الطريق الصحيح في معالجة ظاهرة التشرد. ويحدد الخبير القانوني عبد الوهاب الصائغ جملة من الثغرات التي يعتقد انها “فاضحة” في قانون المشردين في العراق.
أولى هذه الثغرات هو ان مجرد تنفيذ قانون قديم صنع في مرحلة وزمن مختلفين تماما عن الحاضر هو خلل ينبغي تداركه على الفور. فالقانون القديم كان يراعي شكل و”كرامة” السلطة السابقة في العراق أمام العالم الخارجي إبان حرب الثمانينات، أكثر مما يراعي المشردين أنفسهم. ولهذا لم يعد صالحا لأي شيء.
ايضا، يقول الصائغ، إن عدم وضوح مفهوم “المشرد” يجعل الاجراءات الخاصة بإيداع المشردين في الدار خاضعا للاجتهادات وأحيانا لـ”أمزجة القضاة”، إذ أن مفهوم التشرد الموجود حاليا يتيح للسلطات القضائية أن تلقي نصف أطفال العراق في دور المشردين يتهمة التشرد. “الخلط الفاضح” كما يسميه الصائغ يتأتى من أن المشردين في العراق يختلفون عن المشردين في باقي بلدان العالم، فهناك 5 % منهم فقط يفتقدون للعائلة بشكل كامل، فيما يمتلك الآخرون أهلا وأقارب يمكن للقضاء إجبارهم على تولي مسؤولياتهم بشكل صحيح بدلا من القاء كل العبء على كاهل الدولة والمجتمع.
تدعم رئيسة لجنة المرأة والطفولة في البرلمان العراقي سميرة الموسوي، ما يطرحه الصائغ حول سوء تعريف مفهوم “المشرد في العراق”، فهي ترى ان اغلب الموجودين في الشارع ويلاحقون على أنهم مشردون، هم في الحقيقة ينتمون لعائلات موجودة فعلا ولكنها تستخدمهم لكسب الرزق بإشكال متعددة.
تعتقد الموسوي أن على الحكومة أن تطبق برامج خاصة لتحسين الواقع الاقتصادي للشرائح المهمشة في العراق، بدلا من أن تحشر الجميع في خانة المشردين وتضيع على نفسها وعليهم فرصة الحد من الظاهرة.
إحدى قاضيات محكمة الأحداث ردت على الصائغ والموسوي بأن القضاة يدركون تماما حجم التغيير الذي شهده المجتمع العراقي بعد حصار التسعينيات وأحداث ما بعد 2003، لهذا يحرصون أن تكون أحكامهم لمصلحة المتهم بالتشرد، فحالات اليتم والفقر تعامل بشكل خاص، ولا يتم تطبيق القانون إلا على الذين يعملون في الشوارع من دون ذويهم وهم في سن دون الـ15 سنة.
وحتى في هذه الحالة، تضيف قاضية الاحداث التي فضلت عدم الكشف عن هويتها، يكون عامل المرونة قائما في ظل وجود نسبة من الفقر تتجاوز الـ24% في العراق، تدفعنا للتأكد من وضع عائلة المشرد الذي يلقى عليه القبض في الشارع. فربما يكون قد لجأ للعمل فعلا من اجل اعالة عائلته وليس لانه مشرد وفاقد للرعاية تماما.
الثغرة الأكثر خطورة في قانون المشردين كما يشير الباحث صائب العمري، هو إجبار المشردين الذي يبلغون السن القانونية على مغادرة دار المشردين دون ان تكون هذه الدور اصلا قد سلحتهم بمقومات العيش مثل المهنة او التعليم او ايجاد مأوى مناسب يحميهم من الانحراف او الجريمة التي تنتظرهم في الخارج.
لكن المحامي حسن شعبان يجمع بين الثغرات الموجودة في القانون وبين الخلل في التطبيق باعتبارهما “السبب الرئيسي فيما يشهده ملف المشردين من فوضى”.
فالمشردون يفتقدون بعد خروجهم من الدار لرعاية مؤسسات الدولة، ولا يخضعون لأي رقابة. في ذات الوقت الذي تواجههم فيه مشكلة النظرة الدونية التي ينظر بها اليهم افراد المجتمع.
هذه التركيبة المعقدة لاوضاع المشردين خارج اسوار دور الدولة، تجعلهم اداة طيعة بيد التنظيمات المسلحة وعصابات السرقة وحتى لمخاطر الاستغلال من قبل مجموعات او اشخاص منحرفين، كما يعقب المحامي شعبان.
الرعاية اللاحقة… قانون معطل
تعتقد قاضية الاحداث أن الخلل الموجود في القانون، يمكن تلافيه بتعديلات تراعي ما شهدته اوضاع المشردين من تغيرات، لكنها تحيل المشكلة القائمة حاليا الى عجز السلطات عن تطبيق قانون الرعاية اللاحقة بشكل صحيح. فالقانون الذي افرد فقرتين للذين اكملوا السن القانونية ولا يمتلكون مأوى، “معطل تماما، ولا يبدو ان أحدا ما سيتحرك لتفعيله في وقت قريب”.
خصص قانون الرعاية اللاحقة، الفقرتين 104 و105 لمعالجة قضية المشردين الذي لا يملكون مأوى بعد الوصول الى السن القانونية. فالفقرة 104 تنص على تأمين دار لايواء الذين انهوا مدة ايداعهم وليس لهم مأوى يلجأون اليه في الحال، ولمدة لا تزيد على ثلاثة اشهر. فيما نصت المادة 105 على إيداع الحدث في احدى دور الدولة اذا ثبت بعد الاشهر الثلاثة فقدانه للرعاية الأسرية بالكامل.
سبب تعطيل هذا القانون، كما تخمن قاضية الأحداث، هو قلة دور الدولة المخصصة لهذه الشريحة والتي لا تتجاوز دارين فقط يقعان في العاصمة بغداد، أو لأن الظروف الامنية التي تسود في بعض المناطق او اغلاقها “طائفيا” كما في مناطق أخرى، تمنع الباحثين الاجتماعيين من السفر لمتابعة المشردين الذين يكلفون بمتابعتهم بعد خروجهم من دور المشردين.
ويبدو أن فكرة وجود دارين للمشردين في كل العراق هو من أكثر الأسباب “غرابة” كما يرى الخبراء والباحثون، فقياسا الى حجم سكان العراق البالغ نحو 33 مليونا، وقياسا على الاوضاع التي مر بها العراق من حروب ومآس، سيكون التغاضي عن الحاجة الماسة لزيادة عدد الدور الخاصة بالمشردين “كارثة انسانية على الدولة تداركها كي لا تضطر لاحقا الى بناء ثلاثة سجون جديدة مقابل كل دار لم يتم تأسيسها بعد”.
يشير الباحث سليمان الى ان كلفة بناء دار للمشردين الذكور وأخرى للإناث في كل محافظة من محافظات العراق الـ18، قد لا تمثل رقما يذكر قياسا الى ميزانية العراق التي تتجاوز الـ 80 مليار دولار سنويا، مع ميزانية مرتقبة للعام 2012 قد تصل الى 112 مليار دولار.
توفير فرص العمل، بوابة للخلاص من التشرد
المطلب الرئيسي لجميع الذين التقت بهم كاتبة التحقيق من المشردين والمشردات، كان عبارة عن “فرصة عمل شريف”.
يعول المشردون على ان تعمد الحكومة يوما ما الى توظيفهم كي يتمكنوا من الاستقرار بمجرد خروجهم من دور المشردين. يؤيد فكرتهم هذه عدد من الباحثين والمسؤولين الذين التقتهم كاتبة التحقيق، لكن مسؤولا حكوميا بارزا يضع علامة استفهام كبيرة على هذا المقترح، متسائلا عن الحالة التي سيكون عليها العراق في حال لجأت العوائل المفككة أسريا وحتى العوائل العادية، الى تسريح أولادها في الشوارع بانتظار الحصول على “وظيفة حكومية”.
يقترح الباحث سليمان أفكارا اخرى اكثر “ابداعا” كما يسميها تتلاءم مع نوع وحجم قضية المشردين في العراق مثل تطوير قابليات المشردين ودفع اعانات وقتية او فتح مشاريع انتاجية صغيرة تستوعب عددا من المشردين، وتمنحهم القدرة على الاندماج بالمجتمع باعتبارهم فئة “منتجة” وليست “اتكالية”.
قد يساعد هذا كما يقول سليمان، على تحصين المشردين الذين يغادرون الدور الحكومية، من الانحراف الذي ينتظرهم في الخارج. سليمان يعتقد أن البرامج التي يمكن ان تقوم بها الدولة “واسعة جدا”، كل ما يحتاجه الامر شيء من الاهتمام والجدية في معالجة هذا الملف الخطير.
نهايات
يقول باسل الذي خرج من دار المشردين قبل نحو عام، إنه وجد أخيرا ملاذه الأمن حين حصل على عمل بسيط وسكن مشترك مع حارس إحدى عمارات منطقة البياع.
باسل يقول ان وضعه الان أفضل بكثير من رفاقه الذين خرجوا من دار المشردين واضطروا الى النوم في الحدائق او تحت الجسور. لكن ما سكت عنه باسل، كشفه الباحث سليمان الذي تابع حالته منذ دخوله دار المشردين قبل عدة أعوام، فالحارس الذي يعيش باسل معه هو شخص “سيء السمعة” وقد يكون “منحرفا”، وهو ما يثير قلق سليمان من النهاية التي سيصل إليها باسل ومعه مئات المشردين الذين أغفلت السلطات عينها عنهم طوال سنوات.
بعيدا عن المشردين الـ109 الذين يحملون لوحدهم صفة مشرد وفق المؤسسات الرسمية العراقية. يبدو ان ملف المشردين أكثر قتامة كما يراه الباحث سليمان، مما تدركه المؤسسات الحكومية والمنظمات المدنية والعشائرية والدينية في العراق.
يتساءل سليمان عن المعنى الحقيقي لـ”التشرد” وهو يراقب مدن الصفيح التي انتشرت في مناطق العشوائيات الواقعة على أطراف مدينة بغداد. فالمعلومات التي أشارت إليها تقارير نشرت مؤخرا، تفيد بأن أكثر من خمسة ملايين عراقي يعيشون في بيوتات متهالكة وسط مدن الصفيح التي تغيب عنها أي خدمات صحية او تعليمية، وتخرج منها صبيحة كل يوم مجاميع من الأطفال الذين يعملون في جمع العبوات الفارغة أو التسول على مفارق الطرق.
حين عادت كاتبة التحقيق للبحث عن بائع قناني المياه المعبأة، أحمد رياض، ابلغها مشردون جدد انتشروا قرب ساحة التحرير، أنه اختفى منذ أن اعتقلت السلطات كل المشردين الذي كانوا في الساحة قبل نحو شهر، بعد انفجار عبوة ناسفة أودت بحياة أربعة مدنيين وثلاثة من عناصر الشرطة.
أنجز هذا التحقيق من قبل الشبكة الاستقصائية العراقية (نيريج) وباشراف محمد الربيعي.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":17369}" data-page="1" data-max-pages="1">